شبكة ومنتديات صانع المعروف
عزيزي الزائر ... إن كانت هذه زيارتك الأولى لمنتديات صانع المعروف ندعوك للتسجيل معنا لترى كل ما هو جديد ومفيد
فأهلا ومرحبا بك عضوا فعالا في شبكة ومنتديات صانع المعروف

الإدارة
شبكة ومنتديات صانع المعروف
عزيزي الزائر ... إن كانت هذه زيارتك الأولى لمنتديات صانع المعروف ندعوك للتسجيل معنا لترى كل ما هو جديد ومفيد
فأهلا ومرحبا بك عضوا فعالا في شبكة ومنتديات صانع المعروف

الإدارة

شبكة ومنتديات صانع المعروف


 
الرئيسيةالرئيسية  البوابةالبوابة  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخولدخول  
نرحب بالعضوة الجديدة الاخت حلـآي غير يا هلا ومرحبا
اعوذ بالله من الشيطان الرجيم {اَللَهُ لا إِلَهَ إلا هو اَلحي ُ القَيَوم لا تأخذه سِنَةٌ ولا نوْمٌ لَّهُ مَا فيِِ السَمَاوَاتِ وَمَا في اَلأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَينَ أَيدِيهِمْ ِوَمَا خَلْفَهم وَلا َيُحِيطُونَ بشَيءٍ مِنْ علمِهِ إِلاَ بِمَا شَآء وَسعَ كُرْسِيُّهُ السَمَاوَاتِ وَالأَرضِ وَلاَ يَؤُدُه حِفْظُهُمَا وَهُوَ العَليُّ العَظِيمُ}
بحـث
 
 

نتائج البحث
 
Rechercher بحث متقدم
سحابة الكلمات الدلالية
المواضيع الأخيرة
» الأحاديث الضعيفة
من طرف حلا السعودية الخميس أبريل 21, 2022 11:37 am

» ألوااان الدنيا
من طرف حلا السعودية الخميس أبريل 21, 2022 11:34 am

» مسبح وهمي
من طرف صانع المعروف الجمعة أغسطس 11, 2017 4:45 pm

» حصريا // جميع حلقات سري للغاية
من طرف samha الجمعة سبتمبر 09, 2011 9:54 pm

» كل عام وأنتم بخير
من طرف الإدارة الخميس أغسطس 25, 2011 4:43 pm

» إنتقالات الدوري السعودي لعام 2011
من طرف حلا السعودية الخميس أغسطس 25, 2011 11:42 am

» إليك حبيبتي
من طرف أمير الحب الخميس أغسطس 25, 2011 10:06 am

» أنثى !!!
من طرف عابد الأربعاء أغسطس 24, 2011 1:23 pm

» المغرب الفاسي يعود بنقطة ثمينة من الكونجو
من طرف الإدارة الثلاثاء أغسطس 23, 2011 9:20 am

» أسباب بسيطة قد تدمر الحياة الزوجية وقد تحييها وتنعشها ,,,,
من طرف الإدارة الثلاثاء أغسطس 23, 2011 8:40 am

المواضيع الأكثر نشاطاً
أسماء الله الحسنى
حصريااا موسوعة أشعار نزار
موسوعة الأدعية الصحيحة
خواطر الشيخ الشعراوي حول القرأن الكريم
تفريغ حلقات شرح التجويد للدكتور أيمن سويد
-----(( هل فات الأوان لتبدأ من جديد ؟!!))-----
قصص الأنبياء ( رائع جداااا )
إنتقالات الدوري السعودي لعام 2011
حملة لن ننسى غزة
قهوتي الصباحية
احصائيات
هذا المنتدى يتوفر على 20 عُضو.
آخر عُضو مُسجل هو فتو فتو فمرحباً به.

أعضاؤنا قدموا 2343 مساهمة في هذا المنتدى في 416 موضوع

شاطر | 
 

 الكتاب الاسطورة مناهج المفسرين

استعرض الموضوع التالي استعرض الموضوع السابق اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
صانع المعروف
صانع المعروف


عدد المساهمات : 179
نقاط : 23882
تاريخ التسجيل : 25/06/2011

الكتاب الاسطورة مناهج المفسرين  Empty
مُساهمةموضوع: الكتاب الاسطورة مناهج المفسرين    الكتاب الاسطورة مناهج المفسرين  I_icon_minitimeالسبت أغسطس 13, 2011 1:50 pm

مناهج المفسرين ج(1)
تأليف

الدكتور : محمد الذهبي

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة

بتوفيق من الله تعالى نقدم للدارسين والدراسات في معاهد الدراسات الإسلامية فصول من " كتاب التفسير والمفسرون " وهو يعرض بكل أمانة ما في القرآن الكريم من وجوه الإعجاز.

ويبين ما تضمنه من أحكام لابد للمسلمين من معرفتها والوقوف عند حدودها ليسعدوا إذا هم نهلوا من فيض القرآن وعملوا به واهتدوا بهديه ، وإذا هو أرادوا لأنفسهم عز الدنيا وسعادة الآخرة وجاءت فصول هذا الكتاب تبين مراحل التفسير رواية وتدويناً وتنصف في الوقت نفسه رجال التفسير لقاء ما قدموه من عطاء موصول وفكر مستنير كشفوا به كثرة الوضع في التفسير ومراحل دخول الإسرائيليات فيه ليكون المسلمون على بينة تكشف الشبه المثارة ضد هذا التراث العظيم إلى غير ذلك من جهود مباركة من أجل حماية القرآن وصيانته من الدس والتشكيك وسموم التأويل المنحرف ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.

والله المستعان


مدير إدارة الدراسات الإسلامية



المبحث الأول

* معنى التفسير والتأويل والفرق بينهما :

التفسير في اللغة : التفسير هو الإيضاح والتبيين ، ومنه قوله تعالى في سورة الفرقان آية (33) :
" وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً ".. أي بياناً وتفصيلاً ، وهو مأخوذ من الفسر وهو الإبانة والكشف ، قال في القاموس :" الفسر" الإبانة وكشف المغطى كالتفسير ، والفعل كضرب ونصر ... ا هـ(1).

وقال في لسان العرب : " الفسر " البيان ، فسر الشيء يفسره بالكسر ويفسره بالضم فسراً. وفسره أبانه. والتفسير مثله.. ثم قال : الفسر كشف المغطى ، والتفسير كشف المراد عن اللفظ المشكل.. اهـ (2).

وقال أبو حيان في البحر المحيط : " .. ويطلق التفسير أيضاً على التعرية للانطلاق ، قال ثعلب : تقول فسرت الفرس : عريته لينطلق في حصره ، وهو راجع لمعنى الكشف ، فكأنه كشف ظهره لهذا الذي يريده منه من الجري " ا هـ(3).

ومن هذا يتبين لنا أن التفسير يستعمل لغة في الكشف الحسي ، وفي الكشف عن المعاني المعقولة ، واستعماله في الثاني أكثر من استعماله في الأول.

***
التفسير في الاصطلاح : يرى بعض العلماء : أن التفسير ليس من العلوم التي يتكلف لها حد؛ لأنه ليس قواعد أو ملكات ناشئة من مزاولة القواعد كغيره من العلوم التي أمكن لها أن تشبه العلوم العقلية، ويكتفي في إيضاح التفسير بأنه بيان كلام الله ، أو أنه المبين لألفاظ القرآن ومفهومها.

ويرى بعض آخر منهم : أن التفسير من قبيل المسائل الجزئية أو القواعد الكلية، أو الملكات الناشئة من مزاولة القواعد؛ فيتكلف له التعريف، فيذكر في ذلك علوماً أخرى يحتاج إليها في فهم القرآن، كاللغة، والصرف، والنحو، والقراءات.. وغير ذلك.

وإذا نحن تتبعنا أقوال العلماء الذين تكلفوا الحد للتفسير، وجدناهم قد عرفوه بتعاريف كثيرة، يمكن إرجاعها كلها إلى واحد منها، فهي وإن كانت مختلفة من جهة اللفظ، إلا أنها متحدة من جهة المعنى وما تهدف إليه.

فقد عرَّفه أبو حيان في البحر المحيط: بأنه " علم يبحث عن كيفية النطق بألفاظ القرآن، ومدلولاتها، وأحكامها الإفرادية والتركيبية، ومعانيها التي تحمل عليها حالة التركيب؛ وتتمات لذلك".

ثم خرَّج التعريف فقال : فقولنا علم، هو جنس يشمل سائر العلوم، وقولنا يبحث فيه عن كيفية النطق بألفاظ القرآن، هذا هو علم القراءات، وقولنا ومدلولاتها أي مدلولات تلك الألفاظ، وهذا هو علم اللغة الذي يحتاج إليه في هذا العلم، وقولنا وأحكامها الإفرادية والتركيبية، هذا يشمل علم التصريف، وعلم الإعراب، وعلم البيان، وعلم البديع، وقولنا ومعانيها التي تحمل عليها حالة التركيب، يشمل ما دلالته عليه بالحقيقة، وما دلالته عليه بالمجاز؛ فإن التركيب قد يقتضي بظاهره شيئاً ويصد عن الحمل على الظاهر صاد فيحتاج لأجل ذلك أن يحمل على الظاهر وهو المجاز، وقولنا وتتمات لذلك، هو معرفة النسخ وسبب النزول، وقصة توضح بعض ما أنبهم في القرآن، ونحو ذلك "ا هـ(1).

وعرَّفه الزركشي : بأنه " علم يفهم به كتاب الله المنزل على نبيه محمد r ، وبيان معانيه، واستخراج أحكامه وحكمه" اهـ (2).

وعرَّفه بعضهم : بأنه " علم يبحث فيه عن أحوال القرآن المجيد، من حيث دلالته على مراد الله تعالى، بقدر الطاقة البشرية" ا هـ(3).

والناظر لأول وهلة في هذين التعريفين الأخيرين، يظن أن علم القراءات وعلم الرسم لا يدخلان في علم التفسير، والحق أنهما داخلان فيه ؛ وذلك لأن المعنى يختلف باختلاف القراءتين أو القراءات، كقراءة " وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً ".. بضم الميم وإسكان اللام، فإن معناها مغاير لقراءة من قرأ "وملكاً كبيراً " بفتح الميم وكسر اللام. وكقراءة " حتى يطهرن ".. بالتسكين فإن معناها مغاير لقراءة من قرأ " يطهرن" بالتشديد، كما أن المعنى يختلف أيضاً باختلاف الرسم القرآني في المصحف، فمثلاً قوله تعالى : " أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً ".. بوصل " أمن " ، يغاير في المعنى " أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً" .. بفصلها، فإن المفصولة تفيد معنى " بل" دون الموصولة.

وعرَّفه بعضهم : بأنه " علم نزول الآيات، وشئونها ، وأقاصيصها ، والأسباب النازلة فيها ، ثم ترتيب مكيها ومدنيها ، ومحكمها ومتشابهها ، وناسخها ومنسوخها ، وخاصها وعامها ، ومطلقها ومقيدها ، ومجملها ، ومفسرها ، وحلالها وحرامها ، ووعدها ووعيدها ، وأمرها ونهيها ، وعبرها وأمثالها " اهـ(4).

وهذه التعاريف الأربعة تتفق كلها على أن علم التفسير علم يبحث عن مراد الله تعالى بقدر الطاقة البشرية ، فهو شامل لكل ما يتوقف عليه فهم المعنى ، وبيان المراد.

***
والتأويل في اللغة : التأويل : مأخوذ من الأول وهو الرجوع ، قال في القاموس : " آل إليه أولا ومآلا : رجع ، وعنه ارتد ... ثم قال : وأول الكلام تأويلا وتأوله : دبره وقدره وفسره ، والتأويل عبارة الرؤيا "(1).

وقال في لسان العرب : الأول : الرجوع ، آل الشيء يؤول أولا ومآلا رجع ، وأول الشيء رجعه ، وألت عن الشيء ارتددت ، وفي الحديث : " من صام الدهر فلا صام ولا آل" أي ولا رجع إلى خير ... ثم قال : وأول الكلام وتأوله دبره وقدره. وأوله وتأوله فسره ... الخ "(2).

وعلى هذا فيكون التأويل مأخوذا من الأول بمعنى الرجوع ، إنما هو باعتبار أحد معانيه اللغوية ، فكأن المؤول ارجع الكلام إلى ما يحتمله من المعاني.

وقيل : التأويل مأخوذ من الإيالة وهي السياسة ، فكأن المؤول يسوس الكلام ويضعه في موضعه – قال الزمخشري في أساس البلاغة : " آل الرعية يؤولها إيالة حسنة ، وهو حسن الإيالة ، وائتالها ، وهو مؤتال لقومه مقتال عليهم أي سائس محتكم ... " ا هـ (3).

والناظر في القرآن الكريم يجد أن لفظ التأويل قد ورد في كثير من آياته على معان مختلفة ، فمن ذلك قوله تعالى في سورة آل عمران آية (7) " فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ".. فهو في هذه الآية بمعنى التفسير والتعيين- وقوله في سورة النساء آية (59) " فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ".. فهو في هذه الآية بمعنى العاقبة والمصير – وقوله في سورة الأعراف آية (53) " هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ " .. وقوله في سورة يونس آية (39)
" بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ " .. فهو في الآيتين بمعنى وقوع المخبر به - - وقوله في سورة يوسف آية (6) " وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ".. وقوله فيها أيضاً آية (37) " قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ".. وقوله في آية (44) منها " وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ ".. ، وقوله في آية (45) منها " أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ ".. ،وقوله في آية (100) منها " هَـذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ".. فالمراد به في كل هذه الآيات نفس مدلول الرؤيا ، وقوله في سورة الكهف آية (78) " سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً " .. ، وقوله أيضاً آية (82) "ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً ".. فمراده بالتأويل هنا تأويل الأعمال التي أتى بها الخضر من خرق السفينة ، وقتل الغلام ، وإقامة الجدار ، وبيان السبب الحامل عليها ، وليس المراد منه تأويل الأقوال.

***
* التأويل في الاصطلاح :

1- التأويل عند السلف : التأويل عند السلف له معنيان :

أحدهما : تفسير الكلام وبيان معناه، سواء أوافق ظاهره أو خالقه ، فيكون التأويل والتفسير على هذا مترادفين ، وهذا هو ما عناه مجاهد من قوله " إن العلماء يعلمون تأويله" يعنى القرآن، وما يعنيه ابن جرير الطبري بقوله في تفسيره :" القول في تأويل قوله تعالى كذا وكذا " ، وبقوله : "اختلف أهل التأويل في هذه الآية" ونحو ذلك، فإن مراده التفسير.

ثانيهما : هو نفس المراد بالكلام ؛ فإن الكلام طلباً كان تأويله نفس الفعل المطلوب، وإن كان خبراً ، كان تأويله نفس الشيء المخبر به، وبين هذا المعنى والذي قبله فرق ظاهر، فالذي قبله يكون التأويل فيه من باب العلم والكلام، كالتفسير ، والشرح ، والإيضاح ، ويكون وجود التأويل في القلب، واللسان، وله الوجود الذهني واللفظي والرسمي ،وأما هذا فالتأويل فيه نفس الأمور الموجودة في الخارج، سواء أكانت ماضية أم مستقبلة، فإذا قيل : طلعت الشمس ، فتأويل هذا هو نفس طلوعها ، وهذا في نظر ابن تيمية هو لغة القرآن التي نزل بها ، وعلى هذا فيمكن إرجاع كل ما جاء في القرآن من لفظ التأويل إلى هذا المعنى الثاني.

2- التأويل عند المتأخرين من المتفقهة، والمتكلمة،و المحدثة، والمتصوفة :

التأويل عند هؤلاء جميعاً : هو صرف اللفظ عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح لدليل يقترن به، وهذا هو التأويل الذي يتكلمون عليه في أصول الفقه ومسائل الخلاف. فإذا قال أحد منهم : هذا الحديث أو هذا النص مؤول أو هو محمول على كذا. قال الآخر : هذا نوع تأويل ، والتأويل يحتاج إلى دليل. وعلى هذا فالمتأول مطالباً بأمرين:

الأمر الأول : أن يبين احتمال اللفظ للمعنى الذي حمله عليه وادعى أنه المراد.

الأمر الثاني : أن يبين الدليل الذي أوجب صرف اللفظ عن معناه الراجح إلى معناه المرجوح ، وإلا كان تأويلاً فاسداً ، أو تلاعباً بالنصوص.

قال في جمع الجوامع وشرحه : "التأويل حمل الظاهر على المحتمل المرجوح، فإن حمل عليه لدليل فصحيح، أو لما يظن دليلاً في الواقع ففاسد، أو لا لشيء فلعب لا تأويل "(1).

وهذا أيضاً هو التأويل الذي يتنازعون فيه في مسائل الصفات ، فمنهم من ذم التأويل ومنعه ، ومنهم من مدحه وأوجبه(2).

وستطلع عند الكلام على الفرق بين التفسير والتأويل على معان أخرى اشتهرت على ألسنة المتأخرين.

***
الفرق بين التفسير والتأويل والنسبة بينهما :

اختلف العلماء في بيان الفرق بين التفسير والتأويل ، وفي تحديد النسبة بينهما اختلافاً نتجت عنه أقوال كثيرة، وكأن التفرقة بين التفسير والتأويل أمر معضل استعصى حله على كثير من الناس إلا من سعى بين يديه شعاع من نور الهداية والتوفيق، ولهذا بالغ ابن حبيب النيسابوري فقال :" نبغ في زماننا مفسرون لو سئلوا عن الفرق بين التفسير والتأويل ما اهتدوا إليه "(3) . وليس بعيداً أن يكون منشأ هذا الخلاف ، هو ما ذهب إليه الأستاذ أمين الخولي حيث يقول " وأحسب أن منشأ هذا كله ، هو استعمال القرآن لكلمة التأويل ، ثم ذهاب الأصوليين إلى اصطلاح خاص فيها ، مع شيوع الكلمة على ألسنة المتكلمين من أصحاب المقالات والمذاهب "(4).

وهذه هي أقوال العلماء أبسطها بين يدي القارئ ليقف على مبلغ هذا الاختلاف، وليخلص هو برأي في المسألة يوافق ذوقه العلمي ويرضيه.

1-قال أبو عبيدة وطائفة معه :" التفسير والتأويل بمعنى واحد "(5) فهما مترادفان. وهذا هو الشائع عند المتقدمين من علماء التفسير.

2-قال الراغب الأصفهاني :" التفسير أعم من التأويل. وأكثر ما يستعمل التفسير في الألفاظ . والتأويل في المعاني ، كتأويل الرؤيا، والتأويل يستعمل أكثره في الكتب الإلهية. والتفسير يستعمل فيها وفي غيرها. والتفسير أكثره يستعمل في مفردات الألفاظ. والتأويل أكثره يستعمل في الجمل، فالتفسير إما أن يستعمل في غريب الألفاظ كالبحيرة والسائبة والوصيلة أو في تبيين المراد وشرحه كقوله تعالى في الآية (43) من سورة البقرة : " وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ "..، وإما في كلام مضمن بقصة لا يمكن تصوره إلا بمعرفتها نحو قوله تعالى في الآية (37) من سورة التوبة:" إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ".. وقوله تعالى في الآية (189) من سورة البقرة:
"وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا ".. الآية.

وأما التأويل : فإنه يستعمل مرة عاماً ، ومرة خاصاً ، نحو الكفر المستعمل تارة في الجحود المطلق، وتارة في جحود الباري خاصة. والإيمان المستعمل في التصديق المطلق تارة، وفي تصديق دين الحق تارة ، وإما في لفظ مشترك بين معان مختلفة ، نحو لفظ " وجد " المستعمل في الجد والوجد والوجود " ا هـ(1).

3-قال الماتوريدي : " التفسير : القطع على أن المراد من اللفظ هذا، والشهادة على الله أنه عني باللفظ هذا ، فإن قام دليل مقطوع به فصحيح، وإلا فتفسير بالرأي، وهو المنهي عنه، والتأويل ترجيح أحد المحتملات بدون القطع والشهادة على الله " ا هـ (2) وعلى هذا فالنسبة بينهما التباين.

4-قال أبو طالب الثعلبي : " التفسير بيان وضع اللفظ إما حقيقة أو مجازاً ، كتفسير الصراط بالطريق، والصيب بالمطر. والتأويل تفسير باطن اللفظ، مأخوذ من الأول، وهو الرجوع لعاقبة الأمر. فالتأويل إخبار عن حقيقة المراد، والتفسير إخبار عن دليل المراد، لأن اللفظ يكشف عن المراد، والكاشف دليل ،مثاله قوله تعالى في الآية (14) من سورة الفجر:" إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ".. تفسيره أنه من الرصد ، يقال رصدته : رقبته ، والمرصاد مفعال منه ، وتأويله التحذير من التهاون بأمر الله، والغفلة عن الأهبة والاستعداد للعرض عليه. وقواطع الأدلة تقتضي بيان المراد منه على خلاف وضع اللفظ في اللغة " ا هـ (3)وعلى هذا فالنسبة بينهما التباين.

5- قال البغوي ووافقه الكواشي :" التأويل هو صرف الآية إلى معنى محتمل يوافق ما قبلها وما بعدها، غير مخالف للكتاب والسنة من طريق الاستنباط. والتفسير هو الكلام في أسباب نزول الآية وشأنها وقصتها" ا هـ (4) بتصرف. وعلى هذا فالنسبة بينهما التباين.



6- قال بعضهم:" التفسير ما يتعلق بالرواية ، والتأويل ما يتعلق بالدراية " ا هـ (1)؛ وعلى هذا فالنسبة بينهما التباين.

7- التفسير هو بيان المعاني التي تستفاد من وضع العبارة ، والتأويل هو بيان المعاني التي تستفاد بطريق الإشارة. فالنسبة بينهما التباين ، وهذا هو المشهور عند المتأخرين ، وقد نبه إلى هذا الرأي الأخير العلامة الألوسي في مقدمة تفسيره حيث قال بعد أن استعرض بعض أقوال العلماء في هذا الموضوع " وعندي أنه إن كان المراد الفرق بينهما بحسب العرف فكل الأقوال فيه - ما سمعتها وما لم تسمعها -مخالف للعرف اليوم إذ قد تعورف من غير نكير : أن التأويل إشارة قدسية، ومعارف سبحانية، تنكشف من سجف العبارات للسالكين، وتنهل من سحب الغيب على قلوب العارفين. والتفسير غير ذلك.

وإن كان المراد الفرق بينهما بحسب ما يدل عليه اللفظ مطابقة، فلا أظنك في مرية من رد هذه الأقوال. أو بوجه ما ، فلا أراك ترضي إلا أن في كل كشف إرجاعاً ، وفي كل إرجاع كشفاً، فافهم" ا هـ (2).

هذه هي أهم الأقوال في الفرق بين التفسير والتأويل. وهناك أقوال أخرى أعرضنا عنها مخافة التطويل.

والذي تميل إليه النفس من هذه الأقوال : هو أن التفسير ما كان راجعاً إلى الرواية ،والتأويل ما كان راجعاً إلى الدراية؛ وذلك لأن التفسير معناه الكشف والبيان. والكشف عن مراد الله تعالى لا نجزم به إلا إذا ورد عن رسول الله r ، أو عن بعض أصحابه الذين شهدوا نزول الوحي وعلموا ما أحاط به من حوادث ووقائع، وخالطوا رسول الله r ، ورجعوا إليه فيما أشكل عليهم من معاني القرآن الكريم.

وأما التأويل فملحوظ فيه ترجيح أحد محتملات اللفظ بالدليل والترجيح يعتمد على الاجتهاد ، ويتوصل إليه بمعرفة مفردات الألفاظ ومدلولاتها في لغة العرب ، واستعمالها بحسب السياق، ومعرفة الأساليب العربية، واستنباط المعاني من كل ذلك ، قال الزركشي : " وكان السبب في اصطلاح كثير على التفرقة بين التفسير والتأويل التمييز بين المنقول والمستنبط ؛ ليحيل على الاعتماد في المنقول ، وعلى النظر في المستنبط " ا هـ (3).
المبحث الثاني

تفسير القرآن بغير لغته

تفسير القرآن بغير لغته ، أو الترجمة التفسيرية للقرآن ، بحث نرى من الواجب علينا أن نعرض له ؛ لما له من تعلق وثيق بموضوع هذا الكتاب ، وقبل الخوض فيه يحسن بنا أن نمهد له بعجالة موجزة تكشف عن معنى الترجمة وأقسامها، ثم تتكلم عما يدخل منها تحت التفسير وما لا يدخل ، فنقول : الترجمة تطلق في اللغة على معنيين.

الأول : نقل الكلام من لغة إلى لغة أخرى بدون بيان لمعنى الأصل المترجم، وذلك كوضع رديف مكان رديف من لغة واحدة.

الثاني : تفسير الكلام وبيان معناه بلغة أخرى.

قال في تاج العروس " والترجمان لمفسر للسان ، وقد ترجمه وترجم عنه إذا فسر كلامه بلسان آخر. قال الجوهري : وقيل نقله من لغة إلى لغة أخرى " ا هـ(1).

وعلى هذا فالترجمة تنقسم إلى قسمين . ترجمة حرفية ، وترجمة معنوية أو تفسيرية.

أما الترجمة الحرفية : فهي نقل الكلام من لغة إلى لغة أخرى ، مع مراعاة الموافقة في النظم والترتيب ، والمحافظة على جميع معاني الأصل المترجم.

وأما الترجمة التفسيرية : فهي شرح الكلام وبيان معناه بلغة أخرى، بدون مراعاة لنظم الأصل وترتيبه ، وبدون المحافظة على جميع معانيه المرادة منه.

وليس من غرضنا في هذا البحث أن نعرض لما يجوز من نوعي الترجمة بالنسبة للقرآن وما لا يجوز، ولا لمقالات العلماء المتقدمين والمتأخرين، ولكن غرضنا الذي نريد أن نكشف عنه ونوضحه هو : أي نوعي الترجمة داخل تحت التفسير ؟ أهو الترجمة الحرفية ؟ أم الترجمة التفسيرية ؟ أم هما معاً ؟ فنقول :

· الترجمة الحرفية للقرآن :

الترجمة الحرفية للقرآن : إما أن تكون ترجمة بالمثل ، وإما أن تكون ترجمة بغير المثل ، أما الترجمة الحرفية بالمثل ، فمعناها أن يترجم نظم القرآن بلغة أخرى تحاكيه حذواً بحذو بحيث تحل مفردات الترجمة محل مفرداته ، وأسلوبها محل أسلوبه، حتى تتحمل الترجمة ما تحمله نظم الأصل من المعاني المقيدة بكيفياتها البلاغية وأحكامها التشريعية، وهذا أمر غير ممكن بالنسبة لكتاب الله العزيز ؛ وذلك لأن القرآن نزل لغرضين أساسيين :

أولهما : كونه آية دالة على صدق النبي r فيما يبلغه عن ربه ، وذلك بكونه معجزاً للبشر ، لا يقدرون على الإتيان مثله ولو اجتمع الإنس والجن على ذلك.

وثانيهما : هداية الناس لما فيه صلاحهم في دنياهم وأخراهم.

أما الغرض الأول ، وهو كونه آية على صدق النبي r فلا يمكن تأديته بالترجمة اتفاقاً ؛ فإن القرآن ـ وإن كان الإعجاز في جملته لعدة معان كالإخبار بالغيب ، واستيفاء تشريع لا يعتريه خلل ، وغير ذلك مما عد من وجوه إعجازه ـ إنما يدور الإعجاز الساري في كل آية منه على ما فيه من خواص بلاغية جاءت لمقتضيات معينة ، وهذه لا يمكن نقلها إلى اللغات الأخرى اتفاقاً ، فإن اللغات الراقية وإن كان لها بلاغة ، ولكن لكل لغة خواصها لا يشاركها فيها غيرها من اللغات ، وإذاً فلو ترجم القرآن ترجمة حرفية ـ وهذا محال ـ لضاعت خواص القرآن البلاغية ، ولنزل من مرتبته المعجزة ، إلى مرتبة تدخل تحت طوق البشر ، ولفات هذا المقصد العظيم الذي نزل القرآن من أجله على محمد r .

وأما الغرض الثاني ، وهو كونه هداية للناس إلى ما فيه سعادتهم في الدارين فذلك باستنباط الأحكام والإرشادات منه ، وهذا يرجع بعضه إلى المعاني الأصلية التي تشترك في تفاهمها وأدائها كل الناس، وتقوى عليها جميع اللغات، وهذا النوع من المعاني يمكن ترجمته واستفادة الأحكام منه ، وبعض آخر من الأحكام والإرشادات يستفاد من المعاني من المعاني الثانوية، ونجد هذا كثيراً في استنباطات الأئمة المجتهدين؛ وهذه المعاني الثانوية، لازمة للقرآن الكريم وبدونها لا يكون قرآناً. والترجمة الحرفية إن أمكن فيها المحافظة على المعاني الأولية ، فغير ممكن أن يحافظ فيها على المعاني الثانوية؛ ضرورة أنها لازمة للقرآن دون غيره من سائر اللغات.

ومما تقدم يعلم : أن الترجمة الحرفية للقرآن ، لا يمكن أن تقوم مقام الأصل في تحصيل كل ما يقصد منه ؛ لما يترتب عليها من ضياع الغرض الأول برمته ، وفوات شطر من الغرض الثاني.

وأما الترجمة الحرفية بغير المثل : فمعناها أن يترجم نظم القرآن حذواً بحذو بقدر طاقة المترجم وما تسعه لغته ، وهذا أمر ممكن ، وهو وإن جاز في كلام البشر ، لا يجوز بالنسبة لكتاب الله العزيز ؛ لأن فيه من فاعله إهداراً لنظم القرآن ؛ وإخلالاً بمعناه ؛ وانتهاكاً لحرمته ، فضلاً عن كونه فعلاً لا تدعو إليه ضرورة.


