* أوجه بيان السنة للكتاب :
وإذ قد اتضح لنا من الآية والحديث والآثار مقدار ارتباط السنة بالكتاب ، ارتباط المبيِّن بالمبيِّن فلنبين بعد ذلك أوجه هذا البيان فنقول :
الوجه الأول : بيان المجمل في القرآن، وتوضيح المشكل ، وتخصيص العالم، وتقييد المطلق، فمن الأول: بيانه عليه الصلاة والسلام لمواقيت الصلوات الخمس، وعدد ركعاتها، وكيفيتها، وبيانه لمقادير الزكاة، وأوقاتها ، وأنواعها، وبيانه لمناسك الحج. ولذا قال :" خذوا عني مناسككم" وقال :" صلوا كما رأيتموني أصلي ".
وقد روي ابن المبارك عن عمران بن حصين أنه قال لرجل " إنك رجل أحمق، أتجد الظهر في كتاب الله أربعاً لا يجهر فيها بالقراءة ؟ ثم عدد عليه الصلاة، والزكاة، ونحو ذلك، ثم قال : أتجد هذا في كتاب الله تعالى مفسراً ؟ إن كتاب الله تعالى أبهم هذا ، وإن السنة تفسر هذا"(1).
ومن الثاني : تفسيره r للخيط الأبيض والخيط الأسود في قوله تعالى : " حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ"(2).. بأنه بياض النهار وسواد الليل.
ومن الثالث : تخصيصه r الظلم في قوله تعالى : " الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ"(3)r " ليس بذلك ؛ إنما هو الشرك"... بالشرك، فإن بعض الصحابة فهم أن الظلم مراد منه العموم ، حتى قال : " وأينا لم يظلم نفسه ؟ فقال النبي
ومن الرابع : تقييده اليد في قوله تعالى : " فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا"(4).. باليمين.
الوجه الثاني : بيان معنى لفظ أو متعلقه ، كبيان المغضوب عليهم باليهود ، والضالين بالنصارى . وكبيان قوله تعالى : " وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ "(5) بأنها مطهرة من الحيض والبزاق والنخامة ، وكبيان قوله تعالى " وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ * فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ "(6).. بأنهم دخلوا يزحفون على أستاههم وقالوا : حبة في شعيرة.
الوجه الثالث : بيان أحكام زائدة على ما جاء في القرآن الكريم ، كتحريم نكاح المرأة على عمتها وخالتها ، وصدقة الفطر ، ورجم الزاني المحصن ، وميراث الجدة ، والحكم بشاهد ويمين ، وغير هذا كثير يوجد في كتب الفروع.
الوجه الرابع : بيان النسخ : كأن يبين رسول الله r أن آية كذا نسخت بكذا ، أو أن حكم كذا نسخ بكذا ، فقوله r : " لا وصية لوارث " بيان منه أن آية الوصية للوالدين والأقربين منسوخ حكمها وإن بقيت تلاوتها . وحديث " البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام " بيان منه أيضاً لنسخ حكم الآية (15) من سورة النساء : " وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنكُمْ ".. وغير هذا كثير.
الوجه الخامس : بيان التأكيد ، وذلك بأن تأتي السنة موافقة لما جاء به الكتاب، ويكون القصد من ذلك تأكيد وتقويته، وذلك كقوله عليه الصلاة والسلام " لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه " فإنه يوافق قوله تعالى : " لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ"(1).. وقوله عليه الصلاة والسلام : " اتقوا الله في النساء فإنهن عوان في أيديكم، أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله " فإنه موافق لقوله تعالى : " وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ"(2)..
***
* المصدر الثالث من مصادر التفسير في عصر الصحابة ـ الاجتهاد وقوة الاستنباط :
كان الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين ، إذا لم يجدوا التفسير في كتاب الله تعالى ، ولم يتيسر لهم أخذه عن رسول الله r رجعوا في ذلك إلى اجتهادهم وإعمال رأيهم ، وهذا بالنسبة لما يحتاج إلى نظر واجتهاد، أما ما يمكن فهمه بمجرد معرفة اللغة العربية فكانوا لا يحتاجون في فهمه إلى إعمال النظر، ضرورة أنهم من خلص العرب ، يعرفون كلام العرب ومناحيهم في القول، ويعرفون الألفاظ العربية ومعانيها بالوقوف على ما ورد من ذلك في الشعر الجاهلي الذي هو ديوان العرب ، كما يقول عمر t .
* أدوات الاجتهاد في التفسير عند الصحابة :
وكثير من الصحابة كان يفسر بعض آي القرآن بهذا الطريق، أعني طريق الرأي والاجتهاد ، مستعيناً على ذلك بما يأتي :
أولاً : معرفة أوضاع اللغة وأسرارها.
ثانياً : معرفة عادات العرب.
ثالثاً : معرفة أحوال اليهود والنصارى في جزيرة العرب وقت نزول القرآن.
رابعاً : قوة الفهم وسعة الإدراك.
فمعرفة أوضاع اللغة العربية وأسرارها، تعين على فهم الآيات التي لا يتوقف فهمها على غير لغة العرب. ومعرفة عادات العرب تعين على فهم كثير من الآيات التي لها صلة بعاداتهم، فمثلاُ قوله تعالى :" إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ"(3) وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا"(4).. لا يمكن فهم المراد منه ، إلا لمن عادات العرب في الجاهلية وقت نزول القرآن... وقوله :"
ومعرفة أحوال اليهود والنصارى في جزيرة العرب وقت نزول القرآن، تعين على فهم الآيات التي فيها الإشارة إلى أعمالهم والرد عليهم.
ومعرفة أسباب النزول، وما أحاط بالقرآن من ظروف وملابسات، تعين على فهم كثير من الآيات القرآنية، ولهذا قال الواحدي"لا يمكن معرفة تفسير الآية دون الوقوف على قصتها وبيان نزولها"(1). وقال ابن دقيق العيد :" بيان سبب النزول طريق قوي في فهم معاني القرآن "(2). وقال ابن تيميه :"معرفة سبب النزول يعين على فهم الآية. فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب"(3).