***
· الترجمة الحرفية ليست تفسيراً للقرآن :

اتضح لنا مما سبق معنى الترجمة الحرفية بقسميها ، وأقمنا الدليل بما يناسب المقام على عدم إمكان الترجمة الحرفية بالمثل، وعدم جواز الترجمة الحرفية بغير المثل، وإن كانت ممكنة ، ولكن بقى بعد ذلك هذا السؤال : هل الترجمة الحرفية بقسميها ـ على فرض إمكانها في الأول وجوازها في الثاني ـ تسمى تفسيراً للقرآن بغير لغته ؟ أو لا تدخل تحت مادة التفسير ؟ وللجواب عن هذا نقول :

إن الترجمة الحرفية بالمثل ، تقدم لنا أن معناها ترجمة نظم الأصل بلغة أخرى تحاكيه حذواً بحذو، بحيث تحل مفردات الترجمة محل مفردات الأصل وأسلوبها محل أسلوبه ، حتى تتحمل الترجمة ما تحمله نظم الأصل من المعاني البلاغية ، والأحكام التشريعية. وتقدم لنا أيضاً أن هذه الترجمة بالنسبة للقرآن غير ممكنة ؛ وعلى فرض إمكانها فهي ليست من قبيل تفسير القرآن بغير لغته ؛ لأنها عبارة عن هيكل القرآن بذاته ، إلا أن الصورة اختلفت باختلاف اللغتين : المترجم منها والمترجم إليها . وعلى هذا فأبناء اللغة المترجم إليها يحتاجون إلى تفسيره وبيان ما فيه من أسرار وأحكام، كما يحتاج العربي الذي نزل بلغته إلى تفسيره والكشف عن أسراره وأحكامه ؛ ضرورة أن هذه الترجمة لا شرح فيها ولا بيان ، وإنما فيها إبدال لفظ بلفظ آخر يقوم مقامه ، ونقل معنى الأصل كما هو من لغة إلى لغة أخرى.

وأما الترجمة الحرفية بغير المثل، فقد تقدم لنا أن معناها ترجمة نظم القرآن حذواً بحذو، بقدر طاقة المترجم وما تسعه لغته وتقدم لنا أن هذا غير جائز بالنسبة للقرآن وعلى فرض جوازها فهي ليست من قبيل تفسير القرآن بغير لغته، لأنها عبارة عن هيكل للقرآن منقوص غير تام، وهذه الترجمة لم يترتب عليها سوى إبدال لفظ بلفظ آخر يقوم مقامه في تأدية بعض معناه، وليس في ذلك شيء من الكشف والبيان، لا شرح مدلول، ولا بيان مجمل، ولا تقييد مطلق ولا استنباط أحكام، ولا توجيه معان، ولا غير ذلك من الأمور التي اشتمل عليها التفسير المتعارف.

***
· الترجمة التفسيرية للقرآن :

الترجمة التفسيرية أو المعنوية، تقدم لنا أنها عبارة عن شرح الكلام وبيان معناه بلغة أخرى، بدون محافظة على نظم الأصل وترتيبه، وبدون المحافظة على جميع معانيه المرادة منه، وذلك بأن تفهم المعنى الذي يراد من الأصل، ثم نأتي له بتركيب من اللغة المترجم إليها يؤديه على وفق الغرض الذي سيق له.

وعلم مما تقدم مقدار الفرق بين الترجمة الحرفية والترجمة التفسيرية ولإيضاح هذا الفرق نقول :

لو أراد إنسان أن يترجم قوله تعالى : " وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ"(1).. ترجمة حرفية لأتى بكلام يدل على النهي عن ربط اليد في العنق ، وعن مدها غاية المد ، ومثل هذا التعبير في اللغة المترجم إليها ربما كان لا يؤدي المعنى الذي قصده القرآن، بل قد يستنكر صاحب تلك اللغة هذا الوضع الذي ينهى عنه القرآن، ويقول في نفسه : إنه لا يوجد عاقل يفعل بنفسه هذا الفعل الذي نهى عنه القرآن ؛ لأنه مثير للضحك على فاعله والسخرية منه ، ولا يدور بخلد صاحب هذه اللغة ، المعنى الذي أراده القرآن وقصده من وراء هذا التشبيه البليغ.

أما إذا أراد أن يترجم هذه الجملة ترجمة تفسيرية، فإنه يأتي بالنهي عن التبذير والتقتير، مصورين بصورة شنيعة ، ينفر منها الإنسان، حسبما يناسب أسلوب تلك اللغة المترجم إليها ، ويناسب إلف من يتكلم بها. ومن هذا يتبين أن الغرض الذي أراده الله من هذه الآية، يكون مفهوماً بكل سهولة ووضوح في الترجمة التفسيرية، دون الترجمة الحرفية.

إذا علم هذا ، أصبح من السهل علينا وعلى كل إنسان أن يقول بجواز ترجمة القرآن ترجمة تفسيرية بدون أن يتردد أدنى تردد، فإن ترجمة القرآن ترجمة تفسيرية ليست سوى تفسير للقرآن الكريم بلغة غير لغته التي نزل بها.

وحيث اتفقت كلمة المسلمين، وانعقد إجماعهم على جواز تفسير القرآن لمن كان من أهل التفسير بما يدخل تحت طاقته البشرية؛ بدون إحاطة بجميع مراد الله ؛ فإنا لا نشك في أن الترجمة التفسيرية للقرآن داخله تحت هذا الإجماع أيضاً؛لأن عبارة الترجمة التفسيرية محاذية لعبارة التفسير ، لا لعبارة الأصل القرآني ؛ فإذا كان التفسير مشتملاً على بيان معنى الأصل وشرحه، بحل ألفاظه فيما يحتاج تفهمه إلى الحل؛ وبيان مراده كذلك ، وتفصل معناه فيما يحتاج للتفصيل، وتوجيه مسائله فيما يحتاج للتوجيه، وتقرير دلائله فيما يحتاج للتقرير، ونحو ذلك من كل ما له تعلق بتفهم القرآن وتدبره ؛ كانت الترجمة التفسيرية أيضاً مشتملة على هذا كله ؛ لأنها ترجمة للتفسير لا للقرآن.

وقصارى القول : إن في كل من التفسير وترجمته بيان ناحية أو أكثر من نواحي القرآن التي لا يحيط بها إلا من أنزله بلسان عربي مبين؛ وليس في واحد منهما إبدال لفظ مكان لفظ القرآن، ولا إحلال نظم محل نظم القرآن بل نظم القرآن باق معهما ؛ دال على معانيه من جميع نواحيه.

***
* الفرق بين التفسير والترجمة التفسيرية :

لو تأملنا أدنى تأمل؛ لوجدنا أنه يمكن أن يفرق بين التفسير والترجمة التفسيرية من جهتين.

الجهة الأولى : اختلاف اللغتين. فلغة التفسير تكون بلغة الأصل ، كما هو المتعارف المشهور. بخلاف الترجمة التفسيرية فإنها تكون بلغة أخرى.

الجهة الثانية : يمكن لقارئ التفسير ومتفهمه أن يلاحظ معه نظم الأصل ودلالته فإن وجده خطأ نبه عليه وأصلحه. ولو فرض أنه لم يتنبه لما في التفسير من خطأ تنبه له قارئ آخر، أما قارئ الترجمة فإنه لا يتسنى له ذلك؛ لجهله بنظم القرآن ودلالته ، بل كل ما يفهمه ويعتقده؛ أن هذه الترجمة التي يقرؤها ويتفهم معناها تفسير صحيح للقرآن، وأما رجوعه إلى الأصل ومقارنته بالترجمة فليس مما يدخل تحت طوقه ما دام لم يعرف لغة القرآن.

***
· شروط الترجمة التفسيرية :

تفسير القرآن الكريم : من العلوم التي فرض على الأمة تعلمها، والترجمة التفسيرية : تفسير للقرآن بغير لغته، فكانت أيضاً من الأمور التي فرضت على الأمة، بل هي آكد لما يترتب عليها من المصالح المهمة ، كتبليغ معاني القرآن وإيصال هدايته إلى المسلمين، وغير المسلمين ممن لا يتكلمون بالعربية ولا يفهمون لغة العرب ، وأيضاً حماية العقيدة الإسلامية من كيد الملحدين، والدفاع عن القرآن بالكشف عن أضاليل المبشرين الذين عمدوا إلى ترجمة القرآن ترجمة حشوها بعقائد زائفة وتعاليم فاسدة؛ ليظهروا القرآن لمن لم يعرف لغته في صورة تنفر منه وتصد عنه ، وكثيراً ما علت الأصوات بالشكوى من هذه التراجم الفاسدة؛ لهذا نرى أن نذكر الشروط التي يجب أن تتوافر وتراعي، لتكون الترجمة التفسيرية ترجمة صحيحة مقبولة، وإليك هذه الشروط :

أولاً - أن تكون الترجمة على شريطة التفسير ، لا يعول عليها إلا إذا كانت مستمدة من الأحاديث النبوية ، وعلوم اللغة العربية ، والأصول المقررة في الشريعة الإسلامية ، فلابد للمترجم من اعتماده في استحضار معنى الأصل على تفسير عربي مستمد من ذلك؛ أما إذا استقل برأيه في استحضار معنى القرآن ، أو اعتمد على تفسير ليس مستمداً من تلك الأصول، فلا تجوز ترجمته ولا يعتد بها ، كما لا يعتد بالتفسير إذا لم يكن مستمداً من تلك المناهل ، معتمداً على هذه الأصول.

ثانياً - أن يكون المترجم بعيداً عن الميل إلى عقيدة زائفة تخالف ما جاء به القرآن ، وهذا شرط في المفسر أيضاً ؛ فإنه لو مال واحد منهما إلى عقيدة فاسدة لتسلطت على تفكيره ، فإذا بالمفسر وقد فسر طبقاً لهواه ، وإذا بالمترجم وقد ترجم وفقاً لميوله ، وكلاهما يبعد بذلك عن القرآن وهداه.

ثالثاً - أن يكون المترجم عالماً باللغتين : المترجم منها والمترجم إليها ، حبيراً بأسرارهما ، يعلم جهة الوضع والأسلوب والدلالة لكل منهما.

رابعاً : أن يكتب القرآن أولاً ، ثم يؤتى بعده بتفسيره ، ثم يتبع هذا بترجمته التفسيرية حتى لا يتوهم متوهم أن هذه الترجمة ترجمة حرفية للقرآن.

هذه هي الشروط التي يجب مراعاتها لمن يريد أن يفسر القرآن بغير لغته ، تفسيراً يسلم من كل نقد يوجه ، وعيب يلتمس(1).

المبحث الثالث

هل تفسير القرآن من قبيل التصورات أو من قبيل التصديقات؟
اختلف العلماء في علم التفسير : هل هو من قبيل التصورات أو من قبيل التصديقات ؟ فذهب بعضهم إلى أنه من قبيل التصورات. لأن المقصود منه تصور معاني ألفاظ القرآن، وذلك كله تعاريف لفظية، وقد صرح بهذا عبدالحكيم علي المطول حيث قال :" وما قالوا من أن لكل علم مسائل فإنما هو في العلوم الحكمية ، وأما العلوم الشرعية والأدبية فلا يتأتى في جميعاً ذلك، فإن علم اللغة ليس إلا ذكر الألفاظ ومفهوماتها، وكذلك التفسير والحديث "ا هـ (2).

وذهب السيد : إلى أن التفسير من قبيل التصديقات، لأنه يتضمن الحكم على الألفاظ بأنها مفيدة لهذه المعاني ؛ وعلى هذا يكون التفسير عبارة عن مسائل جزئية، مثل قولنا : يا أيها الناس : خطاب لأهل مكة؛ ويا أيها الذين آمنوا : خطاب لأهل المدينة، والاسم، معناه : الدال على المسمى ، والله ، معناه : الذات الأقدس ، والرحمن ، معناه : المحسن ، وغير ذلك ، ولا شك أن هذه قضايا جزئية(3).

***







الباب الأول

المرحلة الأول للتفسير
أو التفسير في عهد النبي r وأصحابه
· فهم النبي r والصحابة للقرآن

· المفسرون من الصحابة

· قيمة التفسير المأثور عن الصحابة

· مميزات التفسير في هذه المرحلة









الفصل الأول

فهم النبي r والصحابة للقرآن
· تمهيد :

نزل القرآن الكريم على نبي أمي ، وقوم أميين، ليس لهم إلا ألسنتهم وقلوبهم ، وكانت لهم فنون من القول يذهبون فيها مذاهبهم ويتواردون عليها، وكانت هذه الفنون لا تكاد تتجاوز ضروباً من الوصف، وأنواعاً من الحكم ، وطائفة من الأخبار والأنساب ، وقليلاً مما يجري هذا المجرى، وكان كلامهم مشتملاً على الحقيقة والمجاز، والتصريح والكناية، والإيجاز والإطناب.

وجرياً على سنة الله تعالى في إرسال الرسل، نزل القرآن بلغة العرب وعلى أساليبهم في كلامهم : "وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ "(1).. فألفاظ القرآن عربية، إلا ألفاظاً قليلة، اختلفت فيها أنظار العلماء، فمن قائل : إنها عربت وأخذت من لغات أخرى، ولكن العرب هضمتها وأجرت عليها قوانينها فصارت عربية بالاستعمال. ومن قائل إنها عربية بحتة، غاية الأمر أنها مما تواردت عليه اللغات، وعلى كلا القولين فهذه الألفاظ لا تخرج القرآن عن كونه عربياً.

استعمل القرآن في أسلوبه الحقيقة والمجاز والتصريح والكناية، والإيجاز والإطناب، على نمط العرب في كلامهم غير أن القرآن يعلو على غيره من الكلام العربي، بمعانيه الرائعة التي افتن بها في غير مذاهبهم، ونزع منها إلى غير فنونهم، تحقيقاً لإعجازه، ولكونه من لدن حكيم عليم.

***
*فهم النبي r والصحابة للقرآن :

وكان طبيعياً أن يفهم النبي r القرآن جملة وتفصيلاً، أن تكفل الله تعالى له بالحفظ والبيان: "إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ "(2)r القرآن في جملته ، أي بالنسبة لظاهره وأحكامه ، أما فهمه تفصيلا، ومعرفة دقائق باطنه ، بحيث لا يغيب عنهم شاردة ولا واردة ، فهذا غير ميسور لهم بمجرد معرفتهم للغة القرآن ، بل لابد لهم من البحث والنظر والرجوع إلى النبي r فيما يشكل عليهم فهمه ؛ وذلك لأن القرآن فيه المجمل، والمشكل ، والمتشابه ، وغير ذلك مما لابد في معرفته من أمور أخرى يرجع إليها. ، كما كان طبيعياً أن يفهم أصحاب النبي

ولا أظن الحق مع ابن خلدون حيث يقول في مقدمته " إن القرآن نزل بلغة العرب ، وعلى أساليب بلاغتهم ، فكانوا كلهم يفهمونه ويعلمون معانيه في مفرداته وتراكيبه" ا هـ (1)، نعم لا أظن الحق معه في ذلك، لأن نزول القرآن بلغة العرب لا يقتضي أن العرب كلهم كانوا يفهمونه في مفرداته وتراكيبه، وأقرب دليل على هذا ما نشاهده اليوم من الكتب المؤلفة على اختلاف لغاتها، وعجز كثير من أبناء هذه اللغات عن فهم كثير مما جاء فيها بلغتهم، إذ الفهم لا يتوقف على معرفة اللغة وحدها ، بل لابد لمن يفتش عن المعاني ويبحث عنها من أن تكون له موهبة عقلية خاصة ، تتناسب مع درجة الكتاب وقوة تأليفه.

***
* تفاوت الصحابة في فهم القرآن :

ولو أننا رجعنا إلى عهد الصحابة لوجدنا أنهم لم يكونوا في درجة واحدة بالنسبة لفهم معاني القرآن ، بل تفاوتت مراتبهم ، وأشكل على بعضهم ما ظهر لبعض آخر منهم ، وهذا يرجع إلى تفاوتهم في القوة العقلية ، وتفاوتهم في معرفة ما أحاط بالقرآن من ظروف وملابسات ، وأكثر من هذا، أنهم كانوا لا يتساوون في معرفة المعاني التي وضعت لها المفردات، فمن مفردات القرآن ما خفي معناه على بعض الصحابة، ولا ضير في هذا ، فإن اللغة لا يحيط بها إلا معصوم ، ولم يدع أحد أن كل فرد من أمة يعرف جميع ألفاظ لغتها.

ومما يشهد لهذا الذي ذهبنا إليه ، ما أخرجه أبو عبيدة في الفضائل عن أنس " أن عمر بن الخطاب قرأ على المنبر :" وفاكهة وأباً"(2).. فقال هذه الفاكهة قد عرفناها ، فما الأب ؟ ثم رجع إلى نفسه فقال: إن هذا لهو التكلف يا عمر "(3) . وما روي من أن عمر كان على المنبر فقرأ : " أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ"(4).. ثم سأل عن معنى التخوف، فقال له رجل من هذيل: التخوف عندنا التنقص ، ثم أنشده :

تَخَوَّفَ الرَّحْلُ منها تامِكاً قَرِداً

كما تَخَوَّفَ عُودَ النبعةِ السَّفن(5)

وما أخرجه أبو عبيدة من طريق مجاهد عن ابن عباس قال :" كنت لا أدري ما فاطر السموات حتى أتاني أعرابيان يتخاصمان في بئر ، فقال أحدهما : أنا فطرتها ، والآخر يقول :أنا ابتدأتها"(1).

فإذا كان عمر بن الخطاب يخفي عليه معنى الأب ومعنى التخوف، ويسأل عنها غيره ، وابن عباس ـ وهو ترجمان القرآن ـ لا يظهر له معنى فاطر إلا بعد سماعها من غيره ، فكيف شأن غيرهما من الصحابة ؟ لا شك أن كثيراً منهم كانوا يكتفون بالمعنى الإجمالي للآية ، فيكفيهم ـ مثلاً ـ أن يعلموا من قوله تعالى " وفاكهة وأباً " أنه تعداد للنعم التي أنعم الله بها عليهم ، ولا يلزمون أنفسهم بتفهم معنى الآية تفصيلاً ما دام المراد واضحاً جلياً(2).

وماذا يقول ابن خلدون فيما رواه البخاري ، من أن عدي بن حاتم لم يفهم معنى قوله تعالى :" وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ "(3)r بشأنه، فعرض بقلة فهمه ، وأفهمه المراد(4)... وبلغ من أمره أن أخذ عقالاً أبيض وعقالاً أسود ، فلما كان بعض الليل ، نظر أليهما فلم يستبينا ، فلما أصبح أخبر النبي

الحق أن الصحابة ـ رضوان الله عليهم أجمعين ـ كانوا يتفاوتون في القدرة على فهم القرآن وبيان معانيه المرادة منه ، وذلك راجع ـ كما تقدم ـ إلى اختلافهم في أدوات الفهم ، فقد كانوا يتفاوتون في العلم بلغتهم ، فمنهم من كان واسع الاطلاع فيها ملماً بغريبها ، ومنهم دون ذلك ، ومنهم من كان يلازم النبي r فيعرف من أسباب النزول ما لا يعرفه غيره، أضف إلى هذا وذاك أن الصحابة لم يكونوا في درجتهم العلمية ومواهبهم العقلية سواء ، بل كانوا مختلفين في ذلك اختلافاً عظيماً.

قال مسروق: " جالست أصحاب محمد r فوجدتهم كالإخاذ ـ يعنى الغدير ـ فالإخاذ يروي الرجل، والإخاذ يروي الرجلين ، والإخاذ يروي العشرة ، والإخاذ يروي المائة ، والإخاذ لو نزل به أهل الأرض لأصدرهم "(5).

هذا .. وقد قال ابن قتيبة ـ وهو ممن تقدم على ابن خلدون بقرون ـ : " إن العرب لا تستوي في المعرفة بجميع ما في القرآن من الغريب والمتشابه ، بل إن بعضها يفضل في ذلك على بعض "(6).

ويظهر أن ابن خلدون قد شعر بذلك فصرح به فيما أورده بعد عبارته السابقة بقليل حيث قال:" وكان النبي r يبين المجمل ، ويميز الناسخ من المنسوخ، ويعرفه أصحابه فعرفوه وعرفوا سبب نزول الآيات ومقتضى الحال منها منقولاً عنه " .. (1)r وهذا تصريح منه بأن العرب كان لا يكفيهم في معرفة معاني القرآن معرفتهم بلغته ، بل كانوا في كثير من الأحيان بحاجة إلى توقيف من الرسول


عدل سابقا من قبل صانع المعروف في السبت أغسطس 13, 2011 2:04 pm عدل 2 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
صانع المعروف
صانع المعروف


عدد المساهمات : 179
نقاط : 23882
تاريخ التسجيل : 25/06/2011

الكتاب الاسطورة مناهج المفسرين  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الكتاب الاسطورة مناهج المفسرين    الكتاب الاسطورة مناهج المفسرين  I_icon_minitimeالسبت أغسطس 13, 2011 1:52 pm


مصادر التفسير في هذا العصر
كان الصحابة في هذا العصر يعتمدون في تفسيرهم للقرآن الكريم على أربعة مصادر :

الأول : القرآن الكريم.

الثاني : النبي r.

الثالث : الاجتهاد وقوة الاستنباط.

الرابع : أهل الكتاب من اليهود والنصارى.

ونوضح كل مصدر من هذه المصادر الأربعة فنقول :

* المصدر الأول : القرآن الكريم :

الناظر في القرآن الكريم يجد أنه قد اشتمل على الإيجاز والإطناب، وعلى الإجمال والتبيين، وعلى الإطلاق والتقييد، وعلى العموم والخصوص. وما أوجز في مكان قد يبسط في مكان آخر، وما أجمل في موضع قد يبين في موضع آخر ، وما جاء مطلقاً في ناحية قد يلحقه التقييد في ناحية أخرى، وما كان عاماً في آية قد يدخله التخصيص في آية أخرى.

لهذا كان لابد لمن يتعرض لتفسير كتاب الله تعالى أن ينظر في القرآن أولاً ، فيجمع ما تكرر منه في موضوع واحد ، ويقابل الآيات بعضها ببعض؛ ليستعين بما جاء مجملاً، وليحمل المطلق على المقيد، والعام على الخاص ، وبهذا يكون قد فسر القرآن بالقرآن ، وفهم مراد الله بما جاء عن الله ، وهذه مرحلة لا يجوز لأحد مهما كان أن يعرض عنها، ويتخطاها إلى مرحلة أخرى، لأن صاحب الكلام أدرى بمعاني كلامه، وأعرف به من غيره.

وعلى هذا فمن تفسير القرآن بالقرآن : أن يشرح ما جاء موجزاً في القرآن بما جاء في موضع آخر مسهباً ، وذلك كقصة آدم وإبليس ،جاءت مختصرة في بعض المواضع، وجاءت مسهبة مطولة في موضع آخر، وكقصة موسى وفرعون، جاءت موجزة في بعض المواضع ، وجاءت مسهبة مفصلة في موضع آخر.

ومن تفسير القرآن بالقرآن : أن يحمل المجمل على المبين ليفسر به، وأمثلة ذلك كثيرة في القرآن، فمن ذلك تفسير قوله تعالى في سورة غافر الآية (28) : " وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ".. بأنه العذاب الأدنى المعجل في الدنيا، لقوله تعالى في آخر هذه السورة آية (77):" فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ ".. ومنه تفسير قوله تعالى في سورة النساء آية (27) " وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً ".. بأهل الكتاب لقوله تعالى في السورة نفسها آية (44) : " أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلاَلَةَ وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السَّبِيلَ ".. ومنه قوله تعالى في سورة البقرة آية (37) " فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ".. فسرتها الآية (23) من سورة الأعراف :" قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ".. ومنه قوله تعالى في سورة الأنعام آية (103) : " لا تدركه الأبصار " فسرتها آية :"إلى ربها ناظرة " آية (23) من سورة القيامة. ومنه قوله تعالى في سورة المائدة آية (1) :" أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ".. فسرتها آية " حرمت عليكم الميتة ".. الآية (3) من السورة نفسها.

ومن تفسير القرآن بالقرآن حمل المطلق على المقيد ، والعام على الخاص ، فمن الأول : ما نقله الغزالي عن أكثر الشافعية من حمل المطلق على المقيد في صورة اختلاف الحكمين عند اتحاد السبب، ومثل له بآية الوضوء والتيمم، فإن الأيدي مقيدة في الوضوء بالغاية في قوله تعالى في سورة المائدة آية (6) " فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ".. ومطلقة في التيمم في وقوله تعالى في الآية نفسها : " فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ ".. فقيدت في التيمم بالمرافق أيضاً(1) ومن أمثلته أيضاً عند بعض العلماء :آية الظهار مع آية القتل، ففي كفارة الظهار يقول الله تعالى في سورة المجادلة آية (3) " فتحرير رقبة ".. وفي كفارة القتل ، يقول في سورة النساء آية (92) " فتحرير رقبة مؤمنة ".. فيحمل المطلق في الآية الأولى على المقيد في الآية الثانية ، بمجرد ورود اللفظ المقيد من غير حاجة إلى جامع عند هذا البعض من العلماء(2).

ومن الثاني : نفي الخلة والشفاعة على جهة العموم في قوله تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ "(3).. وقد استثنى الله المتقين من نفي الخلة في قوله :" الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ "(4).. واستثنى ما أذن فيه من الشفاعة بقوله : " وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَى "(5).. ومثل قوله تعالى : " من يعمل سوءاً يجز به"(6)..فإن ما فيها من عموم خصص بمثل قوله " وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ "(7)..

ومن تفسير القرآن بالقرآن : الجمع بين ما يتوهم انه مختلف ، كخلق آدم من تراب في بعض الآيات، ومن طين في غيرها ، ومن حمأ مسنون ، ومن صلصال، فإن هذا ذكر للأطوار التي مر بها آدم من مبدأ خلقه إلى نفخ الروح فيه.

ومن تفسير القرآن بالقرآن حمل بعض القراءات على غيرها، فبعض القراءات تختلف مع غيرها في اللفظ وتتفق في المعنى، فقراءة ابن مسعود t " أو يكون لك بيت من ذهب " تفسر لفظ الزخرف في القراءة المشهورة : " أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ"(1) .. وبعض القراءات تختلف مع غيرها في اللفظ والمعنى، وإحدى القراءتين تعين المراد من القراءة الأخرى، فمثلاً قوله تعالى :" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ "(2).. وفسرتها القراءة الأخرى "فامضوا إلى ذكر الله "؛لأن السعي عبارة عن المشي السريع ، وهو وإن كان ظاهر اللفظ إلا أن المراد منه مجرد الذهاب.

وبعض القراءات تختلف بالزيادة والنقصان، وتكون الزيادة في إحدى القراءتين مفسرة للمجمل في القراءة التي لا زيادة فيها، فمن ذلك : القراءة المنسوبة لابن عباس:" ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم في مواسم الحج".. فسرت القراءة الأخرى التي لا زيادة فيها(3) ، وأزالت الشك من قلوب بعض الناس الذين كانوا يتحرجون من الصفق في أسواق الحج، والقراءة المنسوبة لسعد بن أبي وقاص :" وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت من أم فلكل واحد منهما السدس".. فسرت القراءة الأخرى(4) التي لا تعرض فيها لنوع الأخوة.

وهنا تختلف أنظار العلماء في مثل هذه القراءات فقال بعض المتأخرين: إنها من أوجه القرآن، وقال غيرهم: إنها ليست قرآناً، بل هي من قبيل التفسير، وهذا هو الصواب: لأن الصحابة كانوا يفسرون القرآن ويرون جواز إثبات التفسير بجانب القرآن فظنها بعض الناس ـ لتطاول الزمن عليها ـ من أوجه القراءات التي صحت عن رسول الله r ورواها عنه أصحابه.

ومما يؤيد أن القراءات مرجع مهم من مراجع تفسير القرآن بالقرآن، ما روي عن مجاهد أنه قال : "لو كنت قرأت ابن مسعود قبل أن أسأل ابن عباس ما احتجت أن أسأله عن كثير مما سألته عنه"(5). هذا هو تفسير القرآن بالقرآن ، وهو ما كان يرجع إليه الصحابة في تعرف بعض معاني القرآن، وليس هذا عملاً آلياً لا يقوم على شيء من النظر، وإنما هو عمل يقوم على كثير من التدبر والتعقل ؛ إذ ليس حمل المجمل على المبين، أو المطلق على المقيد ، أو العام على الخاص ، أو إحدى القراءتين على الأخرى بالأمر الهين الذي يدخل تحت مقدور كل إنسان ، وإنما هو أمر يعرفه أهل العلم والنظر خاصة.

ومن أجل هذا نستطيع أن نوافق الأستاذ جولدزيهر على ما قاله في كتابه " المذاهب الإسلامية في تفسير القرآن" من أن : " المرحلة الأولى لتفسير القرآن والنواة التي بدأ بها، تتركز في القرآن نفسه وفي نصوصه نفسها. وبعبارة أوضح : في قراءاته، ففي هذه الأشكال المختلفة، نستطيع أن نرى أول محاولة للتفسير "(1).. نعم نستطيع أن نوافقه على أن المرحلة الأولى للتفسير تتركز في القرآن نفسه على معنى رد متشابهه إلى محكمه، وحمل مجمله على مبينه، وعامه على خاصه، ومطلقه على مقيده..الخ، كما تتركز في بعض قراءاته المتواترة. وما كان من قراءات غير متواترة فلا يعول عليها باعتبارها قرآناً ، وإن عول على بعض منها باعتبارها تفسيراً للنص القرآني، نعم.. نستطيع أن نوافقه على هذا إن أراده، ولكن لا نستطيع أن نوافقه على ما يرمي إليه من إلحاد في آيات الله، وما يهدف إليه من اتهام المسلمين بالتساهل في قبول القراءات، وذلك حيث يقول في صفحة (1،2) من الكتاب نفسه:" وقد تسامح المسلمون في هذه القراءات واعترفوا بها جميعاً على قدم المساواة بالرغم مما قد يفرض من أن الله تعالى قد أوحى بكلامه كلمة كلمة وحرفاً حرفاً وأن مثله من الكلام المحفوظ في اللوح والذي تنزل به الملك على الرسول المختار يجب أن يكون على شكل واحد بلفظ واحد"اهـ.

كما لا نستطيع أن نوافقه على ما نسبه إلى الصحابة من أنهم هم الذين أحدثوا هذه القراءات جميعاً، ونفي كونها من كلام الله ، وعلل ما ذهب إليه بعلل واهية لا تقوم إلا على أوهام تخيلها فظنها حقائق، وذلك حيث يقول في صفحة (6) بعد أن ساق هذه الآية "إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً . لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً "(2) قال : " قرأ بعضهم بدلاً من "وتعزروه" بالراء " وتعززوه" بالزاي، من العزة والتشريف، وإني أرى في الانتقال من تلك القراءة إلى هذه القراءة ـ وإن كنت لا أجزم بذلك _ أن شيئاً من التفكير في تصور أن الله قد ينتظر مساعدة من الإنسان قد دعا إلى ذلك، حقاً إنه قد جاءت في القرآن آيات بهذا المعنى _ سورة الفتح 40 ومحمد 7 والحشر 8 وغيرها ـ بيد أن اللفظ المستعمل في هذه الآيات وهو " نصر" يقوم على أساس أخلاقي تهذيبي ، وليس كالتعبير بلفظ " عزر " وهي الكلمة المتفقة مع اللفظ العبري " عزار "، والتعبير بعزر تعبير حاد يقوم على أساس من المساعدة المادية " ا هـ.