وأما قوة الفهم وسعة الإدراك، فهذا فضل الله يؤتيه من يشاء من عباده. وكثير من آيات القرآن يدق معناه، ويخفي المراد منه ، ولا يظهر إلا لمن أوتي حظاً من الفهم ونور البصيرة، ولقد كان ابن عباس صاحب النصيب الكبر والحظ الأوفر من ذلك ، وهذا ببركة دعاء رسول الله r له بذلك حيث قال : " اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل".
وقد روي البخاري في صحيحه بسنده إلى أبي جحيفة t أنه قال :" قلت لعلي t : هل عندكم شيء من الوحي إلا ما في كتاب الله ؟ قال : لا ، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما أعلمه إلا فهماً يعطيه الله رجلاً في القرآن ، وما في هذه الصحيفة، قلت : وما في هذه الصحيفة ؟ قال : العقل ، وفكاك الأسير ، وإلا يقتل مسلم بكافر "(4).
هذه هي أدوات الفهم والاستنباط التي استعان بها الصحابة على فهم كثير من آيات القرآن ، وهذا هو مبلغ أثرها في الكشف عن غوامضه وأسراره.
***
* تفاوت الصحابة في فهم معاني القرآن :
غير أن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، كانوا متفاوتين في معرفتهم بهذه الأدوات، فلم يكونوا جميعاً في مرتبة واحدة، السبب الذي من أجله اختلفوا في فهم معاني القرآن، وإن كان اختلافاً يسيراً بالنسبة لاختلاف التابعين ومن يليهم. ومن أمثلة هذا الاختلاف : ما روي من أن عمر استعمل قدامة بن مظعون على البحرين فقدم الجارود على عمر فقال : إن قدامة شرب فسكر ، فقال عمر : من يشهد على ما تقول ؟ قال الجارود : أبو هريرة يشهد على ما أقول، فقال عمر : يا قدامة إني جالدك، قال : والله لو شربت كما يقول ما كان لك أن تجلدني ، قال عمر : ولم ؟ قال : لأن الله يقول : "لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ "(1)r بدراً ، وأحداً ، والخندق ، والمشاهد فقال عمر : ألا تردون عليه قوله ؟ فقال ابن عباس : إن هذه الآيات أنزلت عذراً للماضين وحجة على الباقين ؛ لأن الله يقول : "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ"(2).. وقال عمر : صدقت .. ا هـ (3)... فأنا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ثم اتقوا وآمنوا ، ثم اتقوا وأحسنوا، شهدت مع رسول الله
وما روي من أن الصحابة فرحوا حينما نزل قوله تعالى :" الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ"(4)r ، وقد كان مصيباً في ذلك ، إذ لم يعش النبي r بعدها إلا أحداً وثمانين يوماً كما روي"(5)... لظنهم أنها مجرد إخبار وبشرى بكمال الدين ، ولكم عمر بكى وقال : ما بعد الكمال إلا النقص ، مستشعراً نعي النبي
وما رواه البخاري من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : "كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر ، فكأن بعضهم وجد في نفسه وقال : لم يدخل هذا معنا وإن لنا أبناء مثله ؟ فقال عمر : إنه من أعلمكم، فدعاهم ذات يوم فأدخلني معهم فما رأيت أنه دعاني فيهم إلا ليريهم، فقال ما تقولون في قوله تعالى :" إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ "(6)r اعلمه الله له ، قال :" إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ "..، فذلك علامة أجلك " فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً "(7).. فقال عمر : لا أعلم منها إلا ما تقول "(
؟ فقال بعضهم : أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا، وسكت بعضهم ولم يقل شيئاً ، فقال لي : أكذلك تقول يا ابن عباس ؟ فقلت : لا ، فقال ما تقول ؟ قلت : هو أجل رسول الله
***
* المصدر الرابع من مصادر التفسير في هذا العصر ـ أهل الكتاب من اليهود والنصارى :
المصدر الرابع للتفسير في عهد الصحابة هم أهل الكتاب من اليهود والنصارى.
وذلك أن القرآن الكريم يتفق مع التوراة في بعض المسائل، وبالأخص في قصص الأنبياء، وما يتعلق بالأمم الغابرة، وكذلك يشتمل القرآن على مواضع وردت في الإنجيل كقصة ميلاد عيسى ابن مريم، ومعجزاته عليه السلام.
غير أن القرآن الكريم اتخذ منهجاً يخالف منهج التوراة والإنجيل، فلم يتعرض لتفاصيل جزيئات المسائل، ولم يستوف القصة من جميع نواحيها، بل اقتصر من ذلك على موضع العبرة فقط.
ولما كانت العقول دائماً تميل إلى الاستيفاء والاستقصاء، جعل بعض الصحابة ـ رضي الله عنهم أجمعين ـ يرجعون في استيفاء هذه القصص التي لم يتعرض لها القرآن من جميع نواحيها إلى من دخل في دينهم من أهل الكتاب، كعبدالله بن سلام، وكعب الأحبار، وغيرهم من علماء اليهود والنصارى.
وهذا بالضرورة كان بالنسبة إلى ما ليس عندهم فيه شيء عن رسول الله r ، لأنه لو ثبت شيء في ذلك عن رسول الله ما كانوا يعدلون عنه إلى غيره مهما كان المأخوذ عنه.
***
* أهمية هذا المصدر بالنسبة للمصادر السابقة :
غير أن رجوع بعض الصحابة إلى أهل الكتاب، لم يكن له من الأهمية في التفسير ما للمصادر الثلاثة السابقة، وإنما كان مصدراً ضيقاً محدوداً، وذلك أن التوراة والإنجيل وقع فيهما كثير من التحريف والتبديل، وكان طبيعياً أن يحافظ الصحابة على عقيدتهم، ويصونوا القرآن عن أن يخضع في فهم معانيه لشيء مما جاء ذكره في هذه الكتب التي لعبت فيها أيدي المحرفين، فكانوا لا يأخذون عن أهل الكتاب إلا ما يتفق وعقيدتهم ولا يتعارض مع القرآن. أما ما اتضح لهم كذبه مما يعارض القرآن ويتنافى مع العقيدة فكانوا يرفضونه ولا يصدقونه، ووراء هذا وذاك ما هو مسكوت عنه، لا هو من قبيل الأول، ولا هو من قبيل الثاني ، وهذا النوع كانوا يسمعونه من أهل الكتاب ويتوقفون فيه، فلا يحكمون عليه بصدق ولا بكذب، امتثالاً لقول الرسول r : " لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا … الآية".