فهذا الكاتب دفعه إلى رأيه الذي رآه ولم يقطع به كما هي عادته، جهله بأساليب العرب وأفانينها في البلاغة؛ فالعرب لا يفهمون من قوله تعالى: " وتعزروه" بالراء معنى النصرة المادية، بل أول ما تصل هذه الكلمة إلى أسماعهم يعلمون أن الله يريد منهم نصر دينه ونصر رسوله، وكثير من مثل هذه العبارات وارد في القرآن ؛ وما ذكره من التفرقة بين لفظ "نصر" ولفظ " عزر" من أن الأول يقوم على أساس أخلاقي تهذيبي، والثاني يقوم على أساس من المساعدة المادية، لا يقوم على أساس من الفقه اللغوي.

ويقول الكاتب في صفحة (19،20) من الكتاب نفسه: وأحب أن أهتم هنا ببعض ما ذكرته من هذه القراءات؛ لما فيه من طابع خاص ذي مبادئ جوهرية، فبعض هذه الاختلافات ترجع أسبابها إلى الخوف من أن تنسب إلى الله ورسوله عبارات قد يلاحظ فيها بعض أصحاب وجوه النظر الخاصة ما يمس الذات الإلهية العالية أو الرسول ، أو مما يرى أنه غير لائق بالمقام وهنا تغيرت القراءات من هذه الناحية بسبب هذه الأفكار التنزيهية" ..ثم ضرب لذلك أمثلة فقال :" ففي سورة آل عمران آية (18):" شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ " .. فقد فهم أن هناك ما يصطدم بشهادة الله نفسه على قدم المساواة مع الملائكة وأولي العلم فقرأ بعضهم "شهداء الله" وبهذا يكون الكلام ملتئماً مع الآية المتقدمة :" الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار، شهداء الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم" ا هـ.

والمتأمل أدنى تأمل يرى أن هذا الوهم الذي ادعى حصوله من القراءة الأولى لا يمكن أن يدور بخلد عاقل، ولم نر أحداً من العلماء خطر له هذا الإيهام، فشهادة الله مع الملائكة لا غبار عليها، ولا تفيد مساواته لمن ذكروا معه.

ويقول في صفحة (21،22) : " وفي سورة العنكبوت آيتي (2،3): " أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ".. فقوله تعالى " فليعلمن " قد يوحي إلى النفس أن الله قد علم ذلك أولاً عند الفتنة كأنه لم يكن يعلم بذلك في الأزل، ويظهر أن مثل هذا الظن قد أدى إلى قراءة علي والزهري " فيعلمن" من الإعلام، بمعنى فليعرفن الله الناس أخلاق هؤلاء وهؤلاء، أو بمعنى ليسمنهم بعلامة يعرفون بها ، من بياض الوجوه وسوادها، وكحل العيون وزرقتها . وزرقة العيون عند العرب علامة على القبح والغدر ، وأحياناً على الحسد ا هـ.

وللرد على هذا نقول : إن الله تعالى لا يعلم الشيء موجوداً إلا بعد وجوده، فتعلق علمه بالحادث باعتبار أنه حدث حادث ، وهذا لا ينافي كونه عالماً من الأزل بالشيء قبل وقوعه، فالكاتب ظن أن العلم المترتب على الفتنة هو العلم الأزلي ، ونسى علم الانكشاف والظهور ، فبنى على هذا أن من قرأ " فليعلمن " من الإعلام ، قرأ بها فراراً مما تفيده القراءة الأولى، وهذا قول باطل، ولا يخفي على صحابة رسول الله r أن فتنة الله لمن يشاء من عباده ، يراد منها أن يظهر للناس في الخارج ما اشتمل عليه علمه من الأزل ، فكيف يعقل أنهم عدلوا عن قراءة " فليعلمن " من العلم إلى قراءة "فليعلمن" من الإعلام لمجرد هذا الوهم الباطل ؟ اللهم إن الكاتب لا يريد إلا أن يوقع في أذهان الناس . أن القرآن كان عرضة للتبديل والتحريف من أصحاب رسول الله r.

وقد ساق الكاتب أمثلة كثيرة في كتابه ، كلها من هذا القبيل ولهذا الغرض بدون أن يفرق بين قراءة متواترة وقراءة شاذة، ولو أنه علم ما اشترطه المسلمون لصحة القراءة وقبولها من تواترها عن صاحب الرسالة. أو صحة السند وموافقة العربية وموافقة الرسم العثماني ، لما صار إلى هذا الرأي الباطل، ولما نسب إلى الصحابة رضوان الله عليهم مثل هذا التحريف والتبديل في كتاب ضمن الله حفظه فقال : " إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ "(1)..

***
* المصدر الثاني ـ النبي r:

المصدر الثاني الذي كان يرجع إليه الصحابة في تفسيرهم لكتاب الله تعالى هو رسول الله r، فكان الواحد منهم إذا أشكلت عليه آية من كتاب الله، رجع إلى رسول الله r في تفسيرها، فيبين له ما خفي عليه ، لأن وظيفته البيان، كما أخبر الله عنه بذلك في كتابه حيث قال : " وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ "(2)r فيما رواه أبو داود بسنده إلى الرسول r أنه قال : " ألا وإني أوتيت الكتاب ومثله معه. ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول : عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه ، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه".. الحديث(3)... وكما نبه على ذلك رسول الله

والذي يرجع إلى كتب السنة يجد أنها قد أفردت للتفسير باباً من الأبواب التي اشتملت عليها، ذكرت فيه كثيراً من التفسير المأثور عن رسول الله r ، فمن ذلك :

ما أخرجه أحمد والترمذي وغيرهما عن عدي بن حبان قال : قال رسول الله r : " إن المغضوب عليهم هم اليهود ، وإن الضالين هم النصارى".

وما رواه الترمذي وابن حبان في صحيحه عن ابن مسعود قال : قال رسول الله r " الصلاة الوسطى صلاة العصر".

وما رواه أحمد والشيخان وغيرهم عن ابن مسعود قال : " لما نزلت هذه الآية : " الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ "(1).. " شق ذلك على الناس فقالوا : يا رسول الله .. وأينا لا يظلم نفسه ؟ قال: "أنه ليس الذي تعنون ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح : إن الشرك لظلم عظيم ؟ إنما هو الشرك".

وما أخرجه مسلم وغيره عن عقبة بن عامر قال : سمعت رسول الله r يقول وهو على المنبر : "وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ"(2).. إلا وإن القوة الرمي".

وما أخرجه الترمذي عن علي قال : سألت رسول الله r عن يوم الحج الأكبر فقال :" يوم النحر ".

وما أخرجه الترمذي وابن جرير عن أبي بن كعب أنه سمع رسول الله r يقول :" وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى"(3).. قال :" لا إله إلا الله".

وما أخرجه أحمد والشيخان وغيرهما عن عائشة قالت : قال رسول الله r " من نوقش الحساب عذب" قلت: أليس يقول الله " فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً "(4) ؟ قال :" ليس ذلك بالحساب .. ولكن ذلك العرض".

وما أخرجه أحمد ومسلم عن أنس قال : قال رسول الله r " الكوثر نهر أعطانيه ربي في الجنة"(5).

وغير هذا كثير مما صح عن رسول الله r.

***
* الوضع على رسول الله r في التفسير :

غير أن القصاص والوضاع زادوا في هذا النوع من التفسير كثيراً، ونسبوا إلى رسول الله r ما لم يقله، وليس أدل على هذا مما أخرجه الحاكم عن أنس أنه قال : سئل رسول الله r عن قوله تعالى:"والقناطير المقنطرة "(6) r :" القنطار اثنا عشر ألف أوقية "(7)... قال :" القنطار ألف أوقية"، وما أخرجه أحمد وابن ماجه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله

فمثل هذا التناقض في مقدار وزن القنطار، لا يمكن أن يصدر عن رسول الله r، ولهذا رد العلماء كثيراً مما ورد من التفسير منسوباً إلى رسول الله r ، وقد نقل عن الإمام أحمد انه قال : " ثلاثة ليس لها أصل. التفسير، والملاحم، والمغازي" ومراده من قوله هذا ـ كما نقل عن المحققين من أتباعه ـ أن الغالب أنه ليس لها أسانيد صحاح متصلة(1)r في التفسير. أما الأحاديث المنقولة عن الصحابة والتابعين فلا وجه لإنكارها، وقد اعترف هو بنفسه ببعضها ا هـ(2). لا كما استظهره الأستاذ أحمد أمين حيث يقول :" وظاهر هذه الجملة أن الأحاديث التي وردت في التفسير لا أصل لها وليست بصحيحة، والظاهر ـ كما قال بعضهم ـ أنه يريد الأحاديث المرفوعة إلى النبي

وحيث يقول" إن بعض العلماء أنكر هذا الباب بتاتاً ، أعني أنه أنكر صحة ورود ما يروونه من هذا الباب، فقد روي عن الإمام أحمد أنه قال:" ثلاثة ليس لها أصل : التفسير، والملاحم ، والمغازي"(3).

نعم .. ليس الأمر كما استظهره صاحب ضحى الإسلام وفجر الإسلام، لأنه مما لا شك فيه أن النبيr صحت عنه أحاديث في التفسير، والإمام أحمد نفسه معترف بها، فكيف يعقل أن الإمام أحمد يريد من عبارته السابقة نفي الصحة عن جميع الأحاديث المرفوعة إلى النبيr في التفسير ؟ ـ وظني أن الأستاذ أراد بالبعض المذكور، المحققين من أصحاب الإمام أحمد، غاية الأمر أنه حمل كلامهم على غير ما أرادوا فوقع في هذا الخطأ ، والعجب أنه نقل عن الإتقان في هامش فجر الإسلام صفحة 245 ما استظهرناه من كلام المحققين من أتباع الإمام أحمد.

واعترف في فجر الإسلام صفحة 245، وضحي الإسلام الجزء الثاني صفحة 138 : بأنه قد صح عن رسول الله r تفسيرات لبعض ما أشكل من القرآن ، وإن كان قد اضطرب في كلامه فجعل ما ورد من التفسير عن رسول الله r بالغاً حد الكثرة، حيث قال في فجر الإسلام صفحة 245 " وهذا النوع كثير : وردت منه أبواب في كتب الصحاح الستة، وزاد فيه القصاص والوضاع كثيراً"،ثم عاد في ضحى الإسلام جزء 2 صفحة 138 فجعل ما ورد عن الرسول من التفسير بالغاً حد القلة حيث قال : " وما روي عن رسول الله r في ذلك قليل، حتى روي عن عائشة أنها قالت : لم يكن النبي r يفسر شيئاً من القرآن إلا آيات تعد، علمهن إياه جبريل"، وفاته أن الحديث مطعون فيه، فذكره دليلاً عن مدعاه ولم يعقب عليه، مع أنه أحال على الطبري في نقل الحديث ، والطبري وضح علته ، وتأوله على فرض الصحة كما سنوضح ذلك فيما بعد إن شاء الله تعالى.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
صانع المعروف
صانع المعروف


عدد المساهمات : 179
نقاط : 23882
تاريخ التسجيل : 25/06/2011

الكتاب الاسطورة مناهج المفسرين  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الكتاب الاسطورة مناهج المفسرين    الكتاب الاسطورة مناهج المفسرين  I_icon_minitimeالسبت أغسطس 13, 2011 1:55 pm

هل تناول النبي rالقرآن كله بالبيان ؟

قد يقول قائل : إن الله تعالى يقول في سورة النحل ( آية 44): " وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ".. فهل بين رسول الله r لأصحابه القرآن كله، إفراداً وتركيباً، وما يتبع ذلك من بيان الأحكام ؟ أو أنه بين لهم بعضه وسكت عن بعضه الآخر ؟ ثم على أي وجه كان هذا البيان من الرسول r لأصحابه ؟. وللجواب عن هذا نقول :

* المقدار الذي بينه رسول الله r من القرآن لأصحابه :

اختلف العلماء في المقدار الذي بينه النبي r من القرآن لأصحابه : فمنهم من ذهب إلى القول بأن رسول الله r بين لأصحابه كل معاني القرآن كما بين لهم ألفاظه،وعلى رأس هؤلاء ابن تيميه(1).

ومنهم من ذهب إلى القول بأن رسول الله r لم يبين لأصحابه من معاني القرآن إلا القليل، وعلى رأس هؤلاء : الخوبي والسيوطي(2) ، وقد استدل كل فريق على ما ذهب إليه بأدلة نوردها ليتضح لنا الحق ويظهر الصواب.

* أدلة من قال بأن النبي r بين كل معاني القرآن :

أولاً : قوله تعالى :" وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ "..

والبيان في الآية يتناول بيان معاني القرآن ، كما يتناول بيان ألفاظه، وقد بين الرسول ألفاظه كلها ، فلابد أن يكون قد بين كل معانيه أيضاً، وإلا كان مقصراً في البيان الذي كلف به من الله.

ثانياً : ما روي عن أبي عبدالرحمن السلمي(3)r عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل ، قالوا : فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعاً "، ولهذا كانوا يبقون مدة طويلة في حفظ السورة، وقد ذكر الإمام مالك في الموطأ : أن ابن عمر أقام على حفظ البقرة ثمان سنوات، والذي حمل الصحابة على هذا ، ما جاء في كتاب الله تعالى من قوله :" كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ "(4).. وتدبر الكلام بدون فهم معانيه لا يمكن، وقوله :" إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ "(5).. وعقل الكلام متضمن لفهمه، ومن المعلوم أن كل كلام يقصد منه فهم معانيه دون مجرد ألفاظه، والقرآن أولى بذلك من غيره. أنه قال :" حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن، كعثمان بن عفان ، وعبدالله بن مسعود، وغيرهما : أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي

فهذه الآثار تدل على أن الصحابة تعلموا من رسول الله r معاني القرآن كلها ، كما تعلموا ألفاظه.

ثالثاً : قالوا إن العادة تمنع أن يقرأ قوم كتاباً في فن من العلم كالطب أو الحساب ولا يستشرحوه، فكيف بكتاب الله الذي فيه عصمتهم، وبه نجاتهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة ؟

رابعاً : ما أخرجه الإمام احمد وابن ماجه عن عمر t أنه فقال : من آخر ما نزل آية الربا، وإن رسول الله r قبض قبل أن يفسرها، وهذا يدل بالفحوى على أنه كان يفسر لهم ما نزل، وأنه إنما لم يفسر هذه الآية ، لسرعة موته بعد نزولها ، وإلا لم يكن للتخصيص بها وجه(1).

* أدلة من قال بأن النبي r لم يبين لأصحابه إلا القليل من معاني القرآن :

استدل أصحاب هذا الرأي بما يأتي :

أولاً : ما أخرجه البزار عن عائشة قالت : ما كان رسول الله r يفسر شيئاً من القرآن إلا آياً بعدد، علمه إياهن جبريل"(2).

ثانياً : قالوا : إن بيان النبي r لكل معاني القرآن متعذر ولا يمكن ذلك إلا في آي قلائل ، والعلم بالمراد يستنبط بأمارات ودلائل، ولم يأمر الله نبيه بالتنصيص على المراد في جميع آياته لأجل أن يتفكر عباده في كتابه(3).

ثالثاً : قالوا: لو كان رسول الله r بين لأصحابه كل معاني القرآن لما كان لتخصيصه ابن عباس بالدعاء له بقوله :" اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل" فائدة ؛ لأنه يلزم من بيان رسول الله r لأصحابه كل معاني القرآن استواؤهم في معرفة تأويله ، فكيف يخصص ابن عباس بهذا الدعاء؟(4).

* مغالاة الفريقين :

ومن يتأمل فيما تقدم من أدلة الفريقين يتضح له أنهما على طرفي نقيض. ورأيي أن كل فريق منهم مبالغ في رأيه . وما استند إليه كل فريق من الأدلة يمكن مناقشته بما يجعله لا ينهض حجة على المدعي.

* مناقشة أدلة الفريق الأول :

فاستدلال ابن تيميه ومن معه على رأيهم بقوله تعالى : " لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ " استدلال غير صحيح ، لأن الرسول ـ بمقتضى كونه مأموراً بالبيان ـ كان ليبين لهم ما أشكل عليهم فهمه من القرآن ، لا كل معانيه ما أشكل منها وما لم يشكل.

وأما استدلالهم بما روي عن عثمان وابن مسعود وغيرهما من أنهم كانوا إذا تعلموا من النبيr عشر آيات من القرآن لم يجاوزها حتى يتعلموا ما فيها ، فهو استدلال لا ينتج المدعي ، لأن غاية ما يفيده، أنهم كانوا لا يجاوزون ما تعلموه من القرآن حتى يفهموا المراد منه ، وهو اعم من أن يفهموه من النبي r أو من غيره من إخوانهم الصحابة، أو من تلقاء أنفسهم، حسبما يفتح الله به عليهم من النظر والاجتهاد.

وأما الدليل الثالث ، فكل ما يدل عليه : هو أن الصحابة كانوا يفهمون القرآن ويعرفون معانيه ، شأن أي كتاب يقرؤه قوم ، ولكن لا يلزم منه أن يكونوا قد رجعوا إليه النبي r في كل لفظ منه.

وأما الدليل الرابع ، فلا يدل أيضاً ، أن وفاة النبي r قبل أن يبين لهم آية الربا لا تدل على أنه كان يبين لهم كل معاني القرآن ؛ فلعل هذه الآية كانت مما أشكل على الصحابة ، فكان لابد من الرجوع فيها إلى النبي r ، شأن غيرها من مشكلات القرآن.

* مناقشة أدلة الفريق الثاني :

وأما استدلال أصحاب الرأي الثاني بحديث عائشة ، فهو استدلال باطل ؛ أن الحديث منكر غريب ، لأنه من رواية محمد بن جعفر الزبيري ، وهو مطعون فيه ، قال البخاري : لا يتابع في حديثه ، وقال الحافظ أبو الفتح الأزدي " منكر الحديث " وقال فيه ابن جرير الطبري " إنه ممن لا يعرف في أهل الآثار "، وعلى فرض صحة الحديث فهو محمول ـ كما قال أبو حيان ـ على مغيبات القرآن ، وتفسيره لمجمله ، ونحوه مما لا سبيل إليه إلا بتوقيف من الله(1). وفي معناه ما قاله ابن جرير(2)وما قاله ابن عطية(3).

وأما الدليل الثاني ، فلا يدل أيضاً على ندرة ما جاء عن النبي r في التفسير ؛ إذ أن دعوة إمكان التفسير بالنسبة لآيات قلائل ، وتعذره بالنسبة للكل غير مسلمة ، وأما ما قيل من أن النبي r لم يؤمر بالتنصيص على المراد في جميع الآيات لأجل أن يتفكر الناس في آيات القرآن فليس بشيء ، إذ أن النبي r مأمور بالبيان ، وقد يشكل الكثير على أصحابه فيلزمه البيان، ولو فرض أن القرآن أشكل كله على الصحابة ما كان للنبي r أن يمتنع عن بيان كل آية منه ، بمقتضى أمر الله له في الآية : " وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ" ..

وأما الدليل الثالث ، فلو سلمنا أنه يدل على أن النبي r لم يفسر كل معاني القرآن ، فلا نسلم أنه يدل على أنه فسر النادر منه كما هو المدعي.


***
* اختيارنا في المسألة :

والرأي الذي يميل إليه النفس ـ بعد أن اتضح لنا مغالاة كل فريق في دعواه وعدم صلاحية الأدلة لإثبات المدعي ـ هو أن نتوسط بين الرأيين فنقول : إن الرسول r بين الكثير من معاني القرآن ؛ لأصحابه ، كما شهد بذلك كتب الصحاح ، ولم يبين كل معاني القرآن ؛ لأن من القرآن ما استأثر الله تعالى بعلمه ، ومنه ما يعلمه العلماء ، ومنه ما تعلمه العرب من لغاتها ، ومنه ما لا يعذر أحد في جهالته كما صرح بذلك ابن عباس فيما رواه عنه ابن جرير ، قال : " التفسير على أربعة أوجه : وجه تعرفه العرب من كلامها ، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته ، وتفسير تعرفه العلماء . وتفسير لا يعلمه إلا الله "(1).

وبدهي أن رسول الله r لم يفسر لهم ما يرجع فهمه إلى معرفة كلام العرب ؛ لأن القرآن نزل بلغتهم ، ولم يفسر لهم ما تتبادر الأفهام إلى معرفته وهو الذي لا يعذر أحد بجهله؛ لأنه لا يخفى على أحد، ولم يفسر لهم ما استأثر الله بعلمه كقيام الساعة ، وحقيقة الروح ، وغير ذلك من كل ما يجري مجرى الغيوب التي لم يطلع الله عليها نبيه ، وإنما فسر لهم رسول الله r بعض المغيبات التي أخفاها الله عنهم وأطلعه عليها وأمره ببيانها لهم ، وفسر لهم أيضاً كثيراً مما يندرج تحت القسم الثالث، وهو ما يعلمه العلماء ويرجع إلى اجتهادهم ، كبيان المجمل ، وتخصيص العام، وتوضيح المشكل ، وما إلى ذلك من كل ما خفي معناه والتبس المراد به.

هذا .. وإن مما يؤيد أن النبي r لم يفسر كل معاني القرآن، أن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، وقع بينهم الاختلاف في تأويل بعض الآيات ، ولو كان عندهم فيه نص عن رسول الله r

ما وقع هذا الاختلاف ، أو لارتفع بعد الوقوف على النص.

بقى بعد هذا أن نجيب عن الشق الثاني من السؤال ، وهو : على أي وجه كان بيان رسول الله r للقرآن ؟ فنقول :

إن الناظر في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة يجد فيهما ما يدل على أن رسول الله r وظيفته البيان لكتاب الله ، أو بعبارة أخرى ، ما يدل على أن مركز السنة النبوية من القرآن ، مركز المبين من المبين.

فمن القرآن ، قوله تعالى : " وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ".

ومن السنة ، ما رواه أبو داوود عن المقدام بن معد يكرب ، عن رسول الله r أنه قال : " ألا وإني أوتيت الكتاب ومثله معه ، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول : عليكم بهذا القرآن ، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه ، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه ، ألا لا يحل لكم الحمار الأهلي ، ولا كل ذي ناب من السباع، ولا لقطة معاهد ، إلا أن يستغني عنها صاحبها ، ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه ، فإن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قراه"(1).

فقوله : " أوتيت الكتاب ومثله معه " معناه أنه أوتي الكتاب وحياً يتلى ، وأوتي من البيان مثله . أي أذن له أن يبين ما في الكتاب. فيعم ويخص، ويزيد عليه ويشرع ما في الكتاب، فيكون في وجوب العمل به ولزوم قبوله كالظاهر المتلو من القرآن. ويحتمل وجهاً آخر : وهو انه أوتي من الوحي الباطن غير المتلو ، مثل ما أعطي من الظاهر المتلو ، كما قال تعالى في سورة النجم آيتي (3،4):" وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى " .. وأما قوله :" يوشك رجل شبعان .. الخ" فالمقصود منه التحذير من مخالفة السنة التي سنها الرسول وليس لها ذكر في القرآن ، كما هو مذهب الخوارج والروافض الذين تعلقوا بظاهر القرآن وتركوا السنن التي ضمنت بيان الكتاب فتحيروا وضلوا(2)r، ويحضره جبريل بالسنة التي تفسر ذلك "(3)وروي الأوزاعي عن مكحول قال : القرآن أحوج إلى السنة من السنة إلى القرآن(4). وروي الأوزاعي عن حسان ابن عطية قال : " كان الوحي ينزل على رسول الله


عدل سابقا من قبل صانع المعروف في السبت أغسطس 13, 2011 2:05 pm عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
صانع المعروف
صانع المعروف


عدد المساهمات : 179
نقاط : 23882
تاريخ التسجيل : 25/06/2011

الكتاب الاسطورة مناهج المفسرين  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الكتاب الاسطورة مناهج المفسرين    الكتاب الاسطورة مناهج المفسرين  I_icon_minitimeالسبت أغسطس 13, 2011 1:57 pm

* أوجه بيان السنة للكتاب :

وإذ قد اتضح لنا من الآية والحديث والآثار مقدار ارتباط السنة بالكتاب ، ارتباط المبيِّن بالمبيِّن فلنبين بعد ذلك أوجه هذا البيان فنقول :

الوجه الأول : بيان المجمل في القرآن، وتوضيح المشكل ، وتخصيص العالم، وتقييد المطلق، فمن الأول: بيانه عليه الصلاة والسلام لمواقيت الصلوات الخمس، وعدد ركعاتها، وكيفيتها، وبيانه لمقادير الزكاة، وأوقاتها ، وأنواعها، وبيانه لمناسك الحج. ولذا قال :" خذوا عني مناسككم" وقال :" صلوا كما رأيتموني أصلي ".

وقد روي ابن المبارك عن عمران بن حصين أنه قال لرجل " إنك رجل أحمق، أتجد الظهر في كتاب الله أربعاً لا يجهر فيها بالقراءة ؟ ثم عدد عليه الصلاة، والزكاة، ونحو ذلك، ثم قال : أتجد هذا في كتاب الله تعالى مفسراً ؟ إن كتاب الله تعالى أبهم هذا ، وإن السنة تفسر هذا"(1).

ومن الثاني : تفسيره r للخيط الأبيض والخيط الأسود في قوله تعالى : " حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ"(2).. بأنه بياض النهار وسواد الليل.

ومن الثالث : تخصيصه r الظلم في قوله تعالى : " الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ"(3)r " ليس بذلك ؛ إنما هو الشرك"... بالشرك، فإن بعض الصحابة فهم أن الظلم مراد منه العموم ، حتى قال : " وأينا لم يظلم نفسه ؟ فقال النبي

ومن الرابع : تقييده اليد في قوله تعالى : " فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا"(4).. باليمين.

الوجه الثاني : بيان معنى لفظ أو متعلقه ، كبيان المغضوب عليهم باليهود ، والضالين بالنصارى . وكبيان قوله تعالى : " وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ "(5) بأنها مطهرة من الحيض والبزاق والنخامة ، وكبيان قوله تعالى " وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ * فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ "(6).. بأنهم دخلوا يزحفون على أستاههم وقالوا : حبة في شعيرة.

الوجه الثالث : بيان أحكام زائدة على ما جاء في القرآن الكريم ، كتحريم نكاح المرأة على عمتها وخالتها ، وصدقة الفطر ، ورجم الزاني المحصن ، وميراث الجدة ، والحكم بشاهد ويمين ، وغير هذا كثير يوجد في كتب الفروع.

الوجه الرابع : بيان النسخ : كأن يبين رسول الله r أن آية كذا نسخت بكذا ، أو أن حكم كذا نسخ بكذا ، فقوله r : " لا وصية لوارث " بيان منه أن آية الوصية للوالدين والأقربين منسوخ حكمها وإن بقيت تلاوتها . وحديث " البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام " بيان منه أيضاً لنسخ حكم الآية (15) من سورة النساء : " وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنكُمْ ".. وغير هذا كثير.

الوجه الخامس : بيان التأكيد ، وذلك بأن تأتي السنة موافقة لما جاء به الكتاب، ويكون القصد من ذلك تأكيد وتقويته، وذلك كقوله عليه الصلاة والسلام " لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه " فإنه يوافق قوله تعالى : " لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ"(1).. وقوله عليه الصلاة والسلام : " اتقوا الله في النساء فإنهن عوان في أيديكم، أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله " فإنه موافق لقوله تعالى : " وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ"(2)..


***
* المصدر الثالث من مصادر التفسير في عصر الصحابة ـ الاجتهاد وقوة الاستنباط :

كان الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين ، إذا لم يجدوا التفسير في كتاب الله تعالى ، ولم يتيسر لهم أخذه عن رسول الله r رجعوا في ذلك إلى اجتهادهم وإعمال رأيهم ، وهذا بالنسبة لما يحتاج إلى نظر واجتهاد، أما ما يمكن فهمه بمجرد معرفة اللغة العربية فكانوا لا يحتاجون في فهمه إلى إعمال النظر، ضرورة أنهم من خلص العرب ، يعرفون كلام العرب ومناحيهم في القول، ويعرفون الألفاظ العربية ومعانيها بالوقوف على ما ورد من ذلك في الشعر الجاهلي الذي هو ديوان العرب ، كما يقول عمر t .

* أدوات الاجتهاد في التفسير عند الصحابة :

وكثير من الصحابة كان يفسر بعض آي القرآن بهذا الطريق، أعني طريق الرأي والاجتهاد ، مستعيناً على ذلك بما يأتي :

أولاً : معرفة أوضاع اللغة وأسرارها.

ثانياً : معرفة عادات العرب.

ثالثاً : معرفة أحوال اليهود والنصارى في جزيرة العرب وقت نزول القرآن.

رابعاً : قوة الفهم وسعة الإدراك.

فمعرفة أوضاع اللغة العربية وأسرارها، تعين على فهم الآيات التي لا يتوقف فهمها على غير لغة العرب. ومعرفة عادات العرب تعين على فهم كثير من الآيات التي لها صلة بعاداتهم، فمثلاُ قوله تعالى :" إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ"(3) وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا"(4).. لا يمكن فهم المراد منه ، إلا لمن عادات العرب في الجاهلية وقت نزول القرآن... وقوله :"

ومعرفة أحوال اليهود والنصارى في جزيرة العرب وقت نزول القرآن، تعين على فهم الآيات التي فيها الإشارة إلى أعمالهم والرد عليهم.

ومعرفة أسباب النزول، وما أحاط بالقرآن من ظروف وملابسات، تعين على فهم كثير من الآيات القرآنية، ولهذا قال الواحدي"لا يمكن معرفة تفسير الآية دون الوقوف على قصتها وبيان نزولها"(1). وقال ابن دقيق العيد :" بيان سبب النزول طريق قوي في فهم معاني القرآن "(2). وقال ابن تيميه :"معرفة سبب النزول يعين على فهم الآية. فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب"(3).