وسنوفق بمشيئة الله تعالى بين هذا الحديث وحديث : " بلغوا عني ولو آية ، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج …" ونذكر مدى تأثير اليهودية، والنصرانية على التفسير في أدواره المختلفة من لدن عصر الصحابة إلى عصر التدوين، وذلك عند الكلام عن التفسير المأثور إن شاء الله تعالى.
***
الفصل الثاني
المفسرون من الصحابة
اشتهر بالتفسير من الصحابة عدد قليل، قالوا في القرآن بما سمعوه من رسول الله r مباشرة أو بالواسطة، وبما شاهدوه من أسباب النزول، وبما فتح الله به عليهم من طريق الرأي والاجتهاد.
* أشهر المفسرين من الصحابة :
وقد عد السيوطي رحمه الله في الإتقان من اشتهر بالتفسير من الصحابة وسماهم، وهم : الخلفاء الأربعة، وابن مسعود، وابن عباس، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت ، وأبو موسى الأشعري ، وعبدالله بن الزبير ، رضي الله عنهم أجمعين.
وهناك من تكلم في التفسير من الصحابة غير هؤلاء : كأنس بن مالك ، وأبي هريرة ، وعبدالله بن عمر ، وجابر بن عبدالله ، وعبدالله بن عمرو بن العاص، وعائشة ، غير أن ما نقل عنهم في التفسير قليل جداً، ولم يكن لهم من الشهرة بالقول في القرآن ما كان للعشرة المذكورين أولاً ، كما أن العشرة الذين اشتهروا بالتفسير، تفاوتوا قلة وكثرة ، فأبو بكر وعمر وعثمان لم يرد عنهم في التفسير إلا النزر اليسير، ويرجع السبب في ذلك وجودهم في وسط أغلب أهله علماء بكتاب الله ، واقفون على أسراره، عارفون بمعانيه وأحكامه، مكتملة فيهم خصائص العروبة، مما جعل الحاجة إلى الرجوع إليهم في التفسير غير كبيرة.
أما علي بن أبي طالب t، فهو أكثر الخلفاء الراشدين رواية عنه في التفسير، والسبب في ذلك راجع إلى تفرغه عن مهام الخلافة مدة طويلة، دامت إلى نهاية خلافة عثمان t وتأخر وفاته إلى زمن كثرت فيه حاجة الناس إلى من يفسر لهم ما خفي عنهم من معاني القرآن، وذلك ناشئ من اتساع رقعة الإسلام، ودخول كثير من الأعاجم في دين الله ، مما كاد يذهب بخصائص اللغة العربية.
وكذلك كثرت الرواية في التفسير عن عبدالله بن عباس ، وعبدالله ابن مسعود، وأبيَّ بن كعب، لحاجة الناس إليهم، ولصفات عامة مكنت لهم ولعلي بن أبي طالب أيضاً في التفسير، هذه الصفات هي : قوتهم في اللغة العربية، وإحاطتهم بمناحيها وأساليبها ، وعدم تحرجهم من الاجتهاد وتقرير ما وصلوا إليه باجتهادهم، ومخالطتهم للنبي r مخالطة مكنتهم من معرفة الحوادث التي نزلت فيها آيات القرآن، نستثنى من ذلك ابن عباس، فإنه لم يلازم النبي r في شبابه. لوفاة النبي r وهو في سن الثالثة عشرة أو قريب منها ، لكنه استعاض عن ذلك بملازمة كبار الصحابة ، يأخذ عنهم ويروى لهم.
أما باقي العشرة وهم : زيد بن ثابت ، وأبو موسى الأشعري ، وعبدالله ابن الزبير، فهم وإن اشتهروا بالتفسير إلا أنهم قلت عنهم الرواية ولم يصلوا في التفسير إلى ما وصل إليه هؤلاء الأربعة المكثرون.
لهذا نرى الإمساك عن الكلام في شأن أبي بكر، وعمر ، وعثمان، وزيد ابن ثابت، وأبي موسى الأشعري، وعبدالله بن الزبير، ونتكلم عن علي، وابن عباس ، وابن مسعود ، وأبي بن كعب ، نظراً لكثرة الرواية عنهم في التفسير، كثرة غذت مدارس الأمصار على اختلافها وكثرتها.
ولو أنا رتبنا هؤلاء الأربعة حسب كثرة ما روي عنهم لكان أولهم عبدالله بن عباس ، ثم عبدالله بن مسعود ، ثم علي بن أبي طالب ، ثم أبي بن كعب وسنتكلم عن كل واحد من هؤلاء الأربعة ، بما يتناسب مع مشربه في التفسير ومنحاه الذب نحاه فيه.
***
1- عبدالله بن عباس
* ترجمته :
هو عبدالله بن عباس بن عبدالمطلب بن هاشم بن عبد مناف القرشي الهاشمي ، ابن عم رسول الله r ، وأمه لبابة الكبرى بنت الحارث ابن حزن الهلالية. ولد والنبي r وأهل بيته بالشعب بمكة. فأتى به النبي r فحنكه بريقه، وذلك قبل الهجرة بثلاث سنين، ولازم النبي r في صغره؛ لقرابته منه، ولأن خالته ميمونة كانت من أزواج رسول الله r ، وتوفى رسول الله r وله من العمر ثلاث عشرة سنة، وقيل خمس عشرة ، فلازم كبار الصحابة وأخذ عنهم ما فاته من حديث رسول الله r ، وكانت وفاته سنة ثمان وستين على الأرجح ، وله من العمر سبعون سنة .مات بالطائف ودفن بها ، وضعه في قبره محمد ابن الحنفية، وقال بعد أن سوى التراب : مات والله اليوم حبر هذه الأمة.