وأما قوة الفهم وسعة الإدراك، فهذا فضل الله يؤتيه من يشاء من عباده. وكثير من آيات القرآن يدق معناه، ويخفي المراد منه ، ولا يظهر إلا لمن أوتي حظاً من الفهم ونور البصيرة، ولقد كان ابن عباس صاحب النصيب الكبر والحظ الأوفر من ذلك ، وهذا ببركة دعاء رسول الله r له بذلك حيث قال : " اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل".

وقد روي البخاري في صحيحه بسنده إلى أبي جحيفة t أنه قال :" قلت لعلي t : هل عندكم شيء من الوحي إلا ما في كتاب الله ؟ قال : لا ، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما أعلمه إلا فهماً يعطيه الله رجلاً في القرآن ، وما في هذه الصحيفة، قلت : وما في هذه الصحيفة ؟ قال : العقل ، وفكاك الأسير ، وإلا يقتل مسلم بكافر "(4).

هذه هي أدوات الفهم والاستنباط التي استعان بها الصحابة على فهم كثير من آيات القرآن ، وهذا هو مبلغ أثرها في الكشف عن غوامضه وأسراره.

***
* تفاوت الصحابة في فهم معاني القرآن :

غير أن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، كانوا متفاوتين في معرفتهم بهذه الأدوات، فلم يكونوا جميعاً في مرتبة واحدة، السبب الذي من أجله اختلفوا في فهم معاني القرآن، وإن كان اختلافاً يسيراً بالنسبة لاختلاف التابعين ومن يليهم. ومن أمثلة هذا الاختلاف : ما روي من أن عمر استعمل قدامة بن مظعون على البحرين فقدم الجارود على عمر فقال : إن قدامة شرب فسكر ، فقال عمر : من يشهد على ما تقول ؟ قال الجارود : أبو هريرة يشهد على ما أقول، فقال عمر : يا قدامة إني جالدك، قال : والله لو شربت كما يقول ما كان لك أن تجلدني ، قال عمر : ولم ؟ قال : لأن الله يقول : "لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ "(1)r بدراً ، وأحداً ، والخندق ، والمشاهد فقال عمر : ألا تردون عليه قوله ؟ فقال ابن عباس : إن هذه الآيات أنزلت عذراً للماضين وحجة على الباقين ؛ لأن الله يقول : "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ"(2).. وقال عمر : صدقت .. ا هـ (3)... فأنا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ثم اتقوا وآمنوا ، ثم اتقوا وأحسنوا، شهدت مع رسول الله

وما روي من أن الصحابة فرحوا حينما نزل قوله تعالى :" الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ"(4)r ، وقد كان مصيباً في ذلك ، إذ لم يعش النبي r بعدها إلا أحداً وثمانين يوماً كما روي"(5)... لظنهم أنها مجرد إخبار وبشرى بكمال الدين ، ولكم عمر بكى وقال : ما بعد الكمال إلا النقص ، مستشعراً نعي النبي

وما رواه البخاري من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : "كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر ، فكأن بعضهم وجد في نفسه وقال : لم يدخل هذا معنا وإن لنا أبناء مثله ؟ فقال عمر : إنه من أعلمكم، فدعاهم ذات يوم فأدخلني معهم فما رأيت أنه دعاني فيهم إلا ليريهم، فقال ما تقولون في قوله تعالى :" إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ "(6)r اعلمه الله له ، قال :" إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ "..، فذلك علامة أجلك " فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً "(7).. فقال عمر : لا أعلم منها إلا ما تقول "(Cool؟ فقال بعضهم : أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا، وسكت بعضهم ولم يقل شيئاً ، فقال لي : أكذلك تقول يا ابن عباس ؟ فقلت : لا ، فقال ما تقول ؟ قلت : هو أجل رسول الله

***
* المصدر الرابع من مصادر التفسير في هذا العصر ـ أهل الكتاب من اليهود والنصارى :

المصدر الرابع للتفسير في عهد الصحابة هم أهل الكتاب من اليهود والنصارى.

وذلك أن القرآن الكريم يتفق مع التوراة في بعض المسائل، وبالأخص في قصص الأنبياء، وما يتعلق بالأمم الغابرة، وكذلك يشتمل القرآن على مواضع وردت في الإنجيل كقصة ميلاد عيسى ابن مريم، ومعجزاته عليه السلام.

غير أن القرآن الكريم اتخذ منهجاً يخالف منهج التوراة والإنجيل، فلم يتعرض لتفاصيل جزيئات المسائل، ولم يستوف القصة من جميع نواحيها، بل اقتصر من ذلك على موضع العبرة فقط.

ولما كانت العقول دائماً تميل إلى الاستيفاء والاستقصاء، جعل بعض الصحابة ـ رضي الله عنهم أجمعين ـ يرجعون في استيفاء هذه القصص التي لم يتعرض لها القرآن من جميع نواحيها إلى من دخل في دينهم من أهل الكتاب، كعبدالله بن سلام، وكعب الأحبار، وغيرهم من علماء اليهود والنصارى.

وهذا بالضرورة كان بالنسبة إلى ما ليس عندهم فيه شيء عن رسول الله r ، لأنه لو ثبت شيء في ذلك عن رسول الله ما كانوا يعدلون عنه إلى غيره مهما كان المأخوذ عنه.

***
* أهمية هذا المصدر بالنسبة للمصادر السابقة :

غير أن رجوع بعض الصحابة إلى أهل الكتاب، لم يكن له من الأهمية في التفسير ما للمصادر الثلاثة السابقة، وإنما كان مصدراً ضيقاً محدوداً، وذلك أن التوراة والإنجيل وقع فيهما كثير من التحريف والتبديل، وكان طبيعياً أن يحافظ الصحابة على عقيدتهم، ويصونوا القرآن عن أن يخضع في فهم معانيه لشيء مما جاء ذكره في هذه الكتب التي لعبت فيها أيدي المحرفين، فكانوا لا يأخذون عن أهل الكتاب إلا ما يتفق وعقيدتهم ولا يتعارض مع القرآن. أما ما اتضح لهم كذبه مما يعارض القرآن ويتنافى مع العقيدة فكانوا يرفضونه ولا يصدقونه، ووراء هذا وذاك ما هو مسكوت عنه، لا هو من قبيل الأول، ولا هو من قبيل الثاني ، وهذا النوع كانوا يسمعونه من أهل الكتاب ويتوقفون فيه، فلا يحكمون عليه بصدق ولا بكذب، امتثالاً لقول الرسول r : " لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا … الآية".

وسنوفق بمشيئة الله تعالى بين هذا الحديث وحديث : " بلغوا عني ولو آية ، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج …" ونذكر مدى تأثير اليهودية، والنصرانية على التفسير في أدواره المختلفة من لدن عصر الصحابة إلى عصر التدوين، وذلك عند الكلام عن التفسير المأثور إن شاء الله تعالى.

***

الفصل الثاني


المفسرون من الصحابة
اشتهر بالتفسير من الصحابة عدد قليل، قالوا في القرآن بما سمعوه من رسول الله r مباشرة أو بالواسطة، وبما شاهدوه من أسباب النزول، وبما فتح الله به عليهم من طريق الرأي والاجتهاد.

* أشهر المفسرين من الصحابة :

وقد عد السيوطي رحمه الله في الإتقان من اشتهر بالتفسير من الصحابة وسماهم، وهم : الخلفاء الأربعة، وابن مسعود، وابن عباس، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت ، وأبو موسى الأشعري ، وعبدالله بن الزبير ، رضي الله عنهم أجمعين.

وهناك من تكلم في التفسير من الصحابة غير هؤلاء : كأنس بن مالك ، وأبي هريرة ، وعبدالله بن عمر ، وجابر بن عبدالله ، وعبدالله بن عمرو بن العاص، وعائشة ، غير أن ما نقل عنهم في التفسير قليل جداً، ولم يكن لهم من الشهرة بالقول في القرآن ما كان للعشرة المذكورين أولاً ، كما أن العشرة الذين اشتهروا بالتفسير، تفاوتوا قلة وكثرة ، فأبو بكر وعمر وعثمان لم يرد عنهم في التفسير إلا النزر اليسير، ويرجع السبب في ذلك وجودهم في وسط أغلب أهله علماء بكتاب الله ، واقفون على أسراره، عارفون بمعانيه وأحكامه، مكتملة فيهم خصائص العروبة، مما جعل الحاجة إلى الرجوع إليهم في التفسير غير كبيرة.

أما علي بن أبي طالب t، فهو أكثر الخلفاء الراشدين رواية عنه في التفسير، والسبب في ذلك راجع إلى تفرغه عن مهام الخلافة مدة طويلة، دامت إلى نهاية خلافة عثمان t وتأخر وفاته إلى زمن كثرت فيه حاجة الناس إلى من يفسر لهم ما خفي عنهم من معاني القرآن، وذلك ناشئ من اتساع رقعة الإسلام، ودخول كثير من الأعاجم في دين الله ، مما كاد يذهب بخصائص اللغة العربية.

وكذلك كثرت الرواية في التفسير عن عبدالله بن عباس ، وعبدالله ابن مسعود، وأبيَّ بن كعب، لحاجة الناس إليهم، ولصفات عامة مكنت لهم ولعلي بن أبي طالب أيضاً في التفسير، هذه الصفات هي : قوتهم في اللغة العربية، وإحاطتهم بمناحيها وأساليبها ، وعدم تحرجهم من الاجتهاد وتقرير ما وصلوا إليه باجتهادهم، ومخالطتهم للنبي r مخالطة مكنتهم من معرفة الحوادث التي نزلت فيها آيات القرآن، نستثنى من ذلك ابن عباس، فإنه لم يلازم النبي r في شبابه. لوفاة النبي r وهو في سن الثالثة عشرة أو قريب منها ، لكنه استعاض عن ذلك بملازمة كبار الصحابة ، يأخذ عنهم ويروى لهم.

أما باقي العشرة وهم : زيد بن ثابت ، وأبو موسى الأشعري ، وعبدالله ابن الزبير، فهم وإن اشتهروا بالتفسير إلا أنهم قلت عنهم الرواية ولم يصلوا في التفسير إلى ما وصل إليه هؤلاء الأربعة المكثرون.

لهذا نرى الإمساك عن الكلام في شأن أبي بكر، وعمر ، وعثمان، وزيد ابن ثابت، وأبي موسى الأشعري، وعبدالله بن الزبير، ونتكلم عن علي، وابن عباس ، وابن مسعود ، وأبي بن كعب ، نظراً لكثرة الرواية عنهم في التفسير، كثرة غذت مدارس الأمصار على اختلافها وكثرتها.

ولو أنا رتبنا هؤلاء الأربعة حسب كثرة ما روي عنهم لكان أولهم عبدالله بن عباس ، ثم عبدالله بن مسعود ، ثم علي بن أبي طالب ، ثم أبي بن كعب وسنتكلم عن كل واحد من هؤلاء الأربعة ، بما يتناسب مع مشربه في التفسير ومنحاه الذب نحاه فيه.

***
1- عبدالله بن عباس
* ترجمته :

هو عبدالله بن عباس بن عبدالمطلب بن هاشم بن عبد مناف القرشي الهاشمي ، ابن عم رسول الله r ، وأمه لبابة الكبرى بنت الحارث ابن حزن الهلالية. ولد والنبي r وأهل بيته بالشعب بمكة. فأتى به النبي r فحنكه بريقه، وذلك قبل الهجرة بثلاث سنين، ولازم النبي r في صغره؛ لقرابته منه، ولأن خالته ميمونة كانت من أزواج رسول الله r ، وتوفى رسول الله r وله من العمر ثلاث عشرة سنة، وقيل خمس عشرة ، فلازم كبار الصحابة وأخذ عنهم ما فاته من حديث رسول الله r ، وكانت وفاته سنة ثمان وستين على الأرجح ، وله من العمر سبعون سنة .مات بالطائف ودفن بها ، وضعه في قبره محمد ابن الحنفية، وقال بعد أن سوى التراب : مات والله اليوم حبر هذه الأمة.

***
* مبلغه من العلم :

كان ابن عباس يلقب بالحبر والبحر لكثرة علمه، وكان على درجة عظيمة من الاجتهاد والمعرفة بمعاني كتاب الله، ولذا انتهت إليه الرياسة في الفتوى والتفسير، وكان عمر t يجلسه في مجلسه مع كبار الصحابة ويدنيه منه ، وكان يقول له : إنك لأصبح فتياننا وجهاً ، وأحسنهم خلقاً، وأفقههم في كتاب الله. وقال في شأنه : ذاكم فتى الكهول ؛ إن له لساناً سئولاً ، وقلباً عقولاً. وكان لفرط أدبه إذا سأله عمر مع الصحابة عن شيء يقول : لا أتكلم حتى يتكلموا. وكان عمر t يعتد برأي ابن عباس مع حداثة سنه؛ يدلنا على ذلك ما رواه ابن الأثير في كتابه " أسد الغابة " عن عبيد الله بن عبدالله بن عتبة قال :" إن عمر كان إذا جاءته الأقضية المعضلة قال لابن عباس : إنها قد طرأت علينا أقضية وعضل ، فأنت لها ولأمثالها ، فكان يأخذ بقوله، وما كان يدعو لذلك أحداً سواه" قال عبيد الله : وعمر هو عمر في حذقه واجتهاده لله وللمسلمين، وما رواه البخاري من طريق سعيد ابن جبير عن ابن عباس قال "كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر ، فكأن بعضهم وجد في نفسه وقال : لم يدخل هذا معنا وإن لنا أبناء مثله ؟ فقال عمر : إنه من أعلمكم ، فدعاهم ذات يوم فأدخلني معهم فما رأيت أنه دعاني فيهم إلا ليريهم، فقال ما تقولون في قوله تعالى :" إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ " ؟ فقال بعضهم : أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا، وسكت بعضهم ولم يقل شيئاً ، فقال لي : أكذلك تقول يا ابن عباس ؟ فقلت : لا ، فقال ما تقول ؟ قلت : هو أجل رسول الله r اعلمه الله له ، قال :" إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ "..، فذلك علامة أجلك " فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً " فقال عمر : لا أعلم منها إلا ما تقول " اهـ . وهذا يدل على قوة فهمه وجودة فكره. وقال فيه ابن مسعود t :" نعم ترجمان القرآن ابن عباس". وقال فيه عطاء " ما رأيت أكرم من مجلس ابن عباس، أصحاب الفقه عنده، وأصحاب القرآن عنده وأصحاب الشعر عنده، يصدرهم كلهم من واد واسع". وقال عبيد الله ابن عبدالله بن عتبة : " كان ابن عباس قد فات الناس بخصال : بعلم ما سبقه وفقه فيما احتيج إليه من رأيه، وحلم ونسب، وتأويل، وما رأيت أحداً كان أعلم بما سبقه من حديث رسول الله r منه ، ولا بقضاء أبي بكر وعمر وعثمان منه ، ولا أفقه في رأي منه ولا أثقب رأياً فيما احتيج إليه منه، ولقد كان يجلس يوماً ولا يذكر فيه إلا الفقه ، ويوماً التأويل، ويوماً المغازي، ويوماً الشعر، ويوماً أيام العرب، ولا رأيت عالماً قط جلس إليه إلا خضع له، وما رأيت سائلاً قط سأله إلا وجد عنده علماً". وقيل لطاووس : لزمت هذا الغلام ـ يعني ابن عباس ـ وتركت الأكابر من أصحاب رسول الله r ، قال : إني رأيت سبعين رجلاً من أصحاب رسول الله r إذا تدارءوا في أمر صاروا إلى قول ابن عباس ". وروي الأعمش عن أبي وائل قال : " استخلف علي عبدالله ابن عباس على الموسم فقرأ في خطبته سورة البقرة ـ وفي رواية سورة النور ـ ففسرها تفسيراً لو سمعته الروم والترك والديلم لأسلموا" وكان علي بن أبي طالب يثني على تفسير ابن عباس ويقول : " كأنما ينظر إلى الغيب من ستر رقيق".

وبالجملة ، فقد كانت حياة ابن عباس حياة علمية، يتعلم ويعلم، ولم يشتغل بالإمارة إلا قليلاً لما استعمله عليَّ على البصرة، والحق: أن ابن عباس قد ظهر فيه النبوغ العربي بأكمل معانيه. علماً، وفصاحة، وسعة اطلاع في نواح علمية مختلفة، لاسيما فهمه لكتاب الله تعالى. وخير ما يقال فيه ما قاله ابن عمر t :" ابن عباس أعلم أمة محمد بما نزل على محمد"(1).

***
* أسباب نبوغه :

ونستطيع أن نرجع هذه الشهرة العلمية؛ وهذا النبوغ الواسع الفياض، إلى أسباب نجملها فيما يلي :

أولاً : دعاء النبي r له بقوله : "اللهم علمه الكتاب والحكمة"، وفي رواية أخرى " اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل"؛ والذي يرجع إلى كتب التفسير بالمأثور ، يرى أثر هذه الدعوة النبوية، يتجلى واضحاً فيما صح عن ابن عباس t.

ثانياً : نشأته في بيت النبوة، وملازمته لرسول الله r من عهد التمييز؛ فكان يسمع منه الشيء الكثير، ويشهد كثيراً من الحوادث والظروف التي نزلت فيها بعض آيات القرآن.

ثالثاً : ملازمته لأكابر الصحابة بعد وفاة النبي r، يأخذ عنهم ويروي لهم، ويعرف منهم مواطن نزول القرآن، وتواريخ التشريع وأسباب النزول، وبهذا استعاض عما فاته من العلم بموت رسول الله r ، وتحدث بهذا ابن عباس عن نفسه فقال " وجدت عامة حديث رسول الله r عند الأنصار، فإن كنت لآتي الرجل فأجده نائماً ، لو شئت أن يوقظ لي لأوقظ؛ فأجلس على بابه تسفي على وجهي الريح حتى يستيقظ متى ما استيقظ، وأسأله عما أريد، ثم أنصرف".

رابعاً: حفظه للغة العربية، ومعرفته لغريبها، وآدابها، وخصائصها، وأساليبها؛ وكثيراً ما كان يستشهد للمعنى الذي يفهمه من لفظ القرآن بالبيت والأكثر من الشعر العربي.

خامساً : بلوغه مرتبة الاجتهاد، وعدم تحرجه منه، وشجاعته، في بيان ما يعتقد أنه الحق، دون أن يأبه لملامة لائم ونقد ناقد ، ما دام يثق بأن الحق في جانبه، وكثيراً ما انتقد عليه ابن عمر جرأته على تفسير القرآن، ولكن لم ترق إليه همة نقده، بل ما لبث أن رجع إلى قوله، واعترف بمبلغ علمه: فقد روي أن رجلاً أتى ابن عمر يسأله عن معنى قوله تعالى:" أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا"(2).. فقال: اذهب إلى ابن عباس ثم تعال أخبرني، فذهب فسأله فقال : كانت السموات رتقاً لا تمطر، وكانت الأرض رتقاً لا تنبت، ففتق هذه بالمطر، وهذه بالنبات، فرجع الرجل إلى ابن عمر فأخبره فقال :قد كنت أقول : ما يعجبني جرأة ابن عباس على تفسير القرآن. فالآن قد علمت أنه أوتي علماً.

هذه هي أهم الأسباب التي ترجع إليها شهرة ابن عباس في التفسير، يضاف إلى ذلك كونه من أهل بيت النبوة، منبع الهداية. ومصدر النور، وما وهبه الله من قريحة وقادة، وعقل راجح، ورأي صائب، وإيمان راسخ، ودين متين.

***
* قيمة ابن عباس في تفسير القرآن :

تتبين قيمة ابن عباس في التفسير، من قول تلميذه مجاهد : " إنه إذا فسر الشيء رأيت عليه النور" ، ومن قول علي t يثني عليه في تفسيره:" كأنما ينظر إلى الغيب من ستر رقيق"، ومن قول ابن عمر: "ابن عباس أعلم أمة محمد بما نزل على محمد"، ومن رجوع بعض الصحابة وكثير من التابعين إليه في فهم ما أشكل عليهم من كتاب الله، فكثيراً ما توجه إليه معاصروه ليزيل شكوكهم، ويكشف لهم عما عز عليهم فهمه من كتاب الله تعالى. ففي قصة موسى مع شعيب أشكل على بعض أهل العلم، أي الأجلين قضى موسى؟ هل كان ثمان سنين ؟ أو أنه أتم عشراً؟ ولما لم يقف على رأي يمم شطر ابن عباس ، الذي هو بحق ترجمان القرآن، ليسأله عما أشكل عليه، وفي هذا يروي الطبري في تفسيره، عن سعيد بن جبير قال : " قال يهودي بالكوفة ـ وأنا أتجهز للحج ـ إني أراك رجلاً تتبع العلم، فأخبرني أي الأجلين قضى موسى ؟ قلت : لا أعلم، وأنا الآن قادم على حبر العرب ـ يعني ابن عباس ـ فسائله عن ذلك، فلما قدمت مكة سألت ابن عباس عن ذلك وأخبرته بقول اليهودي، فقال ابن عباس قضى أكثرهما وأطيبهما؛ إن النبي إذا وعد لم يخلف، وقال سعيد : فقدمت العراق فلقيت اليهودي فأخبرته فقال : صدق وما أنزل على موسى ، هذا والله العالم ا هـ(1).

وهذا عمر t يسأل الصحابة عن معنى آية من كتاب الله، فلما لم يجد عندهم جواباً مرضياً رجع إلى ابن عباس فسأله عنها ، وكان يثق بتفسيره، وفي هذا يروي الطبري:" أن عمر سأل الناس عن هذه الآية، يعني :" أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ " .. الآية(2).. فما وجد أحداً يشفيه، حتى قال ابن عباس وهو خلفه: يا أمير المؤمنين.. إني أجد في نفسي منها شيئاً، فتلفت إليه فقال: تحول ههنا، لم تحقر نفسك ؟ قال : هذا مثل ضربه الله عز وجل فقال : أيود أحدكم أن يعمل عمره بعمل أهل الخير وأهل السعادة، حتى إذا كان أحوج ما يكون إلى أن يختمه بخير حين فنى عمره واقترب أجله ، ختم ذلك بعمل من عمل أهل الشقاء فأفسده كله، فحرقه أحوج ما كان إليه" ا هـ(1).

وسؤال عمر له مع الصحابة عن تفسير قوله تعالى : " إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ " وجوابه بالجواب المشهور عنه، يدل على أن ابن عباس كان يستخرج خفي المعاني التي يشير إليها القرآن، ولا يدركها إلا من نفحه الله بنفحة من روحه، وكثيراً ما ظهر ابن عباس في المسائل المعقدة في التفسير بمظهر الرجل الملهم الذي ينظر إلى الغيب من ستر رقيق، كما وصفه علي t، الأمر الذي جعل الصحابة يقدرون ابن عباس ويثقون بتفسيره، ولقد وجد هذا التقدير صداه في عصر التابعين، فكانت هناك مدرسة يتلقى تلاميذها التفسير عن ابن عباس. استقرت هذه المدرسة بمكة، ثم غذت بعلمها الأمصار المختلفة، وما زال تفسير ابن عباس يلقي من المسلمين إعجاباً وتقديراً، إلى درجة أنه إذا صح النقل عن ابن عباس لا يكادون يعدلون عن قوله إلى قول آخر ،صرح الزركشي بأن قول ابن عباس مقدم على قول غيره من الصحابة عند تعارض ما جاء عنهم في التفسير(2).

***
* رجوع ابن عباس إلى أهل الكتاب :

كان ابن عباس كغيره من الصحابة الذين اشتهروا بالتفسير، يرجعون في فهم معاني القرآن إلى ما سمعوه من رسول الله r، وإلى ما يفتح الله به عليهم من طريق النظر والاجتهاد، مع الاستعانة في ذلك بمعرفة أسباب النزول والظروف والملابسات التي نزل فيها القرآن. وكان t يرجع إلى أهل الكتاب ويأخذ عنهم، بحكم اتفاق القرآن مع التوراة والإنجيل في كثير من المواضع التي أجملت في القرآن وفصلت في التوراة أو الإنجيل، ولكن كما قلنا فيما سبق إن الرجوع إلى أهل الكتاب كان في دائرة محدودة ضيقة، تتفق مع القرآن وتشهد له، أما ما عدا ذلك مما يتنافى مع القرآن، ولا يتفق مع الشريعة الإسلامية، فكان ابن عباس لا يقبله ولا يأخذ به.

***


2- عبدالله بن مسعود
* ترجمته :

هو عبدالله بن مسعود بن غافل، يصل نسبه إلى مضر، ويكنى بأبي عبدالرحمن الهذلي، وأمه أم عبد بنت عبدود، من هذيل، وكان ينسب إليها أحياناً فيقال ابن أم عبد. كان رحمه الله خفيف اللحم قصيراً، شديد الأدمة، أسلم قديماً. روى الأعمش، عن القاسم بن عبدالرحمن، عن أبيه قال :قال عبدالله ـ يعني ابن مسعود ـ" لقد رأيتني سادس ستة ما على ظهر الأرض مسلم غيرنا" وهو أول من جهر بالقرآن بمكة وأسمعه قريشاَ بعد رسول الله r، وأوذي في الله من أجل ذلك، ولما أسلم عبدالله بن مسعود أخذه رسول الله r إليه فكان يخدمه في أكثر شئونه، وهو صاحب طهوره وسواكه ونعله، يلبسه إياه إذا قام، ويخلعه ويحمله في ذراعه إذا جلس ، ويمشي أمامه إذا سار، ويستره إذا اغتسل، ويوقظه إذا نام، ويلج عليه داره بلا حجاب، حتى لقد ظنه أبو موسى الأشعري t من أهل بيت رسول الله r ، ففي البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري t قال : " قدمت أنا وأخي من اليمن فمكثنا حيناً لا نرى ابن مسعود وأمه إلا من أهل بيت رسول الله r؛ لما نرى من كثرة دخوله ودخول أمه على رسول الله r ولزومه له". وهاجر إلى الحبشة، ثم إلى المدينة ، وصلى إلى القبلتين

، وشهد بدراً ، وأحداً ، والخندق ، وبيعة الرضوان ، وسائر المشاهد مع رسول الله r ، وشهد اليرموك بعد وفاة رسول الله r. وهو الذي أجهز على أبي جهل يوم بدر، وقد شهد له رسول الله r بالجنة وشهد له بالفضل وعلو المنزلة؛ يدل على ذلك ما أخرجه الإمام أحمد في مسنده عن علي قال : قال رسول الله r : " لو كنت مؤمراً أحداً دون مشورة المؤمنين لأمرت ابن أم عبد". وقد ولي بيت المال بالكوفة لعمر وعثمان، وقدم المدينة في آخر عمره ، ومات بها سنة اثنتين وثلاثين، ودفن بالبقيع ليلاً ، تنفيذاً لوصيته بذلك ، وكان عمره يوم وفاته، بضعاً وستين سنة .

***
* مبلغه من العلم :

كان ابن مسعود من أحفظ الصحابة لكتاب الله، وكان رسول الله r يحب أن يسمع منه القرآن ، وقد أخبر هو بنفسه عن ذلك فقال : قال لي رسول الله r : اقرأ علي سورة النساء، قال : قلت: اقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال : إني أحب أن أسمعه من غيري، فقرأت عليه حتى بلغت :" فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاء شَهِيداً "(1)r. وكان رسول الله r يقول:" من سره أن يقرأ القرآن رطباً كما أنزل ، فليقرأه على قراءة ابن أم عبد". وكان ابن مسعود يعرف ذلك من نفسه ويعتز به ، حتى إنه كره لزيد بن ثابت نسخ المصاحف في عهد عثمان، وكان يرى أنه أولى منه بذلك، وقد قال في هذا :" يا معشر المسلمين .. أعزل عن نسخ المصاحف ويتولاه رجل والله لقد أسلمت وإنه لفي صلب رجل كافر"؟ يريد زيد بن ثابت. وعن مسروق أنه قال :" انتهى علم أصحاب رسول الله r إلى ستة: عمر ، وعلي ، وعبدالله بن مسعود، وأبي بن كعب ، وأبي الدرداء، وزيد بن ثابت، ثم انتهى علو هؤلاء الستة إلى رجلين : علي ، وعبدالله" وقيل لحذيفة:أخبرنا برجل قريب السمت والدل والهدى من رسول الله r نأخذ عنه، فقال: " لا نعلم أحداً أقرب سمتاً ولا هدياً برسول الله r من ابن أم عبد، ولقد علم المحفوظون من أصحاب محمد r ، أن ابن أم عبد أقربهم إلى الله وسيلة". ولما سيره عمر t إلى الكوفة كتب إلى أهلها:" إني قد بعثت عمار بن ياسر أميراً ، وعبدالله بن مسعود معلماً ووزيراً، وهما من النجباء من أصحاب رسول الله r من أهل بدر فاقتدوا بهما، وأطيعوا واسمعوا قولهما، وقد آثرتكم بعبدالله على نفسي"... فاضت عيناه

وقد أقام t بالكوفة يأخذ عنه أهلها الحديث والتفسير والفقه، وهو معلمهم وقاضيهم ، ومؤسس طريقتهم في الاعتداد بالرأي حيث لا يوجد النص، ولما قدم على الكوفة، حضر عنده قوم وذكروا له بعض قول عبدالله وقالوا : يا أمير المؤمنين ما رأينا رجلاً أحسن خلقاً، ولا أرفق تعليماً، ولا أحسن مجالسة، ولا أشد ورعاً من ابن مسعود، قال علي :" أنشدكم الله أهو الصدق من قلوبكم "؟ قالوا : نعم، قال : " اللهم اشهد إني أقول مثل ما قالوا وأفضل".

ومن هذا كله يتبين لنا مكانة ابن مسعود t في العلم، ومنزلته بين إخوانه من الصحابة، فالكل يشهد له ويقدمه على غيره، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء من عباده(2).