***
* مبلغه من العلم :
كان ابن عباس يلقب بالحبر والبحر لكثرة علمه، وكان على درجة عظيمة من الاجتهاد والمعرفة بمعاني كتاب الله، ولذا انتهت إليه الرياسة في الفتوى والتفسير، وكان عمر t يجلسه في مجلسه مع كبار الصحابة ويدنيه منه ، وكان يقول له : إنك لأصبح فتياننا وجهاً ، وأحسنهم خلقاً، وأفقههم في كتاب الله. وقال في شأنه : ذاكم فتى الكهول ؛ إن له لساناً سئولاً ، وقلباً عقولاً. وكان لفرط أدبه إذا سأله عمر مع الصحابة عن شيء يقول : لا أتكلم حتى يتكلموا. وكان عمر t يعتد برأي ابن عباس مع حداثة سنه؛ يدلنا على ذلك ما رواه ابن الأثير في كتابه " أسد الغابة " عن عبيد الله بن عبدالله بن عتبة قال :" إن عمر كان إذا جاءته الأقضية المعضلة قال لابن عباس : إنها قد طرأت علينا أقضية وعضل ، فأنت لها ولأمثالها ، فكان يأخذ بقوله، وما كان يدعو لذلك أحداً سواه" قال عبيد الله : وعمر هو عمر في حذقه واجتهاده لله وللمسلمين، وما رواه البخاري من طريق سعيد ابن جبير عن ابن عباس قال "كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر ، فكأن بعضهم وجد في نفسه وقال : لم يدخل هذا معنا وإن لنا أبناء مثله ؟ فقال عمر : إنه من أعلمكم ، فدعاهم ذات يوم فأدخلني معهم فما رأيت أنه دعاني فيهم إلا ليريهم، فقال ما تقولون في قوله تعالى :" إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ " ؟ فقال بعضهم : أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا، وسكت بعضهم ولم يقل شيئاً ، فقال لي : أكذلك تقول يا ابن عباس ؟ فقلت : لا ، فقال ما تقول ؟ قلت : هو أجل رسول الله r اعلمه الله له ، قال :" إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ "..، فذلك علامة أجلك " فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً " فقال عمر : لا أعلم منها إلا ما تقول " اهـ . وهذا يدل على قوة فهمه وجودة فكره. وقال فيه ابن مسعود t :" نعم ترجمان القرآن ابن عباس". وقال فيه عطاء " ما رأيت أكرم من مجلس ابن عباس، أصحاب الفقه عنده، وأصحاب القرآن عنده وأصحاب الشعر عنده، يصدرهم كلهم من واد واسع". وقال عبيد الله ابن عبدالله بن عتبة : " كان ابن عباس قد فات الناس بخصال : بعلم ما سبقه وفقه فيما احتيج إليه من رأيه، وحلم ونسب، وتأويل، وما رأيت أحداً كان أعلم بما سبقه من حديث رسول الله r منه ، ولا بقضاء أبي بكر وعمر وعثمان منه ، ولا أفقه في رأي منه ولا أثقب رأياً فيما احتيج إليه منه، ولقد كان يجلس يوماً ولا يذكر فيه إلا الفقه ، ويوماً التأويل، ويوماً المغازي، ويوماً الشعر، ويوماً أيام العرب، ولا رأيت عالماً قط جلس إليه إلا خضع له، وما رأيت سائلاً قط سأله إلا وجد عنده علماً". وقيل لطاووس : لزمت هذا الغلام ـ يعني ابن عباس ـ وتركت الأكابر من أصحاب رسول الله r ، قال : إني رأيت سبعين رجلاً من أصحاب رسول الله r إذا تدارءوا في أمر صاروا إلى قول ابن عباس ". وروي الأعمش عن أبي وائل قال : " استخلف علي عبدالله ابن عباس على الموسم فقرأ في خطبته سورة البقرة ـ وفي رواية سورة النور ـ ففسرها تفسيراً لو سمعته الروم والترك والديلم لأسلموا" وكان علي بن أبي طالب يثني على تفسير ابن عباس ويقول : " كأنما ينظر إلى الغيب من ستر رقيق".
وبالجملة ، فقد كانت حياة ابن عباس حياة علمية، يتعلم ويعلم، ولم يشتغل بالإمارة إلا قليلاً لما استعمله عليَّ على البصرة، والحق: أن ابن عباس قد ظهر فيه النبوغ العربي بأكمل معانيه. علماً، وفصاحة، وسعة اطلاع في نواح علمية مختلفة، لاسيما فهمه لكتاب الله تعالى. وخير ما يقال فيه ما قاله ابن عمر t :" ابن عباس أعلم أمة محمد بما نزل على محمد"(1).
***
* أسباب نبوغه :
ونستطيع أن نرجع هذه الشهرة العلمية؛ وهذا النبوغ الواسع الفياض، إلى أسباب نجملها فيما يلي :
أولاً : دعاء النبي r له بقوله : "اللهم علمه الكتاب والحكمة"، وفي رواية أخرى " اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل"؛ والذي يرجع إلى كتب التفسير بالمأثور ، يرى أثر هذه الدعوة النبوية، يتجلى واضحاً فيما صح عن ابن عباس t.
ثانياً : نشأته في بيت النبوة، وملازمته لرسول الله r من عهد التمييز؛ فكان يسمع منه الشيء الكثير، ويشهد كثيراً من الحوادث والظروف التي نزلت فيها بعض آيات القرآن.
ثالثاً : ملازمته لأكابر الصحابة بعد وفاة النبي r، يأخذ عنهم ويروي لهم، ويعرف منهم مواطن نزول القرآن، وتواريخ التشريع وأسباب النزول، وبهذا استعاض عما فاته من العلم بموت رسول الله r ، وتحدث بهذا ابن عباس عن نفسه فقال " وجدت عامة حديث رسول الله r عند الأنصار، فإن كنت لآتي الرجل فأجده نائماً ، لو شئت أن يوقظ لي لأوقظ؛ فأجلس على بابه تسفي على وجهي الريح حتى يستيقظ متى ما استيقظ، وأسأله عما أريد، ثم أنصرف".
رابعاً: حفظه للغة العربية، ومعرفته لغريبها، وآدابها، وخصائصها، وأساليبها؛ وكثيراً ما كان يستشهد للمعنى الذي يفهمه من لفظ القرآن بالبيت والأكثر من الشعر العربي.
خامساً : بلوغه مرتبة الاجتهاد، وعدم تحرجه منه، وشجاعته، في بيان ما يعتقد أنه الحق، دون أن يأبه لملامة لائم ونقد ناقد ، ما دام يثق بأن الحق في جانبه، وكثيراً ما انتقد عليه ابن عمر جرأته على تفسير القرآن، ولكن لم ترق إليه همة نقده، بل ما لبث أن رجع إلى قوله، واعترف بمبلغ علمه: فقد روي أن رجلاً أتى ابن عمر يسأله عن معنى قوله تعالى:" أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا"(2).. فقال: اذهب إلى ابن عباس ثم تعال أخبرني، فذهب فسأله فقال : كانت السموات رتقاً لا تمطر، وكانت الأرض رتقاً لا تنبت، ففتق هذه بالمطر، وهذه بالنبات، فرجع الرجل إلى ابن عمر فأخبره فقال :قد كنت أقول : ما يعجبني جرأة ابن عباس على تفسير القرآن. فالآن قد علمت أنه أوتي علماً.
هذه هي أهم الأسباب التي ترجع إليها شهرة ابن عباس في التفسير، يضاف إلى ذلك كونه من أهل بيت النبوة، منبع الهداية. ومصدر النور، وما وهبه الله من قريحة وقادة، وعقل راجح، ورأي صائب، وإيمان راسخ، ودين متين.
***
* قيمة ابن عباس في تفسير القرآن :
تتبين قيمة ابن عباس في التفسير، من قول تلميذه مجاهد : " إنه إذا فسر الشيء رأيت عليه النور" ، ومن قول علي t يثني عليه في تفسيره:" كأنما ينظر إلى الغيب من ستر رقيق"، ومن قول ابن عمر: "ابن عباس أعلم أمة محمد بما نزل على محمد"، ومن رجوع بعض الصحابة وكثير من التابعين إليه في فهم ما أشكل عليهم من كتاب الله، فكثيراً ما توجه إليه معاصروه ليزيل شكوكهم، ويكشف لهم عما عز عليهم فهمه من كتاب الله تعالى. ففي قصة موسى مع شعيب أشكل على بعض أهل العلم، أي الأجلين قضى موسى؟ هل كان ثمان سنين ؟ أو أنه أتم عشراً؟ ولما لم يقف على رأي يمم شطر ابن عباس ، الذي هو بحق ترجمان القرآن، ليسأله عما أشكل عليه، وفي هذا يروي الطبري في تفسيره، عن سعيد بن جبير قال : " قال يهودي بالكوفة ـ وأنا أتجهز للحج ـ إني أراك رجلاً تتبع العلم، فأخبرني أي الأجلين قضى موسى ؟ قلت : لا أعلم، وأنا الآن قادم على حبر العرب ـ يعني ابن عباس ـ فسائله عن ذلك، فلما قدمت مكة سألت ابن عباس عن ذلك وأخبرته بقول اليهودي، فقال ابن عباس قضى أكثرهما وأطيبهما؛ إن النبي إذا وعد لم يخلف، وقال سعيد : فقدمت العراق فلقيت اليهودي فأخبرته فقال : صدق وما أنزل على موسى ، هذا والله العالم ا هـ(1).
وهذا عمر t يسأل الصحابة عن معنى آية من كتاب الله، فلما لم يجد عندهم جواباً مرضياً رجع إلى ابن عباس فسأله عنها ، وكان يثق بتفسيره، وفي هذا يروي الطبري:" أن عمر سأل الناس عن هذه الآية، يعني :" أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ " .. الآية(2).. فما وجد أحداً يشفيه، حتى قال ابن عباس وهو خلفه: يا أمير المؤمنين.. إني أجد في نفسي منها شيئاً، فتلفت إليه فقال: تحول ههنا، لم تحقر نفسك ؟ قال : هذا مثل ضربه الله عز وجل فقال : أيود أحدكم أن يعمل عمره بعمل أهل الخير وأهل السعادة، حتى إذا كان أحوج ما يكون إلى أن يختمه بخير حين فنى عمره واقترب أجله ، ختم ذلك بعمل من عمل أهل الشقاء فأفسده كله، فحرقه أحوج ما كان إليه" ا هـ(1).
وسؤال عمر له مع الصحابة عن تفسير قوله تعالى : " إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ " وجوابه بالجواب المشهور عنه، يدل على أن ابن عباس كان يستخرج خفي المعاني التي يشير إليها القرآن، ولا يدركها إلا من نفحه الله بنفحة من روحه، وكثيراً ما ظهر ابن عباس في المسائل المعقدة في التفسير بمظهر الرجل الملهم الذي ينظر إلى الغيب من ستر رقيق، كما وصفه علي t، الأمر الذي جعل الصحابة يقدرون ابن عباس ويثقون بتفسيره، ولقد وجد هذا التقدير صداه في عصر التابعين، فكانت هناك مدرسة يتلقى تلاميذها التفسير عن ابن عباس. استقرت هذه المدرسة بمكة، ثم غذت بعلمها الأمصار المختلفة، وما زال تفسير ابن عباس يلقي من المسلمين إعجاباً وتقديراً، إلى درجة أنه إذا صح النقل عن ابن عباس لا يكادون يعدلون عن قوله إلى قول آخر ،صرح الزركشي بأن قول ابن عباس مقدم على قول غيره من الصحابة عند تعارض ما جاء عنهم في التفسير(2).
***
* رجوع ابن عباس إلى أهل الكتاب :
كان ابن عباس كغيره من الصحابة الذين اشتهروا بالتفسير، يرجعون في فهم معاني القرآن إلى ما سمعوه من رسول الله r، وإلى ما يفتح الله به عليهم من طريق النظر والاجتهاد، مع الاستعانة في ذلك بمعرفة أسباب النزول والظروف والملابسات التي نزل فيها القرآن. وكان t يرجع إلى أهل الكتاب ويأخذ عنهم، بحكم اتفاق القرآن مع التوراة والإنجيل في كثير من المواضع التي أجملت في القرآن وفصلت في التوراة أو الإنجيل، ولكن كما قلنا فيما سبق إن الرجوع إلى أهل الكتاب كان في دائرة محدودة ضيقة، تتفق مع القرآن وتشهد له، أما ما عدا ذلك مما يتنافى مع القرآن، ولا يتفق مع الشريعة الإسلامية، فكان ابن عباس لا يقبله ولا يأخذ به.