***
* قيمة ابن مسعود في التفسير :

روى ابن جرير وغيره عن ابن مسعود أنه قال :" كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن"، ومن هذا الأثر يتضح لنا مقدار حرص ابن مسعود على تفهم كتاب الله تعالى والوقوف على معانيه ، وعن مسروق قال : " قال عبدالله ـ يعني ابن مسعود ـ والذي لا إله غيره ما نزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيم نزلت وأين نزلت، ولو أعلم مكان أحد أعلم بكتاب الله مني تناولته المطايا لأتيته"، وهذا الأثر يدل على إحاطة ابن مسعود بمعاني كتاب الله، وأسباب نزول الآيات، وحرصه على تعرف ما عند غيره من العلم بكتاب الله تعالى ولو لقى عنتاً ومشقة، وقال مسروق: كان عبدالله يقرأ علينا السورة ثم يحدثنا فيها ويفسرها عامة النهار، وروى أبو نعيم في الحلية عن أبي البحتري قال : قالوا لعلي: أخبرنا عن ابن مسعود، قال: علم القرآن والسنة ثم انتهى، وكفى بذلك علماً، وقال عقبة ابن عامر : ما أدري أحداً أعلم بما نزل على محمد من عبدالله، فقال أبو موسى: إن تقل ذلك، فإنه كان يسمع حين لا نسمع، ويدخل حين لا ندخل، وصح عن ابن مسعود أنه قال : أخذت من في رسول الله r سبعين سورة، وقال أبو وائل : لما حرق عثمان المصاحف بلغ ذلك عبدالله فقال: لقد علم أصحاب محمد إني أعلمهم بكتاب الله وما أنا بخيرهم، ولو أني أعلم أن أحداً أعلم بكتاب الله مني تبلغه الإبل لأتيته، قال أبو وائل: فقمت إلى الحلق أسمع ما يقولون، فما سمعت أحداً من أصحاب محمد ينكر ذلك عليه… وغير هذا كثير من الآثار التي تشهد لمنزلة ابن مسعود العالية في التفسير، وإذا كان ابن مسعود يعلم هذا من نفسه ويتحدث به، فإن أصحاب رسول الله r لم ينكروا عليه ذلك، بل وتحدثوا بمكانته في العلم، ومقدار فهمه لكتاب الله، وعلل ذلك أبو موسى الأشعري t؛ بأنه كان يسمع حين لا يتيسر لهم السماع، ويدخل حين لا يؤذن لهم بالدخول، الأمر الذي جعله أوفر حظاً في الأخذ عن الرسول r، وأعظم نصيباً من الاغتراف من منهل النبوة الفياض ، ولئن صح عن أبي الدرداء أنه قال بعد موت ابن مسعود: ما ترك بعده مثله، لهي شهادة منه على مقدار علمه، وسمو مكانته بين أصحاب رسول الله r، وبالجملة فابن مسعود كما قيل: أعلم الصحابة بكتاب الله تعالى، وأعرفهم بمحكمه ومتشابهه وحلاله وحرامه ، وقصصه وأمثاله ، وأسباب نزوله، قرأ القرآن فأحل حلاله وحرم حرامه، فقيه في الدين، عالم بالسنة، بصير بكتاب الله.

***
* الرواية عن ابن مسعود ومبلغها من الصحة :

ابن مسعود أكثر من روى عنه في التفسير من الصحابة بعد ابن عباسt ، قال السيوطي في الإتقان : وأما ابن مسعود فقد روى عنه أكثر مما روي عن علي(1)، وقد حمل علم ابن مسعود في التفسير أهل الكوفة نظراً لوجوده بينهم، يجلس إليهم فيأخذون عنه ويروون له، فمن رواته مسروق بن الأجدع الهمداني، وعلقمة بن قيس النخعي ، والأسود ابن يزيد، وغيرهم من علماء الكوفة الذين تتلمذوا له ورووا عنه. وسيأتي الكلام على هؤلاء جميعاً ـ إن شاء الله تعالى ـ عند الكلام عن التفسير في عصر التابعين، وقد وردت أسانيد كثيرة تنتهي إلى ابن مسعود، نجدها مبثوثة في كتب التفسير بالمأثور وكتب الحديث ، ومن هذه الروايات ما يمكن الاعتماد عليه والثقة به ، ومنها ما يعتريه الضعف في رجاله، أو الانقطاع في إسناده،وقد تتبع العلماء النقاد هذه الروايات ، كما تتبعوا غيرها بالنقد تجريحاً وتعديلاً وهذه هي أشهر الطرق عن ابن مسعود.

أولاً : طريق الأعمش ، عن أبي الضحى، عن مسروق ، عن ابن مسعود . وهذه الطريق من أصح الطرق وأسلمها ، وقد اعتمد عليها البخاري في صحيحه.

ثانياُ : طريق مجاهد، عن أبي معمر ، عن ابن مسعود ، وهذه أيضاً طريق صحيحة لا يعتريها الضعف. وقد اعتمد عليها البخاري في صحيحه أيضاً.

ثالثاً : طريق الأعمش ، عن أبي وائل ، عن ابن مسعود ، وهذه أيضاً طريق صحيحة يخرج البخاري منها ، وكفى بتخريج البخاري شاهداً على صحتها وصحة ما سبق.

رابعاً : طريق السدي الكبير ، عن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود . وهذه الطريق يخرج منها الحاكم في مستدركه، ويصحح ما يخرجه. وابن جرير يخرج منها في تفسيره كثيراً ، وقد علمت فيما مضى قيمة السدي الكبير في باب الرواية.

خامساً : طريق أبي روق ، عن الضحاك، عن ابن مسعود. وابن جرير يخرج منها في تفسيره أيضاً. وهذه الطريق غير مرضية؛ لأن الضحاك لم يلق ابن مسعود فهي طريق منقطعة.

***
3- علي بن أبي طالب
* ترجمته :

هو أبو الحسن، علي بن أبي طالب، بن عبد المطلب، القرشي الهاشمي، ابن عم رسول الله r، وصهره على ابنته فاطمة، وذريته r منهما. أمه فاطمة بنت أسد بن هاشم. وهو أول هاشمي ولد من هاشميين، ورابع الخلفاء الراشدين، وأول خليفة من بني هاشم، وهو أول من أسلم من الأحداث وصدق برسول الله r . هاجر إلى المدينة. وموقفه من الهجرة مشهور، قيل ونزل فيه قوله تعالى:" وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ "(1)r خلفه على أهله، وله في الجميع بلاء عظيم ومواقف مشهورة، وقد أعطاه الرسول r اللواء في مواطن كثيرة ، وقال يوم خيبر :" لأعطين الراية رجلاً يفتح الله على يديه ، يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله"، ثم أعطاها لعلي t ، وأخاه رسول الله r لما آخى بين أصحابه وقال له :" أنت أخي في الدنيا والآخرة " وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، اجتمع فيه من الفضائل ما لم يحظ به غيره، فمن ورع في الدين، إلى زهد في الدنيا ، إلى قرابة وصهر برسول الله r ، إلى علم جم وفضل غزير ، وقد توفى رحمه الله في رمضان سنة أربعين من الهجرة ، مقتولاً بيد عبدالرحمن بن ملجم الخارجي ، وعمره ثلاث وستون سنة ، وقيل غير ذلك... وقد شهد عليّ المشاهد كلها إلا تبوك؛ فإن رسول الله

***
* مبلغه من العلم :

كان t بحراً في العلم ، وكان قوي الحجة ، سليم الاستنباط ، أوتي الحظ الأوفر من الفصاحة والخطابة والشعر، وكان ذا عقل قضائي ناضج ، وبصيرة إلى بواطن الأمور ، وكثيراً ما كان يرجع إليه الصحابة في فهم ما خفي واستجلاء ما أشكل، وقد ولاه رسول الله r قضاء اليمن ، ودعا له بقوله : " اللهم ثبت لسانه واهد قلبه " فكان موفقاً ومسدداً، فيصلاً في المعضلات، حتى ضرب به المثل فقيل:" قضية ولا أبا الحسن لها"، ولا عجب، فقد تربى في بيت النبوة، وتغذى بلبان معارفها، وعمته مشكاة أنوارها. روى علقمة عن ابن مسعود قال: كنا نتحدث أن أقضى أهل المدينة علي بن أبي طالب . وقيل لعطاء : أكان في أصحاب محمد أعلم من علي ؟ قال : لا، والله لا أعلمه، وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال :" إذا ثبت لنا الشيء عن علي لم نعدل عنه إلى غيره".

والذي يرجع إلى أقضية علي t وخطبه ووصاياه، يرى أنه قد وهب عقلاً ناضجاً ، وبصيرة نافذة، وحظاً وافراً من العلم وقوة البيان (1).

***
* مكانته في التفسير :

جمع علي t إلى مهارته في القضاء والفتوى، علمه بكتاب الله ، وفهمه لأسراره وخفي معانيه، فكان أعلم الصحابة بمواقع التنزيل ومعرفة التأويل، وقد روى عن ابن عباس أنه قال :" ما أخذت من تفسير القرآن فعن علي بن أبي طالب"، وأخرج أبو نعيم في الحلية عن علي t أنه قال : " والله ما نزلت آية إلا وقد علمت فيم نزلت، وأين نزلت، وإن ربي وهب لي قلباً عقولاً، ولساناً سئولاً". وعن أبي الطفيل قال : " شهدت علياً يخطب وهو يقول : سلوني، فوالله لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم، وسلوني عن كتاب الله ، فوالله ما من آية إلا وأنا اعلم أبليل نزلت أم بنهار، أم في سهل، أم في جبل". وأخرج أبو نعيم في الحلية عن ابن مسعود قال :" إن القرآن أنزل على سبعة أحرف، ما منها حرف، إلا وله ظهر وبطن، وإن علي بن أبي طالب عنده منه الظاهر والباطن". وغير هذا كثير من الآثار التي تشهد له بأنه كان صدر المفسرين والمؤيد فيهم.

***
* الرواية عن علي ومبلغها من الصحة :

كثرت الرواية في التفسير عن علي t ، كثرة جاوزت الحد ، الأمر الذي لفت أنظار العلماء النقاد، وجعلهم يتتبعون الرواية عنه ، بالبحث، والتحقيق؛ ليميزوا ما صح من غيره.

وما صح عن علي في التفسير قليل بالنسبة لما وضع عليه، ويرجع ذلك إلى غلاة الشيعة، الذين أسرفوا في حبه فاختلقوا عليه ما هو برئ منه، إما ترويجاً لمذهبهم وتدعيماً له ، وإما لظنهم الفاسد، أن الإغراق في نسبة الأقوال العلمية إليه يعلي من قدره، ويرفع من شأنه العلمي. وأظن أن ما نسب إلى علي من قوله : " لو شئت أو أوقر سبعين بعيراً من تفسير أم القرآن لفعلت" لا أصل له ، اللهم إلا في أوهام الشيعة، الذين يغالون في حبه، ويتجاوزون الحد في مدحه. ثم هناك ناحية أخرى أغرت الوضاع بالكذب عليه، تلك الناحية هي نسبته إلى بيت النبوة، ولا شك أن هذه الناحية، تكسب الموضوع قبولاً، وتعطيه رواجاً وذيوعاً على ألسن الناس والحق أن كثرة الوضع على علي t أفسدت الكثير من علمه، ومن أجل ذلك لم يعتمد أصحاب الصحيح فيما يرونه عنه إلا على ما كان من طريق الإثبات من أهل بيته ، أو من أصحاب ابن مسعود ، كعبيدة السلماني وشريح، وغيرهما. وهذه أهم الطرق عن علي في التفسير :

أولاً : طريق هشام ، عن محمد بن سيرين ، عن عبيدة السلماني ، عن علي . طريق صحيحة، يخرج منها البخاري وغيره.

ثانياً : طريق ابن أبي الحسين ، عن أبي الطفيل ، عن علي . وهذه طريق صحيحة، يخرج منها ابن عيينة في تفسيره.

ثالثاً : طريق الزهري ، عن علي زين العابدين، عن أبيه الحسين ، عن أبيه علي . وهذه طريق صحيحة جداً ، حتى عدها بعضهم أصح الأسانيد مطلقاً(1)، ولكن لم تشتهر هذه الطريق اشتهار الطريقتين السابقتين نظراً لما ألصقه الضعفاء والكذابون بزين العابدين من الروايات الباطلة.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
صانع المعروف
صانع المعروف


عدد المساهمات : 179
نقاط : 23882
تاريخ التسجيل : 25/06/2011

الكتاب الاسطورة مناهج المفسرين  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الكتاب الاسطورة مناهج المفسرين    الكتاب الاسطورة مناهج المفسرين  I_icon_minitimeالسبت أغسطس 13, 2011 1:59 pm

4- أبي بن كعب
* ترجمته :

هو أبو المنذر، أو أبو الطفيل(2)r مقدمه المدينة، وقد أثنى عليه عمرt فقال :" أبي سيد المسلمين" وقد اختلف في وفاته على أقوال كثيرة، والأكثر على أنه مات في خلافة عمر بن الخطاب t.، أبي بن كعب بن قيس، الأنصاري الخزرجي، شهد العقبة وبدراً، وهو أول من كتب لرسول الله

***
* مبلغه من العلم :

كان أبي بن كعب سيد القراء، واحد كتاب الوحي لرسول r ، وقد قال فيه r :" وأقرؤهم أبي بن كعب"، وليس أدل على جودة حفظه لكتاب الله تعالى من قراءة النبي r عليه، فقد أخرج الترمذي بسنده إلى أنس بن مالك t أنه قال : " إن النبي r قال لأبي بن كعب : إن الله أمرني أن أقرأ عليك :" لم يكن الذين كفروا " قال آلله سماني لك ؟ قال : نعم ، فجعل أبي يبكى" وفي رواية أنه قيل لأبي : وفرحت بذلك ؟ قال: وما يمنعني وهو يقول :" قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ "(3)r ستة : عمر، وعلي ، وعبدالله ، وأبي، وزيد، وأبو موسى "(4)... وروى الشعبي عن مسروق قال :" كان أصحاب القضاء من أصحاب رسول الله

***


* مكانته في التفسير :

كان أبي بن كعب من أعلم الصحابة بكتاب الله تعالى، ولعل من أهم عوامل معرفته بمعاني كتاب الله، هو أنه كان حبراً من أحبار اليهود، العارفين بأسرار الكتب القديمة وما ورد فيها، وكونه من كتاب الوحي لرسول الله r، وهذا بالضرورة يجعله على مبلغ عظيم من العلم بأسباب النزول ومواضعه، ومقدم القرآن ومؤخره، وناسخه ومنسوخه، ثم لا يعقل بعد ذلك أن تمر عليه آية من القرآن يشكل معناها عليه دون أن يسأل عنها رسول الله r، لهذا كله عُد أبي بن كعب من المكثرين في التفسير، الذين يعتد بما صح عنهم، ويعول على تفسيرهم.

***
* الرواية عنه في التفسير ومبلغها من الصحة :

كثرت الرواية عن أبي بن كعب في التفسير وتعددت طرقها، وتتبع العلماء هذه الطرق بالنقد، فعدلوا وجرحوا؛ لأنه كغيره من الصحابة لم يسلم من الوضع عليه ـ وهذه هي أشهر الطرق عنه.

أولاً : طريق أبي جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبي t. وهذه طريق صحيحة، وقد ورد عن أبي ، نسخة كبيرة في التفسير ، يرويها أبو جعفر الرازي بهذا الإسناد إلى أبي ، وقد خرج ابن جرير وابن حاتم منها كثيراً ، وأخرج الحاكم منها أيضاً في مستدركه، والإمام أحمد في مسنده.

ثانياً : طريق وكيع عن سفيان ، عن عبدالله بن محمد بن عقيل، عن الطفيل بن أبي بن كعب ، عن أبيه، وهذه يخرج منها الإمام أحمد في مسنده، وهي على شرط الحسن؛ لأن عبدالله بن محمد بن عقيل وإن كان صدوقاً تكلم فيه من جهة حفظه، قال الترمذي في سننه :" عبدالله بن محمد بن عقيل ، هو صدوق وقد تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه ، وسمعت محمد بن إسماعيل يقول : كان أحمد بن حنبل ، وإسحق بن إبراهيم، والحميدي، يحتجون بحديث عبدالله بن محمد بن عقيل قال محمد ـ يعني البخاري ـ وهو مقارب الحديث ، ونص الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد على أن حديثه حسن " (1).

***
الفصل الثالث

قيمة التفسير المأثور عن الصحابة
أطلق الحاكم في المستدرك : أن تفسير الصحابي الذي شهد الوحي ، له حكم المرفوع، فكأنه رواه عن النبي r ، وعزا هذا القول للشيخين حيث يقول في المستدرك:" ليعلم طالب الحديث ، أن تفسير الصحابي الذي شهد الوحي والتنزيل ـ عند الشيخين ـ حديث مسند"(1)ص (24) " ما قيل من أن تفسير الصحابي حديث مسند ، فإنما ذلك في تفسير يتعلق بسبب نزول آية يخبر به الصحابي ، أو نحو ذلك مما لا يمكن أن يؤخذ إلا عن النبي r ولا مدخل للرأي فيه، كقول جابر t : كانت اليهود تقول : من أتى امرأته من دبرها في قبلها جاء الولد أحول ، فأنزل الله عز وجل : " نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ"(2)r فمعدودة في الموقوفات " ولكنا نجد الحاكم نفسه قد صرح في " معرفة علوم الحديث" بما ذهب إليه ابن الصلاح وغيره حيث قال :" ومن الموقوفات ما حدثناه أحمد بن كاعل بسنده عن أبي هريرة في قوله : " لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ "(3)… "، ثم أورد حديث جابر في قصة اليهود وقال : فهذا وأشباهه مسند ليس بموقوف؛ فإن الصحابي الذي شهد الوحي والتنزيل فأخبر عن آية من القرآن أنها نزلت في كذا فإنه حديث مسند .. ا هـ(4)... قال : تلقاهم جهنم يوم القيامة فتلفحهم لفحة فلا تترك لحماً على عظم، قال : فهذا وأشباهه يعد في تفسير الصحابة من الموقوفات، فأما ما نقول : عن تفسير الصحابة مسند ، فإنما نقوله في غير الموقوفات ، فأما ما نقول : إن تفسير الصحابة مسند ، فإنما نقوله في غير هذا النوع.. الآية ، فأما سائر تفاسير الصحابة التي لا تشتمل على إضافة شيء إلى الرسول ولكن قيد ابن الصلاح ، والنووي، وغيرهما، هذا الإطلاق، بما يرجع إلى أسباب النزول ، وما لا مجال للرأي فيه ، قال ابن الصلاح في مقدمته

فالحاكم قيد في معرفة علوم الحديث ما أطلق في المستدرك، فاعتمد الناس ما قيد ، وتركوا ما أطلق، وعلل السيوطي في التدريب إطلاق الحاكم بأنه كان حريصاً على جمع الصحيح في المستدرك حتى أورد فيه ما ليس من شرط المرفوع.. ، ثم اعترض بعد ذلك على الحاكم، حيث عد الحديث المذكور عن أبي هريرة من الموقوف، وليس كذلك؛ لأنه يتعلق بذكر الآخرة، وهذا لا مدخل للرأي فيه ، فهو من قبيل المرفوع(5).

وبعد هذا كله نخلص بهذه النتائج :

أولاً : تفسير الصحابي له حكم المرفوع، إذا كان مما يرجع إلى أسباب النزول، وكل ما ليس للرأي فيه مجال ، أما ما يكون للرأي فيه مجال ، فهو موقوف عليه ما دام لم يسنده إلى رسول الله r.

ثانياً : ما حكم عليه بأنه من قبيل المرفوع لا يجوز رده اتفاقاً ، بل يأخذه المفسر ولا يعدل عنه إلى غيره بأية حال.

ثالثاً : ما حكم عليه بالوقف، تختلف فيه أنظار العلماء :

فذهب فريق : إلى أن الموقوف على الصحابي من التفسير لا يجب الأخذ به لأنه لما لم يرفعه ، علم أنه اجتهد فيه ، والمجتهد يخطئ ويصيب، والصحابة في اجتهادهم كسائر المجتهدين.

وذهب فريق آخر إلى أنه يجب الأخذ به والرجوع إليه؛ لظن سماعهم له من رسول الله r ، ولأنهم إن فسروا برأيهم فرأيهم أصوب، لأنهم أدرى الناس بكتاب الله ؛ إذ هم أهل اللسان، ولبركة الصحبة والتخلق بأخلاق النبوة ، ولما شاهدوه من القرائن والأحوال التي اختصوا بها ، ولما لهم من الفهم التام والعمل الصحيح، لاسيما علماؤهم وكبراؤهم كالأئمة الأربعة، وعبدالله بن مسعود ، وابن عباس وغيرهم.

قال الزركشي في البرهان :" اعلم أن القرآن قسمان : قسم ورد تفسيره بالنقل، وقسم لم يرد. والأول:إما أن يرد عن النبي r، أو الصحابة ، أو رؤوس التابعين، فالأول يبحث فيه عن صحة السند، والثاني ينظر في تفسير الصحابي، فإن فسره من حيث اللغة فهم أهل اللسان فلا شك في اعتماده، أو بما شاهدوه من الأسباب والقرائن فلا شك فيه ... ا هـ(1).

وقال الحافظ ابن كثير في مقدمة تفسيره: " … وحينئذ إذا لم نجد التفسير في القرآن ولا في السنة، رجعنا في ذلك إلى أقوال الصحابة فإنهم أدرى بذلك، لما شاهدوه من القرائن والأحوال التي اختصوا بها، ولما لهم من الفهم التام والعلم الصحيح والعمل الصالح، لاسيما علماؤهم وكبراؤهم، كالأئمة الأربعة، والخلفاء الراشدين، والأئمة المهتدين المهدين، وعبدالله بن مسعود رضي الله عنهم"(2).

وهذا الرأي الأخير الذي تميل إليه النفس، ويطمئن إليه القلب لما ذكر.

***


الفصل الرابع

مميزات التفسير في هذه المرحلة
يمتاز التفسير في هذه المرحلة بالمميزات الآتية :

أولاً : لم يفسر القرآن جميعه، وإنما فسر بعض منه، وهو ما غمض فهمه وهذا الغموض كان يزداد كلما بعد الناس عن عصر النبي r والصحابة، فكان التفسير يتزايد تبعاً لتزايد هذا الغموض، إلى أن تم تفسير آيات القرآن جميعها.

ثانياً:قلة الاختلاف بينهم في فهم معانيه، وسنعرض لهذا الموضوع بتوسع فيما بعد إن شاء الله تعالى.

ثالثاً : كانوا كثيراً ما يكتفون بالمعنى الإجمالي ، ولا يلزمون أنفسهم بتفهم معانيه تفصيلاً ، فيكفي أن يفهموا من مثل قوله تعالى : " وَفَاكِهَةً وَأَبّاً "(1).. أنه تعداد لنعم الله تعالى على عباده.

رابعاً : الاقتصار على توضيح المعنى اللغوي الذي فهموه بأخصر لفظ، مثل قولهم " غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ "(2).. أي غير متعرض لمعصية، فإن زادوا على ذلك فمما عرفوه من أسباب النزول.

خامساً : ندرة الاستنباط العلمي للأحكام الفقهية من الآيات القرآنية وعدم وجود الانتصار للمذاهب الدينية بما جاء في كتاب الله: نظراً لاتحادهم في العقيدة ، ولأن الاختلاف المذهبي لم يقم إلا بعد عصر الصحابة رضي الله عنهم.

سادساً : لم يدون شيء من التفسير في هذا العصر؛ لأن التدوين لم يكن إلا في القرن الثاني . نعم أثبت بعض الصحابة بعض التفسير في مصاحفهم فظنها بعض المتأخرين من وجوه القرآن التي نزل بها من عند الله تعالى.

سابعاً:اتخذ التفسير في هذه المرحلة شكل الحديث، بل كان جزءاً منه وفرعاً من فروعه، ولم يتخذ التفسير له شكلاً منظماً، بل كانت هذه التفسيرات تروى منثورة لآيات متفرقة، كما كان الشأن في رواية الحديث، فحديث صلاة بجانب حديث جهاد، بجانب حديث ميراث، بجانب حديث في تفسير آية،... وهكذا.

وليس لمعترض أن يعترض علينا بتفسير ابن عباس، فإنه لا تصح نسبته إليه، بل جمعه الفيروزابادي ونسبة إليه ، معتمداً في ذلك على رواية واهية، هي رواية محمد بن مروان السدي ، عن الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس وهذه هي سلسلة الكذب كما قيل.

***


الباب الثاني

المرحلة الثانية للتفسير
أو التفسير في عصر التابعين
· ابتداء هذه المرحلة ـ مصادر التفسير في هذا العصر ـ مدارس التفسير التي قامت فيه.

· قيمة التفسير المأثور عن التابعين.

· مميزات التفسير في هذه المرحلة .

· الخلاف بين السلف في التفسير.

الفصل الأول

التفسير في عصر التابعين
* ابتداء هذه المرحلة :

تنتهي المرحلة الأولى للتفسير بانصرام عهد الصحابة، وتبدأ المرحلة الثانية للتفسير من عصر التابعين الذين تتلمذوا للصحابة فتلقوا غالب معلوماتهم عنهم.

وكما اشتهر بعض أعلام الصحابة بالتفسير والرجوع إليهم في استجلاء بعض ما خفي من كتاب الله، اشتهر أيضاً بالتفسير أعلام من التابعين، تكلموا في التفسير، ووضحوا لمعاصريهم خفي معانيه.

***
* مصادر التفسير في هذا العصر :

وقد اعتمد هؤلاء المفسرون في فهمهم لكتاب الله تعالى على ما جاء في الكتاب نفسه، وعلى ما رووه عن الصحابة عن رسول الله r وعلى ما رووه عن الصحابة من تفسيرهم أنفسهم، وعلى ما أخذوه من أهل الكتاب مما جاء في كتبهم ، وعلى ما يفتح الله به عليهم من طريق الاجتهاد والنظر في كتاب الله تعالى.

وقد روت لنا كتب التفسير كثيراً من أقوال هؤلاء التابعين في التفسير، قالوها بطريق الرأي والاجتهاد، ولم يصل إلى علمهم شيء فيها عن رسول الله r، أو عن أحد من الصحابة.

وقد قلنا فيما سبق : إن ما نقل عن الرسول r وعن الصحابة من التفسير لم يتناول جميع آيات القرآن، وإنما فسروا ما غمض فهمه على معاصريهم ، ثم تزايد هذا الغموض ـ على تدرج ـ كلما بعد الناس عن عصر النبي r والصحابة ، فاحتاج المشتغلون بالتفسير من التابعين إلى أن يكملوا بعض هذا النقص، فزادوا في التفسير بمقدار ما زاد من غموض، ثم جاء من بعدهم فأتموا تفسير القرآن تباعاً، معتمدين على ما عرفوه من لغة العرب ومناحيهم في القول ، وعلى ما صح لديهم من الأحداث التي حدثت في عصر النزول القرآن ، وغير هذا من أدوات الفهم ووسائل البحث.

***
* مدارس التفسير في عصر التابعين :

فتح الله على المسلمين كثيراً من بلاد العالم في حياة رسول الله r ، وفي عهود الخلفاء من بعده، ولم يستقروا جميعاً في بلد واحد من بلاد المسلمين، بل نأى الكثير منهم عن المدينة مشرق النور الإسلامي ثم استقر بهم النوى، موزعين على جميع البلاد التي دخلها الإسلام، وكان منهم الولاة، ومنهم الوزراء، ومنهم القضاة ، ومنهم المعلمون، ومنهم غير ذلك.

وقد حمل هؤلاء معهم إلى هذه البلاد التي رحلوا إليها ، ما وعوه من العلم، وما حفظوه عن رسول الله r، فجلس إليهم كثير من التابعين يأخذون العلم عنهم ، وينقلونه لمن بعدهم ، فقامت في هذه الأمصار المختلفة مدارس علمية ، أساتذتها الصحابة ، وتلاميذها التابعون.

واشتهر بعض هذه المدارس بالتفسير، وتتلمذ فيها كثير من التابعين لمشاهير المفسرين من الصحابة، فقامت مدرسة للتفسير بمكة، وأخرى بالمدينة وثالثة بالعراق، وهذه المدارس الثلاث ، هي أشهر مدارس التفسير في الأمصار في هذا العهد.

قال ابن تيميه :" وأما التفسير فأعلم الناس به أهل مكة ، لأنهم أصحاب ابن عباس كمجاهد ، وعطاء بن أبي رباح، وعكرمة مولى ابن عباس، وغيرهم من أصحاب ابن عباس ، كطاووس ، وأبي الشعثاء، وسعيد بن جبير ، وأمثالهم . وكذلك أهل الكوفة من أصحاب ابن مسعود، ومن ذلك ما تميزوا به عن غيرهم، وعلماء أهل المدينة في التفسير ، مثل زيد بن أسلم، الذي أخذ عنه مالك التفسير ، وأخذ عنه أيضاً ابنه عبدالرحمن، وعبدالله ابن وهب" ا هـ(1).

وأرى أن أتكلم عن كل مدرسة من هذه المدارس الثلاث، وعن أشهر المفسرين من التابعين الذين أخذوا التفسير عن أساتذة هذه المدارس من الصحابة ، فأقول وبالله التوفيق.

أولاً : مدرسة التفسير بمكة

* قيامها على ابن عباس :

قامت مدرسة التفسير بمكة على عبدالله بن عباس t، فكان يجلس لأصحابه من التابعين، يفسر لهم كتاب الله تعالى ، ويوضح لهم ما أشكل من معانيه ، وكان تلاميذه يعون عنه ما يقول ، ويروون لمن بعدهم ما سمعوه منه.

***
* أشهر رجالها :

وقد اشتهر من تلاميذ ابن عباس بمكة : سعيد بن جبير ، ومجاهد ، وعكرمة مولى ابن عباس ، وطاووس بن كيسان اليماني ، وعطاء بن أبي رباح.

ثانياً : مدرسة التفسير بالمدينة

* قيامها على أبي بن كعب :

كان بالمدينة كثير من الصحابة، أقاموا بها ولم يتحولوا عنها كما تحول كثير منهم إلى غيرها من بلاد المسلمين، فجلسوا لأتباعهم يعلمونهم كتاب الله تعالى وسنة رسوله r، فقامت بالمدينة مدرسة للتفسير، تتلمذ فيها كثير من التابعين لمشاهير المفسرين من الصحابة . ونستطيع أن نقول : إن قيام هذه المدرسة كان على أبي بن كعب، الذي يعتبر بحق أشهر من تتلمذ له مفسرو التابعين بالمدينة؛ وذلك لشهرته أكثر من غيره في التفسير، وكثرة ما نقل لنا عنه في ذلك.

***
* أشهر رجالها :

وقد وجد بالمدينة في هذا الوقت كثير من التابعين المعروفين بالتفسير ، اشتهر من بينهم ثلاثة ، هم زيد بن أسلم ، وأبو العالية ، ومحمد بن كعب القرظي. وهؤلاء منهم من أخذ عن أبيَّ مباشرة، ومنهم من أخذ عنه بالواسطة.