***
2- عبدالله بن مسعود
* ترجمته :
هو عبدالله بن مسعود بن غافل، يصل نسبه إلى مضر، ويكنى بأبي عبدالرحمن الهذلي، وأمه أم عبد بنت عبدود، من هذيل، وكان ينسب إليها أحياناً فيقال ابن أم عبد. كان رحمه الله خفيف اللحم قصيراً، شديد الأدمة، أسلم قديماً. روى الأعمش، عن القاسم بن عبدالرحمن، عن أبيه قال :قال عبدالله ـ يعني ابن مسعود ـ" لقد رأيتني سادس ستة ما على ظهر الأرض مسلم غيرنا" وهو أول من جهر بالقرآن بمكة وأسمعه قريشاَ بعد رسول الله r، وأوذي في الله من أجل ذلك، ولما أسلم عبدالله بن مسعود أخذه رسول الله r إليه فكان يخدمه في أكثر شئونه، وهو صاحب طهوره وسواكه ونعله، يلبسه إياه إذا قام، ويخلعه ويحمله في ذراعه إذا جلس ، ويمشي أمامه إذا سار، ويستره إذا اغتسل، ويوقظه إذا نام، ويلج عليه داره بلا حجاب، حتى لقد ظنه أبو موسى الأشعري t من أهل بيت رسول الله r ، ففي البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري t قال : " قدمت أنا وأخي من اليمن فمكثنا حيناً لا نرى ابن مسعود وأمه إلا من أهل بيت رسول الله r؛ لما نرى من كثرة دخوله ودخول أمه على رسول الله r ولزومه له". وهاجر إلى الحبشة، ثم إلى المدينة ، وصلى إلى القبلتين
، وشهد بدراً ، وأحداً ، والخندق ، وبيعة الرضوان ، وسائر المشاهد مع رسول الله r ، وشهد اليرموك بعد وفاة رسول الله r. وهو الذي أجهز على أبي جهل يوم بدر، وقد شهد له رسول الله r بالجنة وشهد له بالفضل وعلو المنزلة؛ يدل على ذلك ما أخرجه الإمام أحمد في مسنده عن علي قال : قال رسول الله r : " لو كنت مؤمراً أحداً دون مشورة المؤمنين لأمرت ابن أم عبد". وقد ولي بيت المال بالكوفة لعمر وعثمان، وقدم المدينة في آخر عمره ، ومات بها سنة اثنتين وثلاثين، ودفن بالبقيع ليلاً ، تنفيذاً لوصيته بذلك ، وكان عمره يوم وفاته، بضعاً وستين سنة .
***
* مبلغه من العلم :
كان ابن مسعود من أحفظ الصحابة لكتاب الله، وكان رسول الله r يحب أن يسمع منه القرآن ، وقد أخبر هو بنفسه عن ذلك فقال : قال لي رسول الله r : اقرأ علي سورة النساء، قال : قلت: اقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال : إني أحب أن أسمعه من غيري، فقرأت عليه حتى بلغت :" فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاء شَهِيداً "(1)r. وكان رسول الله r يقول:" من سره أن يقرأ القرآن رطباً كما أنزل ، فليقرأه على قراءة ابن أم عبد". وكان ابن مسعود يعرف ذلك من نفسه ويعتز به ، حتى إنه كره لزيد بن ثابت نسخ المصاحف في عهد عثمان، وكان يرى أنه أولى منه بذلك، وقد قال في هذا :" يا معشر المسلمين .. أعزل عن نسخ المصاحف ويتولاه رجل والله لقد أسلمت وإنه لفي صلب رجل كافر"؟ يريد زيد بن ثابت. وعن مسروق أنه قال :" انتهى علم أصحاب رسول الله r إلى ستة: عمر ، وعلي ، وعبدالله بن مسعود، وأبي بن كعب ، وأبي الدرداء، وزيد بن ثابت، ثم انتهى علو هؤلاء الستة إلى رجلين : علي ، وعبدالله" وقيل لحذيفة:أخبرنا برجل قريب السمت والدل والهدى من رسول الله r نأخذ عنه، فقال: " لا نعلم أحداً أقرب سمتاً ولا هدياً برسول الله r من ابن أم عبد، ولقد علم المحفوظون من أصحاب محمد r ، أن ابن أم عبد أقربهم إلى الله وسيلة". ولما سيره عمر t إلى الكوفة كتب إلى أهلها:" إني قد بعثت عمار بن ياسر أميراً ، وعبدالله بن مسعود معلماً ووزيراً، وهما من النجباء من أصحاب رسول الله r من أهل بدر فاقتدوا بهما، وأطيعوا واسمعوا قولهما، وقد آثرتكم بعبدالله على نفسي"... فاضت عيناه
وقد أقام t بالكوفة يأخذ عنه أهلها الحديث والتفسير والفقه، وهو معلمهم وقاضيهم ، ومؤسس طريقتهم في الاعتداد بالرأي حيث لا يوجد النص، ولما قدم على الكوفة، حضر عنده قوم وذكروا له بعض قول عبدالله وقالوا : يا أمير المؤمنين ما رأينا رجلاً أحسن خلقاً، ولا أرفق تعليماً، ولا أحسن مجالسة، ولا أشد ورعاً من ابن مسعود، قال علي :" أنشدكم الله أهو الصدق من قلوبكم "؟ قالوا : نعم، قال : " اللهم اشهد إني أقول مثل ما قالوا وأفضل".
ومن هذا كله يتبين لنا مكانة ابن مسعود t في العلم، ومنزلته بين إخوانه من الصحابة، فالكل يشهد له ويقدمه على غيره، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء من عباده(2).
***
* قيمة ابن مسعود في التفسير :
روى ابن جرير وغيره عن ابن مسعود أنه قال :" كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن"، ومن هذا الأثر يتضح لنا مقدار حرص ابن مسعود على تفهم كتاب الله تعالى والوقوف على معانيه ، وعن مسروق قال : " قال عبدالله ـ يعني ابن مسعود ـ والذي لا إله غيره ما نزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيم نزلت وأين نزلت، ولو أعلم مكان أحد أعلم بكتاب الله مني تناولته المطايا لأتيته"، وهذا الأثر يدل على إحاطة ابن مسعود بمعاني كتاب الله، وأسباب نزول الآيات، وحرصه على تعرف ما عند غيره من العلم بكتاب الله تعالى ولو لقى عنتاً ومشقة، وقال مسروق: كان عبدالله يقرأ علينا السورة ثم يحدثنا فيها ويفسرها عامة النهار، وروى أبو نعيم في الحلية عن أبي البحتري قال : قالوا لعلي: أخبرنا عن ابن مسعود، قال: علم القرآن والسنة ثم انتهى، وكفى بذلك علماً، وقال عقبة ابن عامر : ما أدري أحداً أعلم بما نزل على محمد من عبدالله، فقال أبو موسى: إن تقل ذلك، فإنه كان يسمع حين لا نسمع، ويدخل حين لا ندخل، وصح عن ابن مسعود أنه قال : أخذت من في رسول الله r سبعين سورة، وقال أبو وائل : لما حرق عثمان المصاحف بلغ ذلك عبدالله فقال: لقد علم أصحاب محمد إني أعلمهم بكتاب الله وما أنا بخيرهم، ولو أني أعلم أن أحداً أعلم بكتاب الله مني تبلغه الإبل لأتيته، قال أبو وائل: فقمت إلى الحلق أسمع ما يقولون، فما سمعت أحداً من أصحاب محمد ينكر ذلك عليه… وغير هذا كثير من الآثار التي تشهد لمنزلة ابن مسعود العالية في التفسير، وإذا كان ابن مسعود يعلم هذا من نفسه ويتحدث به، فإن أصحاب رسول الله r لم ينكروا عليه ذلك، بل وتحدثوا بمكانته في العلم، ومقدار فهمه لكتاب الله، وعلل ذلك أبو موسى الأشعري t؛ بأنه كان يسمع حين لا يتيسر لهم السماع، ويدخل حين لا يؤذن لهم بالدخول، الأمر الذي جعله أوفر حظاً في الأخذ عن الرسول r، وأعظم نصيباً من الاغتراف من منهل النبوة الفياض ، ولئن صح عن أبي الدرداء أنه قال بعد موت ابن مسعود: ما ترك بعده مثله، لهي شهادة منه على مقدار علمه، وسمو مكانته بين أصحاب رسول الله r، وبالجملة فابن مسعود كما قيل: أعلم الصحابة بكتاب الله تعالى، وأعرفهم بمحكمه ومتشابهه وحلاله وحرامه ، وقصصه وأمثاله ، وأسباب نزوله، قرأ القرآن فأحل حلاله وحرم حرامه، فقيه في الدين، عالم بالسنة، بصير بكتاب الله.
***
* الرواية عن ابن مسعود ومبلغها من الصحة :
ابن مسعود أكثر من روى عنه في التفسير من الصحابة بعد ابن عباسt ، قال السيوطي في الإتقان : وأما ابن مسعود فقد روى عنه أكثر مما روي عن علي(1)، وقد حمل علم ابن مسعود في التفسير أهل الكوفة نظراً لوجوده بينهم، يجلس إليهم فيأخذون عنه ويروون له، فمن رواته مسروق بن الأجدع الهمداني، وعلقمة بن قيس النخعي ، والأسود ابن يزيد، وغيرهم من علماء الكوفة الذين تتلمذوا له ورووا عنه. وسيأتي الكلام على هؤلاء جميعاً ـ إن شاء الله تعالى ـ عند الكلام عن التفسير في عصر التابعين، وقد وردت أسانيد كثيرة تنتهي إلى ابن مسعود، نجدها مبثوثة في كتب التفسير بالمأثور وكتب الحديث ، ومن هذه الروايات ما يمكن الاعتماد عليه والثقة به ، ومنها ما يعتريه الضعف في رجاله، أو الانقطاع في إسناده،وقد تتبع العلماء النقاد هذه الروايات ، كما تتبعوا غيرها بالنقد تجريحاً وتعديلاً وهذه هي أشهر الطرق عن ابن مسعود.
أولاً : طريق الأعمش ، عن أبي الضحى، عن مسروق ، عن ابن مسعود . وهذه الطريق من أصح الطرق وأسلمها ، وقد اعتمد عليها البخاري في صحيحه.
ثانياُ : طريق مجاهد، عن أبي معمر ، عن ابن مسعود ، وهذه أيضاً طريق صحيحة لا يعتريها الضعف. وقد اعتمد عليها البخاري في صحيحه أيضاً.
ثالثاً : طريق الأعمش ، عن أبي وائل ، عن ابن مسعود ، وهذه أيضاً طريق صحيحة يخرج البخاري منها ، وكفى بتخريج البخاري شاهداً على صحتها وصحة ما سبق.
رابعاً : طريق السدي الكبير ، عن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود . وهذه الطريق يخرج منها الحاكم في مستدركه، ويصحح ما يخرجه. وابن جرير يخرج منها في تفسيره كثيراً ، وقد علمت فيما مضى قيمة السدي الكبير في باب الرواية.
خامساً : طريق أبي روق ، عن الضحاك، عن ابن مسعود. وابن جرير يخرج منها في تفسيره أيضاً. وهذه الطريق غير مرضية؛ لأن الضحاك لم يلق ابن مسعود فهي طريق منقطعة.