الفصل الثاني

قيمة التفسير المأثور عن التابعين
اختلف العلماء في الرجوع إلى تفسير التابعين والأخذ بأقوالهم إذا لم يؤثر في ذلك شيء عن الرسول r ، أو الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.

فنقل عن الإمام أحمد t روايتان في ذلك : رواية بالقبول ورواية بعد القبول ، وذهب بعض العلماء: إلى أنه لا يؤخذ بتفسير التابعي ، واختاره ابن عقيل ، وحكى عن شعبة. واستدل أصحاب هذا الرأي على ما ذهبوا إليه: بأن التابعين ليس لهم سماع من الرسول r ، فلا يمكن الحمل عليه كما قيل في تفسير الصحابي: إنه محمول على سماعه من النبي r. وبأنهم لم يشاهدوا القرائن والأحوال التي نزل عليها القرآن ، فيجوز عليهم الخطأ في فهم المراد وظن ما ليس بدليل دليلاً، ومع ذلك فعدالة التابعين غير منصوص عليها كما نص على عدالة الصحابة . نقل عن أبي حنيفة أنه قال: ما جاء عن رسول الله r فعلى الرأس والعين، وما جاء عن الصحابة تخيرنا، وما جاء عن التابعين فهم رجال ونحن رجال.

وقد ذهب أكثر المفسرين : إلى أنه يؤخذ بقول التابعي في التفسير ، لأن التابعين تلقوا غالب تفسيراتهم عن الصحابة، فمجاهد مثلاً يقول : عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات من فاتحته إلى خاتمته، أوقفه عند كل آية منه وأسأله عنها . وقتادة يقول: ما في القرآن آية إلا وقد سمعت فيها شيئاً؛ ولذا حكى أكثر المفسرين أقوال التابعين في كتبهم ونقلوها عنهم مع اعتمادهم لها.

والذي تميل إليه النفس : هو أن قول التابعي في التفسير لا يجب الأخذ به إلا إذا كان مما لا مجال للرأي فيه، فإنه يؤخذ به حينئذ عند عدم الريبة، فإن ارتبنا فيه، بأن كان يأخذ من أهل الكتاب ، فلنا أن نترك قوله ولا نعتمد عليه، أما إذا أجمع التابعون على رأي فإنه يجب علينا أن نأخذ به ولا نتعداه إلى غيره.

قال ابن تيميه : قال شعبة بن الحجاج وغيره: أقوال التابعين ليست حجة، فكيف تكون حجة في التفسير؟ يعني أنها لا تكون حجة على غيرهم ممن خالفهم، وهذا صحيح،أما إذا أجمعوا على الشيء فلا يرتاب في كونه حجة فإن اختلفوا فلا يكون قول بعضهم حجة على بعض ولا على من بعدهم،ويرجع في ذلك إلى لغة القرآن، أو السنة ، أو عموم لغة العرب،أو أقوال الصحابة في ذلك(1).


الفصل الثالث


مميزات التفسير في هذه المرحلة
يمتاز التفسير في هذه المرحلة بالمميزات الآتية :

أولاً : دخل في التفسير كثير من الإسرائيليات والنصرانيات، وذلك لكثرة من دخل من أهل الكتاب في الإسلام، وكان لا يزال عالقاً بأذهانهم من الأخبار ما لا يتصل بالأحكام الشرعية ، كأخبار بدء الخليقة، وأسرار الوجود، وبدء الكائنات. وكثير من القصص. وكانت النفوس ميالة لسماع التفاصيل عما يشير إليه القرآن من أحداث يهودية أو نصرانية، فتساهل التابعون فزجوا في التفسير بكثير من الإسرائيليات والنصرانيات بدون تحر ونقد. وأكثر من روى عنه في ذلك من مسلمي أهل الكتاب : عبدالله بن سلام ، وكعب الأحبار ، ووهب بن منبه ، وعبدالملك بن عبدالعزيز بن جريج. ولا شك أن الرجوع إلى هذه الإسرائيليات في التفسير أمر مأخوذ على التابعين كما هو مأخوذ على من جاء بعدهم(1).

وسنأتي نعرض لهذه الناحية عرضاً موسعاً عند الكلام عن أسباب الضعف في رواية التفسير المأثور إن شاء الله تعالى.

ثانياً : ظل التفسير محتفظاً بطابع التلقي والرواية(2)r وأصحابه ، بل كان تلقياً ورواية يغلب عليهما طابع الاختصاص ، فأهل كل مصر يعنون ـ بوجه خاص ـ بالتلقي والرواية عن إمام مصرهم ، فالمكيون عن ابن عباس ، والمدنيون عن أبيَّ ، والعراقيون عن ابن مسعود. وهكذا.، إلا أنه لن يكن تلقياً ورواية بالمعنى الشامل كما هو الشأن في عصر النبي

ثالثاً : ظهرت في هذا العصر نواة الخلاف المذهبي، فظهرت بعض تفسيرات تحمل في طياتها هذه المذاهب ، فنجد مثلاً قتادة بن دعامة السدوسي ينسب إلى الخوض في القضاء والقدر ويتهم بأنه قدري، ولا شك أن هذا أثر على تفسيره، ولهذا كان يتحرج بعض الناس من الرواية عنه. ونجد الحسن البصري قد فسر القرآن على إثبات القدر، ويكفر من يكذب به كما ذكرنا ذلك في ترجمته.

رابعاً : كثرة الخلاف بين التابعين في التفسير عما كان بين الصحابة رضوان الله عليهم ، وإن كان اختلافاً قليلاً بالنسبة لما وقع بعد ذلك من متأخري المفسرين.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
صانع المعروف
صانع المعروف


عدد المساهمات : 179
نقاط : 23882
تاريخ التسجيل : 25/06/2011

الكتاب الاسطورة مناهج المفسرين  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الكتاب الاسطورة مناهج المفسرين    الكتاب الاسطورة مناهج المفسرين  I_icon_minitimeالسبت أغسطس 13, 2011 2:08 pm

مناهج المفسرين

من كتاب

التفسير والمفسرون

المقرر الثاني



تأليف

الدكتور: محمد الذهبي



بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة
بتوفيق من الله تعالى نقدم للدارسين والدارسات في معاهد الدراسات الإسلامية فصول من ((كتاب التفسير والمفسرون)) وهو يعرض بكل أمانة ما في القرآن الكريم من وجوه الإعجاز.
ويبين ما تضمنه من أحكام لابد للمسلمين من معرفتها والوقوف عند حدودها ليسعدوا إذا هم نهلوا من فيض القرآن وعملوا به واهتدوا بهديه، وإذا هم أرادوا لأنفسهم عز الدنيا وسعادة الآخرة وجاءت فصول هذا الكتاب تبين مراحل التفسير رواية وتدوينا وتنصف في الوقت نفسه رجال التفسير لقاء ما قدموه من عطاء موصول وفكر مستنير كشفوا به كثرة الوضع في التفسير ومراحل دخول الإسرائيليات فيه ليكون المسلمون على بينة تكشف الشبه المثارة ضد هذا التراث العظيم إلى غير ذلك من جهود مباركة من أجل حماية القرآن وصيانته من الدس والتشكيك وسموم التأويل المنحرف ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.
والله المستعان

مدير إدارة الدراسات الإسلامية

تمهيد
·ابتداء هذه المرحلة:
تبدأ المرحلة الثالثة للتفسير من مبدأ ظهور التدوين، وذلك في أواخر عهد بني أمية ، وأول عهد العباسيين.
·الخطوة الأولى للتفسير:
وكان التفسير قبل ذلك يتناقل بطريق الرواية, فالصحابة يروون عن رسول الله عليه وسلم، كما يروى بعضهم عن بعض. والتابعون يروون عن الصحابة، كما يروى بعضهم عن بعض، وهذه هي الخطوة الأولى للتفسير(1).
* * *
· الخطوة الثانية:
ثم بعد عصر الصحابة والتابعين، خطا التفسير خطوة ثانية، وذلك حيث ابتدأ التدوين لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت أبوابه متنوعة، وكان التفسير بابا من هذه الأبواب التي اشتمل عليها الحديث، فلم يفرد له تأليف خاص يفسر القرآن سورة سورة، وآية آية، من مبدئه إلى منتهاه، بل وجد من العلماء من طوف في الأمصار المختلفة ليجمع الحديث، فجمع بجوار ذلك ما روى في الأمصار من تفسير منسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أو إلى الصحابة، أو إلى التابعين، ومن هؤلاء : يزيد بن هارون السلمي المتوفى سنة 117 هجرية، وشعبة بن الحجاج المتوفى سنة 160 هجرية، ووكيع بن الجراح المتوفى سنة 197 هجرية، وسفيان بن عيينة المتوفى سنة 198 هجرية، وروح بن عبادة البصري المتوفى سنة 205 هجرية، وعبد الرزاق ابن همام المتوفى سنة 211 هجرية، وآدم بن أبي إياس المتوفى سنة 220 هجرية، وعبد بن حميد المتوفى سنة 249 هجرية، وغيرهم، وهؤلاء جميعاً كانوا من أئمة الحديث، فكان جمعهم للتفسير جمعاً لباب من أبواب الحديث، ولم يكن جمعا للتفسير على استقلال وانفراد، وجميع ما نقله هؤلاء الأعلام عن أسلافهم من أئمة التفسير نقلوه مسنداً إليهم، غير أن هذه التفاسير لم يصل إلينا شئ منها، ولذا لا نستطيع أن نحكم عليها.
·الخطوة الثالثة:
ثم بعد هذه الخطوة الثانية، خطا التفسير خطوة ثالثة، انفصل بها عن الحديث، فأصبح علما قائماً بنفسه، ووضع التفسير لكل آية من القرآن، ورتب ذلك على حسب ترتيب المصحف. وتم ذلك على أيدي طائفة من العلماء منهم ابن ماجة المتوفى سنة 273هـ، وابن جرير الطبري المتوفى سنة 310هـ، وأبو بكر بن المنذر النيسابوري المتوفى سنة 318 هـ، وابن أبي حاتم المتوفى سنة 328هـ، وأبو الشيخ بن حبان المتوفى سنة 369هـ، والحاكم المتوفى سنة 405 هـ، وأبو بكر بن مردوية المتوفى سنة 410 هـ، وغيرهم من أئمة هذا الشأن.
وكل هذه التفاسير مروية بالإسناد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلى الصحابة، والتابعين، وتابع التابعين، وليس فيها شئ من التفسير أكثر من التفسير المأثور، اللهم إلا ابن جرير الطبري فإنه ذكر الأقوال ثم وجهها، ورجح بعضها على بعض، وزاد على ذلك الإعراب إن دعت إليه حاجة، واستنبط الأحكام التي يمكن أن تؤخذ من الآيات القرآنية ............... وسنأتي نتكلم عن هذا التفسير عند الكلام عن الكتب المؤلفة في التفسير بالمأثور إن شاء الله تعالى.
وإذا كان التفسير قد خطا هذه الخطوة الثالثة التي انفصل بها عن الحديث، فليس معنى ذلك أن هذه الخطوة محت ما قبلها وألغت العمل به، بل معناه أن التفسير تدرج في خطواته، فبعد أن كانت الخطوة الأولى للتفسير هي النقل عن طريق التلقي والرواية، كانت الخطوة الثانية له، وهي تدوينه على أنه باب من أبواب الحديث، ثم جاءت بعد ذلك الخطوة الثالثة، وهي تدوينه على استقلال وانفراد، فكل هذه الخطوات، تم إسلام بعضها على بعض، بل وظل المحدثون بعد هذه الخطوة الثالثة، يسيرون على نمط الخطوة الثانية، من رواية المنقول من التفسير في باب خاص من أبواب الحديث، مقتصرين في ذلك على ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو عن الصحابة أو عن التابعين.
* * *
ليس من السهل معرفة أول من دون تفسير كل القرآن مرتباً:
هذا، ولا نستطيع أن نعين بالضبط، المفسر الأول الذي فسر القرآن آية آية، ودونه على التتابع وحسب ترتيب المصحف. ونجد في الفهرست لابن النديم ص ( 99 ) أن أبا العباس ثعلب قال: ((كان السبب في إملاء كتاب الفراء في المعاني (1) أن عمر بن بكير كان من أصحابه، وكانت منقطعاً إلى الحسن بن سهل فكتب إلى الفراء: إن الأمير الحسن بن سهل، ربما سألني عن الشئ بعد الشئ من القرآن، فلا يحضرني فيه جواب، فإن رأيت أن تجمع لي أصولا، أو تجعل في ذلك كتابا أرجع إليه فعلت، فقال الفراء لأصحابه: اجتمعوا حتى أملى عليكم كتابا في القرآن، وجعل لهم يوما، فلما حضروا خرج إليهم، وكان في المسجد رجل يؤذن ويقرأ بالناس في الصلاة، فالتفت إليه الفراء فقال له: اقرأ بفاتحة الكتاب نفسرها، ثم نوفي الكتاب كله، فقرأ الرجل ويفسر الفراء، قال أبو العباس: لم يعمل أحد قبله مثله، ولا أحسب أن أحداً يزيد عليه )) ا هـ.
فهل نستطيع أن نستخلص من ذلك: أن الفراء المتوفى سنة 207هـ، هو أول من دون تفسيراً جامعاً لكل آيات القرآن مرتبا على وفق ترتيب المصحف؟ وهل نستطيع أن نقول : إن كل من تقدم الفراء من المفسرين كانوا يقتصرون على تفسير المشكل فقط ؟ لا ... لا نستطيع أن نفهم هذا من عبارة ابن النديم لأنها غير قاطعة في هذا، كما لا نستطيع أن نميل إليه كما مال إليه الأستاذ أحمد أمين في كتابه ضحى الإسلام جـ 2 ص 141، وذلك لأن كتاب معاني القرآن للفراء شبيه في تناوله للآيات على ترتيبها في السور بكتاب مجاز القرآن لأبي عبيدة، فإنه يتناول السور على ترتيبها، ويعرض لما في السورة من آية تحتاج لبيان مجازها ـ أي المراد منها ـ فليس للفراء أولية في هذا، بل تلك على ما يبدو كانت خطة العصر(2)، ثم إن ما نقل لنا عن السلف يشعر ـ وإن كان غير قاطع ـ بأن استيفاء التفسير لسور القرآن وآياته كان عملا مبكراً لم يتأخر إلى نهاية القرن الثاني وأوائل الثالث، فمثلا يقول ابن أبي مليكة: ((رأيت مجاهداً يسأل ابن عباس عن تفسير القرآن ومعه ألواحه، فيقول له ابن عباس: اكتب . قال : حتى سأله عن التفسير كله ))(3).
ونجد الحافظ ابن حجر عندما ترجم لعطاء بن دينار الهذلي المصري في كتابه تهذيب التهذيب يقول: ((قال على بن الحسن الهسنجاني، عن أحمد ابن صالح: عطاء بن دينار، من ثقات المصريين، وتفسيره فيما يروى عن سعيد بن جبير صحيفة، وليس له دلالة على أنه سمع من سعيد بن جبير، وقال أبو حاتم: صالح الحديث إلا أن التفسير أخذه من الديوان، وكان عبد الملك بن مروان المتوفى سنة 86هـ سأل سعيد بن جبير أن يكتب إليه بتفسير القرآن، فكتب سعيد بهذا التفسير، فوجده عطاء بن دينار في الديوان فأخذه فأرسله عن سعيد بن جبير)) ا هـ.
فهذا صريح في أن سعيد بن جبير رضى الله عنه جمع تفسير القرآن في كتاب، وأخذه من الكتاب عطاء بن دينار، ومعروف أن سعيد بن جبير قتل سنة 94 ـ أو سنة 95 هجرية ـ على الخلاف في ذلك، ولا شك أن تأليفه هذا كان قبل موت عبد الملك بن مروان المتوفى سنة 86 هجرية.
كذلك نجد في وفيات الأعيان ( ج 2 ص 3 ) : أن عمرو بن عبيد شيخ المعتزلة، كتب تفسيراً للقرآن عن الحسن البصري. ومعلوم أن الحسن توفي سنة 116 هجرية.
ومر بنا فيما سبق (ص 80) أن ابن جريج المتوفى سنة 150 هجرية له ثلاثة أجزاء كبار في التفسير رواها عنه محمد بن ثور، فإذا انضم إلى هذا ما نلاحظه من قوة اتصال القرآن بالحياة الإسلامية، وشدة عناية القوم بأخذ الأحكام وغيرها من آيات القرآن، وحاجتهم الملحة في ذلك، نستطيع أن نقول إن الفراء لم يسبق إلى هذا الاستيفاء والتقصي، بل هو مسبوق بذلك، وإن كنا لا نستطيع أن نعين من سبق إلى هذا العمل على وجه التحقيق، ولو أنه وقع لنا كل ما كتب من التفسير من مبدأ عهد التدوين. لأمكننا أن نعين المفسر الأول الذي دون التفسير على هذا النمط.
* * *
· الخطوة الرابعة:
ثم إن التفسير لم يقف عند هذه الخطوة الثالثة بل خطا بعهدها خطوة رابعة، لم يتجاوز بها حدود التفسير بالمأثور، وإن كان قد تجاوز روايته بالإسناد، فصنف في التفسير خلق كثير، اختصروا الأسانيد، ونقلوا الأقوال المأثورة عن المفسرين من أسلافهم دون أن ينسبوها لقائليها، فدخل الوضع في التفسير والتبس الصحيح بالعليل، وأصبح الناظر في هذه الكتب يظن أن كل ما فيها صحيح، فنقله كثير من المتأخرين في تفاسيرهم، ونقلوا ما جاء في هذه الكتب من إسرائيليات على أنها حقائق ثابتة، وكان ذلك هو مبدأ ظهور خطر الوضع والإسرائيليات في التفسير. وسنعرض لهذا بالبيان والتفصيل فيما بعد إن شاء الله تعالى.
ولقد وجد من بين هؤلاء المفسرين من عنى بجمع شتات الأقوال، فصار كلما سنح له قول أورده، وكلما خطر بباله شئ اعتمده، فيأتي من بعده وينقل ذلك عنه بدون أن يتحرى الصواب فيما ينقل، وبدون التفات منه إلى تحرير ما ورد عن السلف الصالح ومن يرجع إليهم في التفسير، ظنا منه أن كل ما ذكر له أصل ثابت !! وليس أدل نهم هؤلاء القوم بكثرة النقل، من أن بعضهم ذكر في تفسير قوله تعالى ((غير المغضوب عليهم ولا الضالين))(1)
* * *
· الخطوة الخامسة:
ثم خطا التفسير بعد ذلك خطوة خامسة، هي أوسع الخطى وأفسحها، امتدت من العصر العباسي إلى يومنا هذا، فبعد أن كان تدوين التفسير مقصوراً على رواية ما نقل عن سلف هذه الأمة، تجاوز بهذه الخطوة الواسعة إلى تدوين تفسير اختلط فيه الفهم العقلي بالتفسير النقلي، وكان ذلك على تدرج ملحوظ في ذلك.
* * *
· تدرج التفسير العقلي :
بدأ ذلك أولا على هيئة محاولات فهم شخصي، وترجيح لبعض الأقوال على بعض، وكان هذا أمراً مقبولا ما دام يرجع الجانب العقلي منه إلى حدود اللغة ودلالة الكلمات القرآنية. ثم ظلت محاولات هذا الفهم الشخصي تزداد وتتضخم، متأثرة بالمعارف المختلفة، والعلوم المتنوعة، والآراء المتشعبة، والعقائد المتباينة، حتى وجد من كتب التفسير ما يجمع أشياء كثيرة، لا تكاد تتصل بالتفسير إلا عن بعد عظيم.
دونت علوم اللغة، ودون النحو والصرف، وتشعبت مذاهب الخلاف الفقهي، وأثيرت مسائل الكلام، وظهر التعصب المذهبي قائما على قدمه وساقه في العصر العباسي، وقامت الفرق الإسلامية بنشر مذاهبها والدعوة إليها، وترجمت كتب كثيرة من كتب الفلاسفة، فامتزجت كل هذه العلوم وما يتعلق بها من أبحاث بالتفسير(3) حتى طغت عليه، وغلب الجانب العقلي على الجانب النقلي، وصار أظهر شئ في هذه الكتب، هو الناحية العقلية، وإن كانت لا تخلو مع ذلك من منقول يتصل بأسباب النزول، أو بغير ذلك على المأثور.
وهكذا تدرج التفسير، واتجهت الكتب المؤلفة فيه اتجاهات متنوعة، وتحكمت الاصطلاحات العلمية، والعقائد المذهبية في عبارات القرآن الكريم، فظهرت آثار الثقافية الفلسفية والعلمية للمسلمين في تفسير القرآن، كما ظهرت آثار التصوف واضحة فيه، وكما ظهرت آثار النحل والأهواء فيه ظهوراً جليا.
وإنا لنلحظ في وضوح وجلاء: أن كل من برع في فن من فنون العلم، يكاد يقتصر تفسيره على الفن الذي برع فيه، فالنحوى تراه لا هم له إلا الإعراب وذكر ما يحتمل في ذلك من أوجه، وتراه ينقل مسائل النحو وفروعه وخلافياته، وذلك كالزجاج ، والواحدي في البسيط، وأبي حيان في البحر المحيط ..
وصاحب العلوم العقلية، تراه يعني في تفسيره بأقوال الحكماء والفلاسفة، كما تراه يعني بذكر شبههم والرد عليها، وذلك كالفخر الرازي في كتابه مفاتيح الغيب.
وصاحب الفقه تراه قد عنى بتقريره الأدلة للفروع الفقهية، والرد على من يخالف مذهبه، وذلك كالجصاص، والقرطبي ..
وصاحب التاريخ، ليس له شغل إلا القصص، وذكر أخبار من سلف، ما صح منها وما لا يصح، وذلك كالثعلبي والخازن ..
وصاحب البدع، ليس له قصد إلا أن يؤول كلام الله وينزله على مذهبه الفاسد، وذلك كالرماني، والجبائي، والقاضي عبد الجبار، والزمخشري من المعتزلة. والطبرسي، وملا محسن الكاشي من الإمامية الإثنى عشرية.
وأصحاب التصوف قصدوا إلى ناحية الترغيب والترهيب. واستخراج المعاني الإشارية من الآيات القرآنية بما يتفق مع مشاربهم، ويتناسب مع رياضاتهم ومواجيدهم، ومن هؤلاء ابن عربي، وأبو عبد الرحمن السلمي ..
وهكذا فسر كل صاحب فن أو مذهب بما يتناسب مع فنه أو يشهد لمذهبه، وقد استمرت هذه النزعة العلمية العقلية وراجت في بعض العصور رواجا عظيما، كما راجت في عصرنا الحاضر تفسيرات يريد أهلها من ورائها أن يحملوا آيات القرآن كل العلوم، ما ظهر منها وما لم يظهر، كأن هذا فيما يبدو وجه من وجوه إعجاز القرآن وصلاحيته لأن يتمشى مع الزمن. وفي الحق أن هذا غلو منهم، وإسراف يخرج القرآن عن مقصده الذي نزل من أجله، ويحيد به عن هدفه الذي يرمي إليه.
وسوف نتكلم على ذلك بتوسع عند الكلام عن التفسير العلمي إن شاء الله تعالى.
ثم إن هذا الطغيان العقلي العلمي، لم يطغ على التفسير بالمأثور الطغيان الذي يجعله في عداد ما درس وذهب، بل وجد من العلماء في عصور مختلفة، من استطاع أن يقاوم تيار هذا الطغيان، ففسر القرآن، تفسيراً نقليا بحتا، على توسع منهم في النقل، وعدم تفرقة بين ما صح وما لم يصح، كما فعل السيوطي في كتابه الدر المنثور.
* * *
· التفسير الموضوعي:
وكذلك وجد من العلماء من ضيق دائرة البحث في التفسير، فتكلم عن ناحية واحدة من نواحيه المتشعبة المتعددة، فابن القيم ـ مثلا ـ أفرد كتابا من مؤلفاته للكلام عن أقسام القرآن سماه ((التبيان في أقسام القرآن)). وأبو عبيدة، أفرد كتابا للكلام عن مجاز القرآن، والراغب الاصفهاني، أفرد كتابا في مفردات القرآن. وأبو جعفر النحاس، أفرد كتابا في الناسخ والمنسوخ من القرآن. وأبو الحسن الواحدى، أفرد كتابا في أسباب نزول القرآن. والجصاص، أفرد كتابا في أحكام القرآن .. وغير هؤلاء كثير من العلماء الذين قصدوا إلى موضوع خاص في القرآن يجمعون ما تفرق منه، ويفردونه بالدرس والبحث.
* * *
· توسع متقدمي المفسرين قعد بمتأخريهم عن البحث المستقل:
ثم إنا نجد متقدمي المفسرين قد توسعوا في التفسير إلى حد كبير، جعل من جاء بعدهم من المفسرين لا يقلون عنتا، ولا يجدون مشقة في محاولاتهم لفهم كتاب الله، وتدوين ما دونوا من كتب في التفسير، فمنهم من أخذ كلام غيره وزاد عليه، ومنهم من اختصر، ومنهم من علق الحواشي وتتبع كلام من سبقه، تارة بالكشف عن المراد، وأخرى بالتفنيد والاعتراض، ومع ذلك فاتجاهات التفسير، وتعدد طرائقه وألوانه. لم تزل على ما كانت عليه، متشعبة متكاثرة.
أما في عصرنا الحاضر، فقد غلب اللون الأدبي الاجتماعي على التفسير، ووجدت بعض محاولات علمية، في كثير منها تكلف ظاهر وغلو كبير، أما اللون المذهبي، فقد بقى سنة إلى يومنا هذا بمقدار ما بقى من المذاهب الإسلامية، وسوف نعرض للتفسير في عصرنا الحاضر بما فيه الكفاية إن شاء الله تعالى.
هذا هو شأن التفسير في مرحلته الثالثة ـ مرحلة التدوين ـ وهذه هي خطواته التي تدرج فيها من لدن نشأته إلى عصرنا الحاضر، وتلك هي ألوانه وطرائقه وأرى أن من العسير علىّ أن أتمشى بالتفسير مع الزمن، وأن أتكلم عن طرائقه، ومميزاته، واتجاهاته، وألوانه في كل عصر من العصور التي مرت عليه، وذلك راجع إلى أننا لم نقف على كثير مما خلفته تلك العصور من آثار فيه وهي كثرة كاثرة تنوعت مقاصدها واختلفت اتجاهاتها. وإننا لندهش عند سماع ما ألف في التفسير من الكتب التي بلغت حد الكثرة، ونسبت لرجال لهم قيمتهم العلمية، ففي القرن الثاني كتب عمرو بن عبيد شيخ المعتزلة تفسيراً للقرآن عن الحسن البصري، كما ذكره ابن خلكان في كتابه وفيات الأعيان(1) ويذكر صاحب كتاب تبيين كذب المفترى: أن أبا الحسن الأشعري كتب كتاباً في التفسير يسمى المختزن، لم يترك آية تعلق بها بدعى إلا أبطل تعلقه بها، وجعلها حجة لأهل الحق(2) ، كما ينسب إلى الجويني تفسير كبير يشتمل على عشرة أنواع في كل آية(3)، وينسب للقشيري أيضا تفسير كبير(4) وابن الأنباري يذكرون أنه كان بحفظ مائة وعشرين تفسير من القرآن بأسانيدها (5) وأبو هلال العسكري، له كتاب المحاسن في تفسير القرآن، خمس مجلدات ، وغير هذا كثير جدا من الكتب التي ألفت في تفسير القرآن.
وبعد ... فهل يكون في مقدوري ـ وقد اندرست معظم كتب التفسير ـ أن أتكلم عن التفسير وما ألف فيه في جميع مراحله الزمنية؟ اللهم إن هذا أمر لا أقدر عليه إلا إذا جمع بين يدي كل ما كتب في التفسير من مبدأ نشأته إلى يومنا هذا، وكان لدى من الوقت ما يتسع لدراسته كله، وأنى لي بذلك ؟
على أننا لو نظرنا إلى مناحي المفسرين واتجاهاتهم، لوجدناهم مع اختلاف عصورهم يشتركون فيها، فبينما نجد من المتقدمين من دون التفسير بالمأثور أيضاً. وبينما نجد من المتقدمين من نحا في تفسيره الناحية الإشارية نجد من المتأخرين من ينحو هذا المنحى بعينه ، وبينما نجد من المتقدمين من حاول إخضاع القرآن لمذهبه وعقيدته نجد من المتأخرين من حاول مثل هذه المحاولة(1) وهكذا نجد كثيراً من كتب التفسير على اختلاف أزمانها تتحد في مشربها، وتتجه إلى ناحية واحدة من نواحي التفسير المختلفة.
لهذا كله، أرى نفسي مضطرا إلى أن أعدل في هذه المرحلة الثالثة ـ مرحلة عصور التدوين ـ عن السير بالتفسير مع الزمن إلى التكلم عنه من ناحية هذه الاتجاهات التي اتجه إليها المفسرون في تفاسيرهم وأتبع ذلك بالكلام عن أشهر الكتب المؤلفة في التفسير، فأتكلم أولا عن التفسير المأثور وأشهر ما دون فيه، ثم عن التفسير بالرأي الجائز وغير الجائز، وعن أشهر الكتب المؤلفة في ذلك. ويندرج في هذا، الكلام على تفاسير الفرق المختلفة، ثم أتكلم بعد ذلك عن التفسير عند الصوفية وأهم كتبهم فيه، ثم عند الفلاسفة، ثم عند الفقهاء كذلك، ثم أتكلم عن التفسير العلمي، ثم أختم بكلمة عامة عن التفسير في عصرنا الحاضر، وأسأل الله العون والتوفيق.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
صانع المعروف
صانع المعروف


عدد المساهمات : 179
نقاط : 23882
تاريخ التسجيل : 25/06/2011

الكتاب الاسطورة مناهج المفسرين  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الكتاب الاسطورة مناهج المفسرين    الكتاب الاسطورة مناهج المفسرين  I_icon_minitimeالسبت أغسطس 13, 2011 2:14 pm