***
3- علي بن أبي طالب
* ترجمته :
هو أبو الحسن، علي بن أبي طالب، بن عبد المطلب، القرشي الهاشمي، ابن عم رسول الله r، وصهره على ابنته فاطمة، وذريته r منهما. أمه فاطمة بنت أسد بن هاشم. وهو أول هاشمي ولد من هاشميين، ورابع الخلفاء الراشدين، وأول خليفة من بني هاشم، وهو أول من أسلم من الأحداث وصدق برسول الله r . هاجر إلى المدينة. وموقفه من الهجرة مشهور، قيل ونزل فيه قوله تعالى:" وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ "(1)r خلفه على أهله، وله في الجميع بلاء عظيم ومواقف مشهورة، وقد أعطاه الرسول r اللواء في مواطن كثيرة ، وقال يوم خيبر :" لأعطين الراية رجلاً يفتح الله على يديه ، يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله"، ثم أعطاها لعلي t ، وأخاه رسول الله r لما آخى بين أصحابه وقال له :" أنت أخي في الدنيا والآخرة " وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، اجتمع فيه من الفضائل ما لم يحظ به غيره، فمن ورع في الدين، إلى زهد في الدنيا ، إلى قرابة وصهر برسول الله r ، إلى علم جم وفضل غزير ، وقد توفى رحمه الله في رمضان سنة أربعين من الهجرة ، مقتولاً بيد عبدالرحمن بن ملجم الخارجي ، وعمره ثلاث وستون سنة ، وقيل غير ذلك... وقد شهد عليّ المشاهد كلها إلا تبوك؛ فإن رسول الله
***
* مبلغه من العلم :
كان t بحراً في العلم ، وكان قوي الحجة ، سليم الاستنباط ، أوتي الحظ الأوفر من الفصاحة والخطابة والشعر، وكان ذا عقل قضائي ناضج ، وبصيرة إلى بواطن الأمور ، وكثيراً ما كان يرجع إليه الصحابة في فهم ما خفي واستجلاء ما أشكل، وقد ولاه رسول الله r قضاء اليمن ، ودعا له بقوله : " اللهم ثبت لسانه واهد قلبه " فكان موفقاً ومسدداً، فيصلاً في المعضلات، حتى ضرب به المثل فقيل:" قضية ولا أبا الحسن لها"، ولا عجب، فقد تربى في بيت النبوة، وتغذى بلبان معارفها، وعمته مشكاة أنوارها. روى علقمة عن ابن مسعود قال: كنا نتحدث أن أقضى أهل المدينة علي بن أبي طالب . وقيل لعطاء : أكان في أصحاب محمد أعلم من علي ؟ قال : لا، والله لا أعلمه، وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال :" إذا ثبت لنا الشيء عن علي لم نعدل عنه إلى غيره".
والذي يرجع إلى أقضية علي t وخطبه ووصاياه، يرى أنه قد وهب عقلاً ناضجاً ، وبصيرة نافذة، وحظاً وافراً من العلم وقوة البيان (1).
***
* مكانته في التفسير :
جمع علي t إلى مهارته في القضاء والفتوى، علمه بكتاب الله ، وفهمه لأسراره وخفي معانيه، فكان أعلم الصحابة بمواقع التنزيل ومعرفة التأويل، وقد روى عن ابن عباس أنه قال :" ما أخذت من تفسير القرآن فعن علي بن أبي طالب"، وأخرج أبو نعيم في الحلية عن علي t أنه قال : " والله ما نزلت آية إلا وقد علمت فيم نزلت، وأين نزلت، وإن ربي وهب لي قلباً عقولاً، ولساناً سئولاً". وعن أبي الطفيل قال : " شهدت علياً يخطب وهو يقول : سلوني، فوالله لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم، وسلوني عن كتاب الله ، فوالله ما من آية إلا وأنا اعلم أبليل نزلت أم بنهار، أم في سهل، أم في جبل". وأخرج أبو نعيم في الحلية عن ابن مسعود قال :" إن القرآن أنزل على سبعة أحرف، ما منها حرف، إلا وله ظهر وبطن، وإن علي بن أبي طالب عنده منه الظاهر والباطن". وغير هذا كثير من الآثار التي تشهد له بأنه كان صدر المفسرين والمؤيد فيهم.
***
* الرواية عن علي ومبلغها من الصحة :
كثرت الرواية في التفسير عن علي t ، كثرة جاوزت الحد ، الأمر الذي لفت أنظار العلماء النقاد، وجعلهم يتتبعون الرواية عنه ، بالبحث، والتحقيق؛ ليميزوا ما صح من غيره.
وما صح عن علي في التفسير قليل بالنسبة لما وضع عليه، ويرجع ذلك إلى غلاة الشيعة، الذين أسرفوا في حبه فاختلقوا عليه ما هو برئ منه، إما ترويجاً لمذهبهم وتدعيماً له ، وإما لظنهم الفاسد، أن الإغراق في نسبة الأقوال العلمية إليه يعلي من قدره، ويرفع من شأنه العلمي. وأظن أن ما نسب إلى علي من قوله : " لو شئت أو أوقر سبعين بعيراً من تفسير أم القرآن لفعلت" لا أصل له ، اللهم إلا في أوهام الشيعة، الذين يغالون في حبه، ويتجاوزون الحد في مدحه. ثم هناك ناحية أخرى أغرت الوضاع بالكذب عليه، تلك الناحية هي نسبته إلى بيت النبوة، ولا شك أن هذه الناحية، تكسب الموضوع قبولاً، وتعطيه رواجاً وذيوعاً على ألسن الناس والحق أن كثرة الوضع على علي t أفسدت الكثير من علمه، ومن أجل ذلك لم يعتمد أصحاب الصحيح فيما يرونه عنه إلا على ما كان من طريق الإثبات من أهل بيته ، أو من أصحاب ابن مسعود ، كعبيدة السلماني وشريح، وغيرهما. وهذه أهم الطرق عن علي في التفسير :
أولاً : طريق هشام ، عن محمد بن سيرين ، عن عبيدة السلماني ، عن علي . طريق صحيحة، يخرج منها البخاري وغيره.
ثانياً : طريق ابن أبي الحسين ، عن أبي الطفيل ، عن علي . وهذه طريق صحيحة، يخرج منها ابن عيينة في تفسيره.
ثالثاً : طريق الزهري ، عن علي زين العابدين، عن أبيه الحسين ، عن أبيه علي . وهذه طريق صحيحة جداً ، حتى عدها بعضهم أصح الأسانيد مطلقاً(1)، ولكن لم تشتهر هذه الطريق اشتهار الطريقتين السابقتين نظراً لما ألصقه الضعفاء والكذابون بزين العابدين من الروايات الباطلة.