الفصل الأول
التفسير بالمأثور
· ما هو التفسير المأثور:
يشمل التفسير المأثور ما جاء في القرآن نفسه من البيان والتفصيل لبعض آياته، وما نقل عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وما نقل عن الصحابة رضوان الله عليهم، وما نقل عن التابعين، من كل ما هو بيان وتوضيح لمراد الله تعالى من نصوص كتابه الكريم.
وإنما أدرجنا في التفسير المأثور ما روى عن التابعين ـ وإن كان فيه خلاف: هل هو من قبيل المأثور أو من قبيل الرأي ـ لأنا وجدنا كتب التفسير المأثور، كتفسير ابن جرير وغيره، لم تقتصر على ذكر ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم وما روى عن أصحابه، بل ضمت إلى ذلك ما نقل عن التابعين في التفسير.
* * *
· تدرج التفسير المأثور:
تدرج التفسير المأثور في دوريه ـ دور الرواية ودور التدوين ـ أما في دور الرواية، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين لأصحابه ما أشكل عليهم من معاني القرآن، فكان هذا القدر من التفسير يتناوله الصحابة بالرواية بعضهم لبعض، ولمن جاء بعدهم من التابعين.
ثم وجد من الصحابة من تكلم في تفسير القرآن بما ثبت لديه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو بمحض رأيه واجتهاده، وكان ذلك على قلة يرجع السبب فيها إلى الروعة الدينية التي كانت لهذا العهد، والمستوى العقلي الرفيع لأهله، وتحدد حاجات حياتهم العملية، ثم شعورهم مع هذا بأن التفسير شهادة على الله بأنه عنى باللفظ كذا.
ثم وجد من التابعين من تصدى للتفسير، فروى ما تجمع لديه من ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة، وزاد على ذلك من القول بالرأي والاجتهاد، بمقدار ما زاد من الغموض الذي كان يتزايد كلما بعد الناس عن عصر النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة.
ثم جاءت الطبقة التي تلي التابعين وروت عنهم ما قالوا، وزادوا عليه بمقدار ما زاد من غموض .. وهكذا ظل التفسير يتضخم طبقة بعد طبقة، وتروى الطبقة التالية ما كان عند الطبقات التي سبقتها، كما أشرنا إلى ذلك فيما سبق.
ثم ابتدأ دور التدوين ـ وهو ما يعنينا في هذا البحث ـ فكان أول مادون من التفسير، هو التفسير المأثور، على تدرج في التدوين كذلك، فكان رجال الحديث والرواية هو أصحاب الشأن الأول في هذا. وقد رأينا أصحاب مبادئ العلوم حين ينسبون ـ على عادتهم ـ وضع كل علم لشخص بعينه، يعدون واضع التفسير ـ بمعنى جامعه لا مدونه ـ الإمام مالك ابن أنس الأصبحى، إمام دار الهجرة.(1)
وكان التفسير إلى هذا الوقت لم يتخذ له شكلا منظم ، ولم يفرج بالتدوين، بل كان يكتب على أنه باب من أبواب الحديث المختلفة، يجمعون فيه ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة والتابعين.
ثم بعد ذلك انفصل التفسير عن الحديث، وأفرد بتأليف خاص، فكان أول ما عرف لنا من ذلك، تلك الصحيفة التي رواها على بن أبي طلحة عن ابن عباس(2).
ثم وجد من ذلك جزء أو أجزاء دونت في التفسير خاصة، مثل ذلك الجزء المنسوب لأبي روق وتلك الأجزاء الثلاثة التي يرويها محمد بن ثور عن ابن جريج.
ثم وجدت من ذلك موسوعات من الكتب المؤلفة في التفسير، جمعت كل ما وقع لأصحابها من التفسير المروى عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتابعيهم، كتفسير ابن جرير الطبري. ويلاحظ أن ابن جرير ومن على شاكلته ـ وإن نقلوا تفسيرهم بالإسناد ـ توسعوا في النقل وأكثروا منه، حتى استفاض وشمل ما ليس موثوقا به. كما يلاحظ أنه كان لا يزال موجودا إلى ما بعد عصر ابن جرير ومن على شاكلته ـ ممن أفردوا التفسير بالتأليف ـ رجال من المحدثين بوبوا للتفسير باباً ضمن أبواب ما جمعوا من الأحاديث.
ثم وجد بعد هذا أقوام دونوا التفسير المأثور بدون أن يذكروا أسانيدهم في ذلك، وأكثروا من نقل الأقوال في تفاسيرهم بدون تفرقة بين الصحيح والعليل، مما جعل الناظر في هذه الكتب لا يركن لما جاء فيها، لجواز أن يكون من قبيل الموضوع المختلق، وهو كثير في التفسير.
ثم بعد هذا تغيرت موجهات الحياة، فبعد أن كان التدوين في التفسير لا يتعدى المأثور منه، تعدى إلى تدوين التفسير بالرأي على تدرج فيه، كما أشرنا إليه فيما سبق ( ص 148).
* * *


· اللون الشخصي للتفسير المأثور:
من المعلوم أن الشخص الذي يفسر نصاً من النصوص، يلون هذا النص بتفسيره إياه، لأن المتفهم لعبارة من العبارات، هو الذي يحدد معناها ومرماها وفق مستواه الفكري، وعلى سعة أفقه العقلي، وليس في استطاعته أن يفهم من النص إلا ما يرمى إليه فكره، ويمتد إليه عقله، وبمقدار هذا يتحكم في النص ويحدد بيانه، وهذا أصل ملحوظ، نجد آثاره واضحة في كتب التفسير على اختلافها، فما من كتاب منها إلا وقد وجدنا آثار شخصية صاحبة وقد طبعت تفسيره بطابع خاص لا يعسر علينا إدراكه..
غير أن هذا الطابع الشخصي الذي يطبع به التفسير، إن ظهر لنا جليا واضحاً في كتب التفسير بالرأي، فإنا لا نكاد نجده لأول وهلة على هذا النحو من الواضح والجلاء بالنسبة لكتب التفسير بالمأثور، ولكن نستطيع أن نتبينه إذا ما قدرنا أن المتصدي لهذا التفسير النقلي إنما يجمع حول الآية من المرويات ما يشعر أنها متجهة إليه، متعلقة به، فيقصد إلى ما يتبادر لذهنه من معناها، ثم تدفعه الفكرة العامة فيها إلى أن يصل بين الآية وما يروى حولها في اطمئنان، وبهذا الاطمئنان، يتأثر نفسيا وعقليا، حينما يقبل مرويا ويعنى به، أو يرفض مرويا حين لا يرتاح إليه.
وكذلك راج بين المتقدمين ـ كما لاحظه ابن خلدون في مقدمته ـ ما هم في شوق إليه وتعلق به، من أسباب المكونات، وبدء الخليقة، وأسرار الوجود، وتفصيل الأحداث الكبرى في تاريخ الإنسانية الأولى، نظراً لبدواتهم وأميتهم، وقلة المتداول بينهم منه، فكان من وراء ذلك كثرة الإسرائيليات، وليس من شك في أن هذا صورة عقلية، وطابع شخصي لهذا العصر الأول(1) كما أنه صورة عقلية، وطابع شخصي لكل من يقبل هذه الإسرائيليات، ويفسر بعض آيات القرآن على ضوئها.
ثم إننا بعد هذا نلحظ لوناً شخصياً آخر في التفسير النقلي، ذلك أن الشخص الذي يعرف قيمة الرجال، ويستطيع أن ينقد السند، ويعرف أسباب الضعف في الرواية، نرى تفسيره يطبع بهذا الطابع الشخصي الخاص، فيتحرى الصحة فيما يرويه، فلا يدخل في كتابه مروياً اعتراه الضعف أو تطرق إليه الخلل. أما الشخص الذي لا دراية له بأسباب الضعف في الرواية، وليس عنده القدرة على نقد الرجال ونقد المروى عنهم فحاطب ليل، يجمع كل ما ينقل له في ذلك بدون أن يفرق بين الصحيح وغيره.
وبعد .. أفلا ترى أنه حتى في رواج التفسير النقلي وتداوله تكون شخصية المتعرض للتفسير هي الملونة له، المروجة لصنف منه؟ أظن أن نعم.
* * *
· الضعف في رواية التفسير المأثور وأسبابه:
علمنا مما تقدم أن التفسير المأثور يشمل ما كان تفسيراً للقرآن بالقرآن، وما كان تفسيراً للقرآن بالسنة، وما كان تفسيراً للقرآن بالموقوف على الصحابة أو المروى عن التابعين. أما تفسير القرآن بالقرآن، أو بما ثبت من السنة الصحيحة، فذلك مما لا خلاف في قبوله، لأنه لا يتطرق إليه الضعف، ولا يجد الشك إليه سبيلا.
وأما ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو ضعيف في سنده أو متنه فذلك مردود غير مقبول، ما دام لم تصح نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما تفسير القرآن بما يروى عن الصحابة أو التابعين، فقد تسرب إليه الخلل، وتطرق إليه الضعف، إلى حد كاد يفقدنا الثقة بكل ما روى من ذلك، لولا أن قيض الله لهذا التراث العظيم من أزاح عنه هذه الشكوك، فسلمت لنا منه كمية لا يستهان بها، وإن كان صحيحها وسقيمها لا يزال خليطا في كثير من الكتب التي عنى أصحابها بجمع شتات الأقوال.
ولقد كانت كثرة المروى من ذلك كثرة جاوزت الحد ـ وبخاصة عن ابن عباس وعلى بن أبي طالب رضي الله عنهما ـ أكبر عامل في صرف همة العلماء ولفت أنظارهم إلى البحث والتمحيص، والنقد والتعديل والتجريح، حتى ولقد نقل عن الإمام الشافعي رضى الله عنه أنه قال: (( لم يثبت عن ابن عباس في التفسير إلا شبيه بمائة حديث ))(1). وهذا العدد الذي ذكره الشافعي، لا يكاد يذكر بجوار ما روى عن ابن عباس من التفسير. وهذا يدل على مبلغ ما دخل في التفسير النقلي من الروايات المكذوبة المصنوعة.
* * *


· أسباب الضعف:
ونستطيع أن نرجع أسباب الضعف في رواية التفسير المأثور إلى أمور ثلاثة:
أولها: كثرة الوضع في التفسير.
ثانيها: دخول الإسرائيليات فيه.
ثالثها: حذف الأسانيد.
وأرى أن أعرض لكل سبب من هذه الأسباب الثلاثة المجملة بالإيضاح والتفصيل، حتى يتبين لنا مقدار ما كان لكل منها من الأثر في مقدار الثقة بكثير من الروايات المأثورة في التفسير.
* * *
أولا: الوضع في التفسير
· نشأة الوضع في التفسير:
نشأ الوضع في التفسير مع نشأته في الحديث، لأنهما كانا أول الأمر مزيجا لا يستقل أحدهما عن الآخر، فكما أننا نجد في الحديث الصحيح والحسن والضعيف، وفر رواته من هو موثوق به، ومن هو مشكوك فيه، ومن عرف بالوضع، نجد مثل ذلك فيما روى من التفسير، ومن روى من المفسرين.
وكان مبدأ ظهور الوضع في سنة إحدى وأربعين من الهجرة، حين اختلف المسلمون سياسيا، وتفرقوا إلى شيعة وخوارج وجمهور، ووجد من أهل البدع والأهواء من روجوا لبدعهم، وتعصبوا لأهوائهم، ودخل في الإسلام من تبطن الكفر والتحف الإسلام بقصد الكيد له، وتضليل أهله، فوضعوا ما وضعوا من روايات باطلة، ليصلوا بها إلى أغراضهم السيئة، ورغباتهم الخبيثة.
* * *
· أسبابه:
ويرجع الوضع في التفسير إلى أسباب متعددة: منها التعصب المذهبي، فإن ما جد من افتراق الأمة إلى شيعة تطرفوا في حب على، وخوارج انصرفوا عنه وناصبوه العداء، وجمهور المسلمين الذين وفقوا بجانب هاتين الطائفتين بدون أن يمسهم شئ من ابتداع التشيع أو الخروج، جعل كل طائفة من هذه الطوائف تحاول بكل جهودها أن تؤيد مذهبها بشئ من القرآن، فنسب الشيعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإلى على وغيره من أهل البيت ـ رضي الله عنهم ـ أقوالا كثيرة في التفسير تشهد لمذهبهم. كما وضع الخوارج كثيرا من التفسير الذي يشهد لمذهبهم، ونسبوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى أحد أصحابه، وكان قصد كل فريق من نسبة هذه الموضوعات إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى أحد أصحابه، الترويج للمروى، والإمعان في التدليس، فإن نسبة المروى إلى الرسول عليه الصلاة والسلام أو إلى أحد الصحابة، تورث المروى ثقة وقبولا، لا يوجد شئ منهما عندما ينسب المروى لغير النبي عليه الصلاة والسلام أو لغير صحابي.
كذلك نجد اللون السياسي في هذا العصر يترك له أثرا بيناً في وضع التفسير، ويلاحظ أن المروى عن على وابن عباس رضى الله عنهما في التفسير أكثر مما وضع على غيرهما، والسبب في ذلك أن عليا وابن عباس رضي الله عنهما من بيت النبوة، فالوضع عليهما يكسب الموضوع ثقة وقبولا، وتقديساً ورواجا، مما لا يكون لشئ مما ينسب إلى غيرهما. وفوق هذا فقد كان لعلى من الشيعة ما ليس لغيره، فنسبوا إليه من القول في التفسير ما يظنون أنه يعلى من قدره، ويرفع من شأنه. وابن عباس كان من نسله الخلفاء العباسيون، فوجد من الناس من تزلف إليهم، وتقرب بكثرة ما يرويه لهم عن جدهم ابن عباس، مما يدل على أن اللون السياسي كان له أثر ظاهر في وضع التفسير.
كذلك نجد من أسباب الوضع في التفسير ما قصده أعداء الإسلام الذين اندسوا بين أبنائه متظاهرين بالإسلام، من الكيد له ولأهله، فعمدوا إلى الدس والوضع في التفسير بعد أن عجزوا عن أن ينالوا من هذا الدين عن طريق البرهان والحجة.
* * *
· أثر الوضع في التفسير:
وكان من وراء هذه الكثرة التي دخلت في التفسير ودست عليه، أن ضاع كثير من هذا التراث العظيم الذي خلفه لنا أعلام المفسرين من السلف، لأن ما أحاط به من شكوك، أفقدنا الثقة به، وجعلنا نرد كل رواية تطرق إليها شئ من الضعف، وربما كانت صحيحة في ذاتها.
كما أن اختلاط الصحيح من هذه الروايات بالسقيم منها، جعل بعض من ينظر فيها وليس عند القدرة على التمييز بين الصحيح والعليل، ينظر إلى جميع ما روى بعين واحدة، فيحكم على الجميع بالصحة، وربما وجد من ذلك روايتين متناقضتين عن مفسر واحد فيتهمه بالتناقض في قوله، ويتهم المسلمين بقبول هذه الروايات المتناقضة المتضاربة.
يقول الأستاذ جولدزيهر في كتابه: (( المذاهب الإسلامية في تفسير القرآن )) ص 87 – 82 ما نصه: ((وإنه لمما يلفت النظر في هذا المحيط، هذه الظاهرة الغريبة، وهي أن التعاليم المنسوبة إلى ابن عباس تحمل طابع التصديق بشكل متساو، وهي في نفسها تظهر في تضاد شديد بينها وبين بعضها، مما لا يقبل التوسط أو التوفيق)).
ثم يسوق بعد ذلك مثالا لهذا التضاد، فيذكر ما قام حول تعيين الذبيح من خلاف أسنده مثيروه إلى أقوال مأثورة عن السلف، ويذكر في ضمن كلامه: ((أن كل فريق يعتمد في رأيه على إسناد متصل بابن عباس يدعم به رأيه فالإسحاقيون عن عكرمة، والإسماعيليون عن الشعبي أو مجاهد، كل أولئك سمعوا ذلك عن ابن عباس، وكل ادعى بأن هذا هو رأيه في هذه المسألة..)).
ثم يقول بعد كلام ساقه في هذا الموضوع: ((ويمكن أن يرى من ذلك إلى أي حد يكون مقدار صحة الرأي المستند إلى ابن عباس، وإلى أي حد يمكن الاعتراف به. وما نعتبره بالنسبة له وللآراء المأثورة عنه، يمكن أن يعتبر إلى أقصى حد بالنسبة للتفسير المأثور، فالأقوال المتناقضة يمكن أن ترجع دائما إلى قائل واحد، معتمدة في الوقت نفسه على أسانيد مرضية موثوق بها .... )).
ثم يقول بعد كلام ساقه عن الإسناد وما وقع فيه من اللعب والخداع: (( ومن الملاحظات التي أبديناها، يمكن أن نخلص بهذه النتيجة: وهي أنه لا يوجد بالنسبة لتفسير مأثور للقرآن ما نستطيع أن نسميه وحدة تامة أو كيانا قائما، فإنه قد تروى عن الصحابة في تفسير الموضوع الواحد آراء متخالفة وفي أغلب الأحيان يناقض بعضها بعضا من جهة، ومن جهة أخرى فقد تنسب للصحابي الواحد في معنى الكلمة الواحدة أو الجملة كلها آراء مختلفة، ويناء على ذلك، يعتبر التفسير الذي يخالف بعضه بعضاً، والمناقض بعضه بعضا، مساويا للتفسير بالعلم ))...
هذا ما حكم به الأستاذ جولدزيهر على التفسير بالمأثور في كتابه، وكل ما قاله في هذا الموضوع لا يعدو أن يكون محاولات فاشلة يريد من ورائها أن يظهر أن ابن عباس خاصة، ومن تكلم في التفسير من الصحابة عامة، بمظهر الشخص الذي يناقض نفسه في الكلمة الواحدة أو الموضوع الواحد. كما يرمي من وراء ذلك إلى أن يصرف نظر المسلمين عن هذه الثروة الضخمة التي خلفها لهم السلف الصالح في التفسير، زعما أن هذا التناقض الموجود بين الروايات، نتيجة لاختلاف وجهات النظر من شخص واحد أو أشخاص، وتفسير هذا شأنه نحن في حل من التزامه، لأنهم قالوا بعقولهم، ونحن مشتركون معهم في هذا القدر.
ونحن لا ننكر أن هناك اختلافا بين السلف في التفسير، كما لا ننكر أن هناك اختلافا بين قولين أو أقوال لشخص واحد منهم، ولكن هذا الاختلاف قلنا عنه فيما سبق مفصلا: إن معظمه يرجع إلى اختلاف عبارة وتنوع، لا اختلاف تناقض وتضاد، فما كان من هذا القبيل، فالجمع بينه سهل ميسور، وما لم يمكن فيه الجمع، فالمتأخر من القولين عن الشخص الواحد مقدم إن استويا في الحصة عنه، وإلا فالصحيح المقدم.
أما إذا تعارضت أقوال جماعة من الصحابة وتعذر الجمع أو الترجيح، فيقدم ابن عباس على غيره، لأن النبي صلى الله وسلم بشره بذلك حيث قال: ((اللهم علمه التأويل)). وقد رجح الشافعي قول زيد في الفرائض لحديث ((أفرضكم زيد)).
أما ما ساقه على سبيل المثال من اختلاف الرواية عن ابن عباس في تعيين الذبيح، فقد رجعت إلى ابن جرير في تفسيره، فوجدته قد ذكر عن ابن عباس هاتين الروايتين المختلفتين، وساق كل رواية منها بأسانيد تتصل إلى ابن عباس، بعضها يرفعه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وبعضها موقوف عليه.
وابن جرير ـ كما نعلم ـ لم يلتزم الصحة في كل ما يرويه، ولو أننا عرضنا هاتين الروايتين على قواعد المحدثين في نقد الرواية والترجيح، لتبين لنا لكل وضوح وجلاء، أن الرواية القائلة بأن الذبيح هو إسماعيل، أصح من غيرها وأرجح مما يخالفها، لأنها مؤيدة بأدلة كثيرة يطول ذكرها، أيضاً فإن الرواية التي يذكرها ابن جرير عن ابن عباس مرفوعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومفيدة أن الذبيح هو إسحاق، في سندها الحسن ابن دينار عن على بن زيد، والحسن بن دينار متروك، وعلى بن زيد منكر الحديث، كما ذكره الحافظ ابن كثير في تفسيره.
أما باقي الروايات الموقوفة على ابن عباس، والتي تفيد أن الذبيح هو إسحاق، فهي ـ وإن كانت صحيحة الأسانيد ـ محمولة على أن ما تضمنته من أن الذبيح هو إسحاق، كان رأي ابن عباس في أول الأمر، لأنه سمع ذلك من بعض الصحابة الذين كانوا يحدثون في مثل هذا بما سمعوه من كعب وغيره من مسلمي اليهود، ثم علم بعد: أن ذلك قول اليهود فرجع عنه وصرح بنقيضه، كما قال ابن جرير: ((حدثني يونس، أخبرنا ابن وهب، أخبرني عمر بن قيس عن عطاء بن أبي رباح، عن عبد الله بن عباس أنه قال: المفدي إسماعيل، وزعمت اليهود أنه إسحاق وكذبت اليهود))، وهذا الأثر صحيح عن ابن عباس، إسناده على شرط الصحيح، وهو كما ترى صريح في تكذيب اليهود فيما زعموه، وهو يقضي على كل أثر بخلافه، وبهذا الطريق تنتظم الآثار الواردة عن ابن عباس في هذا الباب. قال ابن كثير في تفسيره (جـ4 ص 17) بعدما ساق الروايات في أن الذبيح هو إسحاق: ((وهذه الأقوال ـ والله أعلم ـ كلها مأخوذة عن كعب الأحبار، فإنه لما أسلم في الدولة العمرية جعل يحدث عمر رضي الله عنه عن كتبه قديماً، فربما استمع له عمر رضي الله عنه، فترخص الناس في استماع ما عنده، ونقلوا ما عنده عنه، غثها وسمينها، وليس لهذه الأمة ـ والله أعلم ـ حاجة إلى حرف واحد مما عنده )) أ هـ.
وأما ما رمى إليه من جعل التفسير المأثور مساوياً للتفسير بالعلم، وادعاؤه أنه لا توجد له وحدة تامة أو كيان قائم، فهذا شطط منه في الرأي، ولا يكاد يسلم له هذا المدعي، لأن المأثور الذي صح عن النبي صلى الله عليه وسلم له مكانته وقيمته، } إن هو إلا وحي يوحى { .. وأما ما صح عن الصحابة فغالبه مما تلقوه عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وقليل منه قالوه عن نظر منهم واجتهاد، وحتى هذا القليل ـ عند من لا يرى أن له حكم المرفوع ـ له أيضاً قيمته ومكانته، ولا يجوز العدول عنه إذا صح إلى غيره، لأنهم أدرى بذلك، لما شاهدوه من القرائن والأحوال التي اختصوا بها، ولما لهم من الفهم التام والعلم الصحيح.
وبعد .. فهل يعد التفسير المأثور مساوياً للتفسير بالعلم؟ اللهم إن هذا لا يقوله منصف.
* * *
· قيمة التفسير الموضوع:
ثم إن هذا التفسير الموضوع، لو نظرنا إليه من ناحيته الذاتية بصرف النظر عن ناحيته الإسنادية، لوجدنا أنه لا يخلو من قيمته العلمية، لأنه مهما كثر الوضع في التفسير فإن الوضع ينصب على الرواية نفسها، أما التفسير في حد ذاته فليس دائماً خيالياً بعيدا عن الآية، وإنما هو ـ في كثير من الأحيان ـ نتيجة اجتهاد علمي له قيمته، فمثلا من يضع في التفسير شيئاً وينسبه إلى على أو إلى ابن عباس، لا يضعه على أنه مجرد قول يلقيه على عواهنه، وإنما هو رأي له، واجتهاد منه في تفسير الآية، بناه على تفكيره الشخصي، وكثيراً ما يكون صحيحاً، غاية الأمر أنه أراد لرأيه رواجاً وقبولا، فنسبه إلى من نسب إليه من الصحابة. ثم إن هذا التفسير المنسوب إلى على أو ابن عباس لم يفقد شيئاً من قيمته العلمية غالباً، وإنما الشئ، الذي لا قيمة له فيه هو نسبته إلى على أو ابن عباس.
فالموضوع من التفسير ـ والحق يقال ـ لم يكن مجرد خيال أو وهم خلق خلقاً، بل له أساس ما، يهم الناظر في التفسير درسه وبحثه، وله قيمته الذاتية وإن لم يكن له قيمته الإسنادية.


ثانياً: الإسرائيليات
· تمهيد : في بيان المراد بالإسرائيليات ومدى الصلة بينها وبين القرآن:
لفظ الإسرائيليات وإن كان يدل بظاهره على اللون اليهودي للتفسير، وما كان للثقافة اليهودية من أثر ظاهر فيه، إلا أنا نريد به ما هو أوسع من ذلك وأشمل، فنريد به ما يعم اللون اليهودي واللون النصراني للتفسير، وما تأثر به التفسير من الثقافتين اليهودية والنصرانية.
وإنما أطلقنا على جميع ذلك لفظ الإسرائيليات، من باب التغليب للجانب اليهودي على الجانب النصراني، فإن الجانب اليهودي هو الذي اشتهر أمره فكثر النقل عنه، وذلك لكثرة أهله، وظهور أمرهم، وشدة اختلاطهم بالمسلمين من مبدأ ظهور الإسلام إلى أن بسط رواقه على كثير من بلاد العالم ودخل الناس في دين الله أفواجاً.
كان لليهود ثقافة دينية، وكان للنصارى ثقافة دينية كذلك، وكلتا الثقافتين كان لها أثر في التفسير إلى حد ما.
أما اليهود، فإن ثقافتهم تعتمد أول ما تعتمد على التوراة التي أشار إليها القرآن بقوله: } إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور { ودل على بعض ما جاء فيها من أحكام بقوله : } وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص {.
وكثيراً ما يستعمل المسلمون واليهود أنفسهم لفظ التوراة ويطلقونه على كل الكتب المقدسة عند اليهود فيشمل الزبور وغيره. وتسمى التوراة بما اشتملت عليه من الأسفار الموسوية وغيرها: العهد القديم.
وكان لليهود بجانب التوراة سنن ونصائح وشروح لم تؤخذ عن موسى بطريق الكتابة، وإنما تحملوها ونقلوها بطريق المشافهة. ثم نمت على مرور الزمن وتعاقب الأجيال، ثم دونت وعرفت باسم التلمود، ووجود بجوار ذلك كثير من الأدب اليهودي، والقصص، والتاريخ، والتشريع، والأساطير.
وأما النصارى فكانت ثقافتهم تعتمد ـ في الغالب الأهم ـ على الإنجيل وقد أشار القرآن إلى أنه من كتب السماء التي نزلت على الرسل فقال : } ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل { وغير هذا كثير من آيات القرآن التي تشهد له بذلك.
والأناجيل المعتبرة عند النصارى يطلق عليها وعلى ما انضم إليها من رسائل الرسل. اسم: العهد الجديد. والكتاب المقدس لدى النصارى يشمل: التوراة والإنجيل ويطلق عليه: العهد القديم والعهد الجديد.
وكان طبيعياً أن يشرح الإنجيل بشروح مختلفة، كانت فيما بعد منبعاً من منابع الثقافة النصرانية، كما وجد بجوار ذلك ما زاده النصارى من القصص، والأخبار، والتعاليم. التي زعموا أنهم تلقوها عن عيسى عليه السلام، وهذا كله كان من ينابيع هذه الثقافة النصرانية.
إذن، فقد كانت التوراة المصدر الأول لثقافة اليهود الدينية، كما كان الإنجيل المصدر الأهم لثقافة النصارى الدينية.
وإذا نحن أجلنا النظر في التوراة والإنجيل نجد أنهما قد اشتملا على كثير مما اشتمل عليه القرآن الكريم، وبخاصة ما كان له تعلق بقصص الأنبياء عليهم السلام، وذلك على اختلاف في الإجمال والتفصيل، فالقرآن إذا عرض لقصة من قصص الأنبياء ـ مثلا ـ فإنه ينحو فيها ناحية يخالف بها منحى التوراة أو الإنجيل، فتراه يقتصر على مواضع العظة، ولا يتعرض لتفصيل جزئيات المسائل، فلا يذكر تاريخ الوقائع، ولا أسماء البلدان التي حصلت فيها كما أنه لا يذكر في الغالب أسماء الأشخاص الذين جرت على أيديهم بعض الحوادث. ويدخل في تفاصيل الجزئيات، بل يتخير من ذلك ما يمس جوهر الموضوع، وما يتعلق بموضع العبرة.
وإذا نحن تتبعنا الموضوعات التي اتفق في ذكرها القرآن والتوراة، أو القرآن والإنجيل، ثم أخذنا موضوعاً منها، وقارنا بين ما جاء في الكتابين وجدنا اختلاف المسلك ظاهراً جليا:
فمثلا قصة آدم عليه السلام، ورد ذكرها في التوراة، كما وردت في القرآن في مواضع كثيرة، أطولها ما ورد في سورة البقرة، وما ورد في سورة الأعراف. وبالنظر في هذه الآيات من السورتين، نجد أن القرآن لم يتعرض لمكان الجنة، ولا لنوع الشجرة التي نهى آدم وزوجه عن الأكل منها، ولا بين الحيوان الذي تقمصه الشيطان فدخل الجنة ليزل آدم وزوجه. كما لم يتعرض للبقعة التي هبط إليها آدم وزوجه وأقام بها بعد خروجهما من الجنة ... إلى آخر ما يتعلق بهذه القصة من تفصيل وتوضيح.
ولكن نظرة واحدة يجيلها الإنسان في التوراة يجد بعدها أنها قد تعرضت لكل ذلك وأكثر منه. فأبانت أن الجنة في عدن شرقا، وأن الشجرة التي نهيا عنها كانت في وسط الجنة، وأنها شجرة الحياة، وأنها شجرة معرفة الخير والشر، وأن الذي خاطب حواء هو الحية، وذكرت ما انتقم الله به من الحية التي تقمصها إبليس، بأن جعلها تسعى على بطنها وتأكل التراب، وانتقم من حواء بتعبها هي ونسلها في حبلها ... إلى آخر ما ذكر فيها مما يتعلق بهذه القصة(1).
ومثلا نجد القرآن الكريم قد اشتمل على موضوعات وردت في الإنجيل فمن ذلك قصة عيسى ومريم، ومعجزات عيسى عليه السلام، كل ذلك جاء به القرآن في أسلوب موجز، يقتصر على موضع العظة ومكان العبرة، فلم يتعرض القرآن لنسب عيسى مفصلا، ولا لكيفية ولادته، ولا للمكان الذي ولد فيه، ولا لذكر الشخص الذي قذفت به مريم، كما لم يتعرض لنوع الطعام الذي نزلت به مائدة السماء، ولا لحوادث جزئية من إبراء عيسى للأكمه والأبرص وإحياء الموتى ..
مع أننا لو نظرنا في الإنجيل لوجدناه قد تعرض لنسب عيسى ولكيفية ولادة مريم له، ولذكر الشخص الذي قذفت به مريم(2)، ولنوع الطعام الذي نزلت به مائدة السماء ولحوادث جزئية من إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى، ولكثير من مثل هذا التفصيل الموسع الذي أعرض عنه القرآن فلم يذكره لنا.
وبعد ... فهل يجد المسلمون هذا الإيجاز في كتابهم، ويجدون بجانب ذلك تفصيلا لهذا الإيجاز في كتب الديانات الأخرى، ثم لا يقتبسون منها بقدر ما يرون أنه شارح لهذا الإيجاز وموضح لما فيه من غموض ؟ .. هذا ما نريد أن نعرض له في هذا البحث، ليتبين لنا كيف دخلت الإسرائيليات في التفسير، وكيف تطور هذا الدخول، وإلى أي حد تأثر التفسير بالتعاليم اليهودية والنصرانية.

* * *
· مبدأ دخول الإسرائيليات في التفسير وتطوره :
نستطيع أن نقول: إن دخول الإسرائيليات في التفسير، أمر يرجع إلى عهد الصحابة رضى الله عنهم، وذلك نظراً لاتفاق القرآن مع التوراة والإنجيل في ذكر بعض المسائل كما تقدم، مع فارق واحد، هو الإيجاز في القرآن، والبسط والإطناب في التوراة والإنجيل. وسبق لنا القول بأن الرجوع إلى أهل الكتاب، كان مصدراً من مصادر التفسير عند الصحابة، فكان الصحابي إذا مر على قصة من قصص القرآن يجد من نفسه ميلا إلى أن يسأل عن بعض ما طواه القرآن منها ولم يتعرض له، فلا يجد من يجيبه على سؤاله سوى هؤلاء النفر الذين دخلوا في الإسلام، وحملوا إلى أهله ما معهم من ثقافة دينية، فألقوا إليهم ما ألقوا من الأخبار والقصص الديني.
غير أن الصحابة ـ رضوان الله عليهم أجمعين ـ لم يسألوا أهل الكتاب عن كل شئ، ولم يقبلوا منهم كل شئ، بل كانوا يسألون عن أشياء لا تعدو أن تكون توضيحا للقصة وبيانا لما أجمله القرآن منها، مع توقفهم فيما يلقي إليهم، فلا يحكمون عليه بصدق أو بكذب مادام يحتمل كلا الأمرين، امتثالا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا: } آمنا بالله وما أنزل إلينا {(1) .. الآية
كما أنهم لم يسألوهم عن شئ مما يتعلق بالعقيدة أو يتصل بالأحكام، اللهم إلا إذا كان على جهة الاستشهاد والتقوية لما جاء به القرآن. كذلك كانوا لا يعدلون عما ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم من ذلك إلى سؤال أهل الكتاب، لأنه إذا ثبت الشئ عن الرسول صلى الله عليه وسلم فليس لهم أن يعدلوا عنه إلى غيره، كما كانوا لا يسألون عن الأشياء التي يشبه أن يكون السؤال عنها نوعا من اللهو والعبث، كالسؤال عن الأشياء التي يشبه أن يكون السؤال عنها نوعا من اللهو والعبث، كالسؤال عن لون كلب أهل الكهف، والبعض الذي ضرب به القتيل من البقرة، ومقدار سفينة نوح، ونوع خشبها، واسم الغلام الذي قتله الخضر .. وغير ذلك، ولهذا قال الدهلوي بعد أن بين أن السؤال عن مثل هذا تكلف مالا يعني: ((وكانت الصحابة رضى الله عنهم يعدون مثل ذلك قبيحا من قبيل تضييع الأوقات))(2)
كذلك دان الصحابة لا يصدقون اليهود فيما يخالف الشريعة أو يتنافى مع العقيدة. بل بلغ بهم الأمر أنهم كانوا إذا سألوا أهل الكتاب عن شئ فأجابوا عنه خطأ، ردوا عليهم خطأهم. وبينوا لهم وجه الصواب فيه، فمن ذلك ما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله وسلم ذكر يوم الجمعة فقال: (( فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلى يسأل الله تعالى شيئا إلا أعطاه إياه)) وأشار بيده يقللها(3)
فقد اختلف السلف في تعيين هذه الساعة، وهل هي باقية أو رفعت؟ وإذا كانت باقية، فهل هي في جمعة واحده من السنة أو في كل جمعة منها؟ فنجد أبا هريرة رضى الله عنه يسأل كعب الأحبار عن ذلك، فيجيبه كعب: بأنها في جمعة واحدة من السنة، فيرد عليه أبو هريرة قوله هذا ويبين له: أنها في كل جمعة فيرجع كعب إلى التوراة، فيرى الصواب مع أبى هريرة فيرجع إليه(1)، كما نجد أبا هريرة أيضا يسأل عبدالله بن سلام عن تحديد هذه الساعة ويقول له: أخبرني ولا تضن علي، فيجيبه عبدالله بن سلام بأنها آخر ساعة في يوم الجمعة، فيرد عليه أبو هريرة بقوله: كيف تكون آخر ساعة في يوم الجمعة وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلى)) وتلك الساعة لا يصلى فيها؟ فيجيبه عبد الله بن سلام بقوله: ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من جلس مجلساً ينتظر الصلاة فهو في صلاة حتى يصلى)) ؟ ... الحديث(2).
فمثل هذه المراجعة التي كانت بين أبى هريرة وكعب تارة، وبينه وبين ابن سلام تارة أخرى، تدلنا على أن الصحابة كانوا لا يقبلون كل ما يقال لهم، بل كانوا يتحرون الصواب ما استطاعوا، ويردون على أهل الكتاب أقوالهم إن كانت لا توافق وجه الصواب.
ومهما يكن من شئ فإن الصحابة ـ رضى الله عنهم ـ لم يخرجوا عن دائرة الجواز التي حدها لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعما فهموه من الإباحة في قوله عليه السلام: ((بلغوا عنى ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب على متعمداً فليتبوأ مقعده من النار))(3)
كما أنهم لم يخالفوا قول الرسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا .. الآية ))(4) ولا تعارض بين هذين الحديثين، لأن الأول أباح لهم ان يحدثوا عما وقع لبني إسرائيل من الأعاجيب، لما فيها من العبرة والعظة، وهذا بشرط أن يعلموا أنه ليس مكذوبا، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعقل أن يبيح لهم رواية المكذوب.
قال الحافظ ابن حجر في الفتح(5) عند شرحه لهذا الحديث: وقال الشافعي: من المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يجيز التحدث بالكذب، فالمعنى: حدثوا عن بني إسرائيل بما لا تعلمون كذبه، وأما ما تجوزونه فلا حرج عليكم في التحدث به عنهم. وهو نظير قوله: ((إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم))، ولم يرد الإذن ولا المنع من التحدث بما يقطع بصدقه ا هـ.
وأما الحديث الثاني، فيراد منه التوقف فيما يحدث به أهل الكتاب، مما يكون محتملا للصدق والكذب، لأنه ربما كان صدقاً فيكذبونه، أو كذبا فيصدقونه، فيقعون بذلك في الحرج. أما خالف شرعنا فنحن في حل من تكذيبه، وأما ما وافقه فنحن في حل من تصديقه.
قال الحافظ ابن حجر عند شرحه لهذا الحديث: ((لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم)) أي إذا كان ما يخبرونكم به محتملا، لئلا يكون في نفس الأمر صدقا فتكذبوه، أو كذباً فتصدقوه، فتقعوا في الحرج. ولم يرد النهي عن تكذيبهم فيما ورد شرعنا بخلافه، ولا عن تصديقهم فيما ورد شرعنا بوفاته. نبه على ذلك الشافعي رحمه الله)) ... ثم قال: ((وعلى هذا نحمل ما جاء عن السلف من ذلك))(1).
وأما ما أخرجه الإمام أحمد، وابن أبي شيبة، والبزار، من حديث جابر ابن عبدالله: ((أن عمر بن الخطاب أتى النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب، فقرأه عليه فغضب فقال: (( أمتهوكون(2) فيها يا ابن الخطاب ؟ والذي نفسي بيده، لقد جئتكم بها بيضاء نقية. لا تسألوهم عن شئ فيخبروكم بحق فتكذبوا به، أو بباطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده، لو أن موسى صلى الله عليه وسلم كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني))(3) فلا يعارض ما قلناه من الجواز، لأن النهي الوارد هنا كان في مبدأ الإسلام وقبل استقرار الأحكام. والإباحة بعد أن عرفت الأحكام واستقرت، وذهب خوف الاختلاط .. قال الحافظ ابن حجر في الفتح(4) : ((وكأن النهي وقع قبل استقرار الأحكام الإسلامية، والقواعد الدينية خشية الفتنة، لما زال المحذور وقع الإذن في ذلك، لما في سماع الأخبار التي كانت في زمانهم من الاعتبار)) هـ ا.
ويمكن أن ندفع ما يتوهم من التعارض بما نقله ابن بطال عن المهلب أنه قال: ((هذا النهي إنما هو في سؤالهم عما لا نص فيه، لأن شرعنا مكتف بنفسه، فإذا لم يوجد فيه نص ففي النظر والاستدلال غنى عن سؤالهم، ولا يدخل في النهي سؤالهم عن الأخبار المصدقة لشرعنا، والأخبار عن الأمم السالفة ))(5).
ومن هذا كله يتبين لنا: أنه لا تعارض بين هذه الأحاديث الثلاثة، كما يتبين لنا المقدار الذي أباحه الشارع من الرواية عن أهل الكتاب .
ولسنا بعد ما فهمناه من هذه الأحاديث، وما عرفناه من حرص الصحابة على امتثال ما أمرهم به الرسول صلى الله عليه وسلم، نستطيع أن نقر الأستاذ جولدزيهر والأستاذ أحمد أمين على هذا الاتهام الذي وجهاه إلى ابن عباس خاصة، وإلى الصحابة عامة، من رجوعهم إلى أهل الكتاب في كل شئ، وقبولهم لما نهى الرسول عن أخذه من أهل الكتاب، وقد ذكرنا كلامهما ورددنا عليه عند الكلام عن ابن عباس، كما ذكرنا الأثر الذي أخرجه البخاري عن ابن عباس، وفيه يشدد ـ رضي الله عنه ـ النكير على من يأخذون من أهل الكتاب ويصدقونهم في كل شئ، فهل يعقل بعد هذا، وبعد ما عرفناه من عدالة الصحابة وحرصهم على امتثال أوامر الله ورسوله، ومراجعة أبي هريرة لكعب الأحبار وعبدالله بن سلام، أن نعترف بتهاون الصحابة وخالفتهم لتعاليم رسول الله صلى الله عليه وسلم !! ؟ اللهم إنا لا نقر ذلك ولا نرضاه.
وأما ما ذكره الأستاذ جولدزيهر: من أن ابن عباس كان يرجع لرجل يسمى أبا الجلد غيلان بن فروة الأزدي في تفسير القرآن(1)، فعلى فرض صحة ذلك. فإنا لا نكاد نصدق أن ابن عباس كان يرجع إليه في كل شئ، بل كان يرجع إليه فيسأله عن أشياء لا تعدو دائرة الجواز، وليس من شك في ذلك بعد ما عرفت من شدة نكير ابن عباس على من كان يرجع لأهل الكتاب ويأخذ عنهم.
وأما ما اعتمد عليه هذا المستشرق في دعواه هذه، من أن الطبري عند تفسيره للفظ البرق في قوله تعالى في الآية (12) من سورة الرعد: } هو الذي يريكم البرق خوفاً وطمعاً { .. نسب إلى ابن عباس أنه قال: إن أبا الجلد يقول: إن معناه المطر فهو اعتماد لا يكاد ينهض بهذه الدعوى، لأن ما رواه ابن جرير رواه عن المثنى، قال: حدثنا حجاج، قال: حدثنا حماد ، قال: أخبرنا موسى بن سالم أبو جهضم مولى ابن عباس قال: كتب ابن عباس إلى أبي الجلد يسأله عن البرق فقال: البرق: الماء))(2) وهذا إسناد منقطع، لأن موسى بن سالم أبا جهضم لم يدرك ابن عباس، ولم يكن مولى له، وإنما كان مولى العباسيين، وروى عن أبى جعفر الباقر الذي كان بعد ابن عباس بمدة طويلة(3) ولعل ما قاله ابن جرير من أنه مولى ابن عباس سهو منه، أو لعله خطأ وقع أثناء الطبع.
ثم إن سؤال ابن عباس عن معنى البرق، ليس سؤالا عن أمر يتعلق بالعقيدة أو الأحكام، وإنما هو سؤال يرجع إلى تعرف بعض ظواهر الكون الطبيعية، وليس في هذا ما يجر إلى مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم في نهيه عن سؤال أهل الكتاب. على أن الحديث ليس فيه ما يدل على أن ابن عباس صدق أبا الجلد فيما قال، وكل ما فيه: أنه حكي قوله في البرق.
وأما ما نسب لعبد الله بن عمرو بن العاص من أنه أصاب يوم اليرموك زاملتين من كتب اليهود فكان يحدث منهما، فليس على إطلاقه، بل كان يحدث منهما في حدود ما فهمه من الإذن في قوله عليه السلام: ((حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج)) كما نص على ذلك ابن تيمية(1).
هذا هو مبلغ رجوع الصحابة إلى أهل الكتاب وأخذهم عنهم. أما التابعون فقد توسعوا في الأخذ عن أهل الكتاب، فكثرت على عهدهم الروايات الإسرائيلية في التفسير، ويرجع ذلك لكثرة من دخل من أهل الكتاب في الإسلام، وميل نفوس القوم لسماع التفاصيل عما يشير إليه القرآن من أحداث يهودية أو نصرانية، فظهرت في هذا العهد جماعة من المفسرين أرادوا أن يسدوا هذه الثغرات القائمة في التفسير بما هو موجود عند اليهود والنصارى، فحشوا التفسير بكثير من القصص المتناقض، ومن هؤلاء : مقاتل بن سليمان المتوفى سنة 150هـ الذي نسبه أبو حاتم إلى أنه استقى علومه بالقرآن من اليهود والنصارى وجعلها موافقة لما في كتبهم(2)} وان من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذابا شديدا، كان ذلك في الكتاب مسطورا {(3). يرجع إلى فتح القسطنطينية، وتدمير الأندلس وغيرها من البلاد، فقد جاء عنه أنه قال: وجدت في كتاب الضحاك بن مزاحم في تفسيرها: (( أما مكة فتخربها الحبشة، وتهلك المدينة بالجوع، والبصرة بالغرق، والكوفة بالترك، والجبال بالصواعق والرواجف، وأما خراسان فهلاكها ضروب ... ثم ذكر بلداً(4). وروى عن وهب بن منبه : أن الجزيرة آمنة من الخراب حتى تخرب أرمبنية، وأرمينية، آمنة حتى تخرب مصر، ومصر آمنة حتى تخرب الكوفة، ولا تكون الملحمة الكبرى حتى تخرب الكوفة، فإذا كانت الملحمة الكبرى، فتحت قسطنطينية على يد رجل من بنى هاشم، وخراب الأندلس من قبل الزنج، وخراب إفريقية من قبل الأندلس، وخراب مصر من انقطاع النيل واختلاف الجيوش فيها، وخراب العراق من الجوع. وخراب البصرة من قبل الغرق [ الغرق ] ، وخراب الأيلة من عدو يحصرهم براً وبحراً، وخراب الري من الديلم، وخراب خراسان من قبل التبت، وخراب التبت من قبل الصين، وخراب الهند واليمن من قبل الجراد والسلطان، وخراب مكة من الحبشة، وخراب المدينة من قبل الجوع)) ا هـ . بل ونجد بعض المفسرين في هذا العصر ـ عصر التابعين ـ يصل بهم الأمر إلى أن يصلوا بين القرآن وما يتعلق بالإسلام في مستقبله، فيشرحوا القرآن بما يشبه التكهن عن المستقبل، والتنبؤ بما يطويه الغيب، فهذا مقاتل ابن سليمان، كان يرى أن قوله تعالى:
ثم جاء بعد عصر التابعين من عظم شغفه بالإسرائيليات، وأفرط في الأخذ منها إلى درجة جعلتهم لا يردون قولا. ولا يحجمون عن أن يلصقوا بالقرآن كل ما يروى لهم وإن كان لا يتصوره العقل !! . واستمر هذا الشغف بالإسرائيليات، والولع بنقل هذه الأخبار التي أصبح الكثير منها نوعا من الخرافة إلى أن جاء دور التدوين للتفسير، فوجد من المفسرين من حشوا كتبهم بهذا القصص الإسرائيليات، الذي كاد يصد الناس عن النظر فيها والركون إليها.
* * *
· مقالة ابن خلدون في الإسرايليات :
ونرى بعد هذا أن نذكر عبارة ابن خلدون في مقدمته، ليتبين لنا أسباب الاستكثار من هذا المرويات الإسرائيلية، وكيف تسربت إلى المسلمين، فإنه خير من كتب في هذا الموضوع، وإليك نص عبارته :
قال رحمه الله ((... وقد جمع المتقدمون في ذلك ـ يعني التفسير النقلي ـ وأوعوا إلا أن كتبهم ومنقولاتهم تشتمل على الغث والسمين، والمقبول والمردود. والسبب في ذلك أن العرب لم يكونوا أهل كتاب ولا علم. وإنما غلبت عليهم البداوة والأمية، وإذا تشوقوا إلى معرفة شئ مما تتشوق إليه النفوس البشرية في أسباب المكونات، وبدء الخليقة، وأسرار الوجود فإنما يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم، ويستفيدونه منهم، وهم أهل التوراة من اليهود ومن تبع دينهم من النصارى. وأهل التوراة الذين بين العرب يومئذ بادية مثلهم، ولا يعرفون من ذلك إلا ما تعرفه العامة من أهل الكتاب، ومعظمهم من حمير، الذين أخذوا بدين اليهودية، فلما أسلموا بقوا على ما كان عندهم مما لا تعلق له بالأحكام الشرعية التي يحتاطون لها، مثل أخبار بدء الخليقة، وما يرجع إلى الحدثان والملاحم، وأمثال ذلك وهؤلاء مثل: كعب الأحبار، ووهب بن منبه، وعبدالله بن سلام، وأمثالهم، فامتلأت التفاسير من المنقولات عنهم، وفي أمثال هذه الأغراض أخبار موقوفة عليهم، وليست مما يرجع إلى الأحكام فيتحرى فيها الصحة التي يجب بها العمل، وتساهل المفسرون في مثل ذلك، وملئوا الكتب بهذه المنقولات، وأصلها كما قلنا عن أهل التوراة الذين يسكنون البادية ولا تحقيق عندهم بمعرفة ما ينقلونه من ذلك، إلا أنهم بعد صيتهم، وعظمت أقدارهم، لما كانوا عليه من المقامات في الدين والملة، فتلقيت بالقبول من يومئذ....)).
ومن هذا يتضح لنا أن ابن خلدون أرجع الأمر إلى اعتبارات اجتماعية وأخرى دينية، فعد من الاعتبارات الاجتماعية غلبة البداوة والأمية على العرب وتشوقهم لمعرفة ما تتشوق إليه النفوس البشرية، من أسباب المكونات وبدء الخليقة وأسرار الوجود، وهم إنما يسألون في ذلك أهل الكتاب قبلهم.
وعد من الاعتبارات الدينية التي سوغت لهم تلقى المرويات في تساهل وعدم تحر للصحة (( أن مثل هذه المنقولات ليست مما يرجع إلى الأحكام فيتحرى فيها الصحة التي يجب بها العمل))
وسواء أكانت هذه هي كل الأسباب أم كانت هناك أسباب أخرى، فإن كثيراً من كتب التفسير قد اتسع لما قبل من ذلك وأكثر، حتى أصبح ما فيها مزيجا متنوعا من مخلفات الأديان المختلفة، والمذاهب المتباينة.
* * *
· أثر الإسرائيليات في التفسير:
ولقد كان لهذه الإسرائيليات التي أخذها المفسرون عن أهل الكتاب وشرحوا بها كتاب الله تعالى أثر سيئ في التفسير، ذلك لأن الأمر لم يقف على ما كان عليه في عهد الصحابة، بل زادوا على ذلك فرووا كل ما قيل لهم إن صدقا وإن كذبا، بل ودخل هذا النوع من التفسير كثير من القصص الخيالي المخترع، مما جعل الناظر في كتب التفسير التي هذا شأنها يكاد لا يقبل شيئاً مما جاء فيها، لاعتقاده أن الكل من واد واحد. وفي الحق أن المكثرين من هذه الإسرائيليات وضعوا الشوك في طريق المشتغلين بالتفسير، وذهبوا بكثير من الأخبار الصحيحة بجانب ما رووه من قصص مكذوب وأخبار لا تصح، كما أن نسبة هذه الإسرائيليات التي لا يكاد يصح شئ منها إلى بعض من آمن من أهل الكتاب، جعلت بعض الناس ينظر إليهم بعين الاتهام والريبة. وسوف نعرض لهذا فيما بعد، ونرد عليه إن شاء الله تعالى.
* * *
· قيمة ما يروى من الإسرائيليات:
تنقسم الأخبار الإسرائيلية إلى أقسام ثلاثة، وهي ما يأتي:
القسم الأول: ما يعلم صحته بأن نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم نقلا صحيحاً، وذلك كتعيين اسم صاحب موسى عليه السلام بأنه الخضر، فقد جاء هذا الاسم صريحاً على لسان رسول الله صلى لله عليه وسلم كما عند البخاري(1) أو كان له شاهد من الشرع يؤيده. وهذا القسم صحيح مقبول.
القسم الثاني: ما يعلم كذبه بأن يناقض ما عرفناه من شرعنا، أو كان لا يتفق مع العقل، وهذا القسم لا يصح قبوله ولا روايته.
القسم الثالث: ما هو مسكوت عنه، لا هو من قبيل الأول، ولا هو من قبيل الثاني، وهذا القسم تتوقف فيه، فلا تؤمن به ولا نكذبه، وتجوز حكايته، لما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا ...)) الآية.
وهذا القسم غالبه مما ليس فيه فائدة تعود إلى أمر ديني، ولهذا يختلف علماء أهل الكتاب في مثل هذا اختلافا كثيراً، ويأتي عن المفسرين خلاف بسبب ذلك، كما يذكرون في مثل هذا أسماء أصحاب الكهف، ولون كلبهم، وعصا موسى من أي شجرة، وأسماء الطيور التي أحياها الله لإبراهيم، وتعيين بعض البقرة الذي ضرب به قتيل بني إسرائيل، ونوع الشجرة التي كلم الله منها موسى .. إلى غير ذلك مما أبهمه الله في القرآن ولا فائدة في تعيينه تعود على المكلفين في دنياهم أو دينهم.
ثم إذا جاء شئ من هذا القبيل ـ أعنى ما سكت عنه الشرع ولم يكن فيه ما يؤيده أو يفنده ـ عن أحد من الصاحية بطريق صحيح، فإن كان قد جزم به فهو كالقسم الأول، يقبل ولا يرد، لأنه لا يعقل أن يكون قد أخذه عن أهل الكتاب بعدما علم من نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تصديقهم. وإن كان لم يجزم به فالنفس أسكن إلى قبوله، لأن احتمال ان يكون الصحابي قد سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، أو ممن سمعه منه، أقوى من احتمال السماع من أهل الكتاب، ولا سيما بعد ما تقرر من أن الرواية من علماء التفسير على ذلك، أما إن اتفقوا عليه. فإنه يكون أبعد من أن يكون مسموعاً من أهل الكتاب، وحينئذ تسكن النفس إلى قبوله والأخذ به. والله أعلم.
* * *
· موقف المفسر إزاء هذه الإسرائيليات:
علمنا أن كثرة النقل عن أهل الكتاب بدون تفرقة بين الصحيح والعليل دسيسة دخلت في ديننا واستفحل خطرها، كما علما أن قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم)) قاعدة مقررة لا يصح العدول عنها بأي حال من الأحوال، وبعد هذا وذاك نقول: إنه يجب على المفسر أن يكون يقظاً إلى أبعد حدود اليقظة، ناقداً إلى نهاية ما يصل إليه النقاد من دقة وروية حتى يستطيع أن يستخلص من هذا الهشيم المركوم من الإسرائيليات ما يناسب روح القرآن، ويتفق مع العقل والنقل، كما يجب عليه أن لا يرتكب النقل عن أهل الكتاب إذا كان في سنة نبينا صلى الله عليه وسلم بيان لمجمل القرآن، فمثلا حيث وجد لقوله تعالى: } ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسداً ثم أناب { .. مجمل في السنة النبوية الصحيحة وهو قصة ترك ((إن شاء الله)) والمؤخذة عليه فلا يرتكب قصة صخر ا
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
صانع المعروف
صانع المعروف


عدد المساهمات : 179
نقاط : 23882
تاريخ التسجيل : 25/06/2011

الكتاب الاسطورة مناهج المفسرين  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الكتاب الاسطورة مناهج المفسرين    الكتاب الاسطورة مناهج المفسرين  I_icon_minitimeالسبت أغسطس 13, 2011 2:15 pm

· أقطاب الروايات الإسرائيلية:
يتصفح الإنسان كتب التفسير بالمأثور. فلا يلبث أن يلحظ أن غالب ما يرى فيها من إسرائيليات، يكاد يدور على أربعة أشخاص، هم : عبدالله ابن سلام، وكعب الأحبار، ووهب بن منبه، وعبد الملك بن عبد العزيز ابن جريج .. وهؤلاء الأربعة اختلفت أنظار الناس في الحكم عليهم والثقة بهم، فمنهم من ارتفع بهم عن حد التهمة، ومنهم من رماهم بالكذب وعدم التثبت في الرواية ولهذا أرى أن أعرض لكل فرد منهم، لأكشف عن قيمته في باب الرواية، وبخاصة ما يرجع من ذلك إلى ناحية التفسير، لنرى أي الفريقين أصدق في حكمه، وأدق في نقده.


1- عبدالله بن سلام
· ترجمته:
هو أبو يوسف، عبدالله بن سلام بن الحارث الإسرائيلي. الأنصاري، حلف بني عوف من الخزرج، وهو من ولد يوسف بن يعقوب عليهما السلام. أسلم عند قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة, ويحدثنا البخاري عن قصة إسلامه فيقول في ضمن حديث ساقه في باب الهجرة : (( .. فلما جاء نبي الله صلى الله عليه وسلم، جاء عبدالله بن سلام فقال: أشهد أنك رسول الله، وأنك جئت بحق، وقد علمت يهود أني سيدهم وابن سيدهم، وأعلمهم وابن أعلمهم، فادعهم فاسألهم عنى قبل أن يعلموا أني قد أسلمت، فإنهم إن يعلموا أني قد أسلمت قالوا في ما ليس في، فأرسل نبي الله صلى الله عليه وسلم، فأقبلوا فدخلوا عليه، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا معشر اليهود .. ويلكم، اتقوا الله ، فو الله الذي لا إله إلا هو، إنكم لتعلمون أني رسول الله حقاً، وأني جئتكم بحق فأسلموا)) قالوا : ما نعلمه قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم، قالها ثلاث مرات، قال: فأي رجل فيكم عبدالله ابن سلام؟ قالوا: ذلك سيدنا وابن سيدنا، وأعلمنا وابن أعلمنا، قال: أفرأيتم إن أسلم؟ قالوا: حاشا الله، ما كان ليسلم، قال: أفرأيتم إن أسلم؟ قالوا: حاشا لله ما كان ليسلم، قال: أفرأيتم إن أسلم؟ قالوا: حاشا لله ما كان ليسلم، قال: يا ابن سلام .. اخرج عليهم، فخرج، فقال: يا معشر اليهود.. اتقوا الله، فو الله الذي لا إله إلا هو، إنكم لتعلمون أنه رسول الله، وأنه جاء بحق، فقالوا: كذبت، فأخرجهم رسول الله صلى الله عليه وسلم(1).
قيل: وكان اسمه الحصين، فسماه النبي صلى الله عليه وسلم عبدالله، وشهد له بالجنة. ونجد البخاري رضي الله عنه ـ عند الكلام عن مناقب الأنصار ـ يفرد لعبد الله بن سلام بابا مستقلا في مناقبه، فروى فيما روى من ذلك بإسناده إلى سعد بن أبي وقاص أنه قال: ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأحد يمشي على الأرض إنه من أهل الجنة إلا لعبد الله ابن سلام، وقال: فيه نزلت هذه الآية: ((وشهد من بني إسرائيل)).. الآية(2).
ومما يذكر عنه رحمة الله: أنه وقف خطيباً في المتألبين على عثمان رضي الله عنه يدافع عنه، ويخذّل الثائرين، فقد روى عبد الملك بن عمير عن ابن أخي عبد الله بن سلام، قال له عثمان: ((لما أريد قتل عثمان رضي الله عنه، جاء عبد الله ابن سلام، قال: ما جاء بك ؟ قال: جئت في نصرك، قال: اخرج إلى الناس فقال: يا أيها الناس .. إنه كان اسمي في الجاهلية: فلاناً، فسماني رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله، ونزلت في آيات من كتاب الله عز وجل، ونزل في : } شهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم {.. ونزل في : } قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب {(1).. إن لله سيفا مغمودا. وإن الملائكة قد جاورتكم في بلدكم هذا الذي نزل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: فالله الله في هذا الرجل أن تقتلوه، فوالله لئن قتلتموه لتطردن جيرانكم من الملائكة وليسلن سيف الله المغمود فيكم فلا يغمد إلى يوم القيامة. قالوا: اقتلوا اليهودي .. وقتلوا عثمان)) ..
روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه ابناه: يوسف ومحمد، وعوف بن مالك، وأبو هريرة، وأبو بردة بن أبي موسى، وعطاء بن يسار، وغيرهم. وشهد مع عمر رضي الله عنه فتح بيت المقدس والجابية. ومات بالمدينة سنة 43هـ ( ثلاث وأربعين من الهجرة )، وقيل غير ذلك. وقد عده بعضهم في البدريين، أما ابن سعد فذكره في الطبقة الثالثة ممن شهد الخندق وما بعدها.
* * *
· مبلغه من العلم والعدالة:
أما مبلغه من العلم، فيكفى ما جاء في حديث البخاري السابق من إخباره عن نفسه: أنه أعلم اليهود وابن أعملهم، وإقرار اليهود بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك. والحق أنه اشتهر بين الصحابة بالعلم، حتى لقد روى أنه لما حضر معاذ بن جبل الموت قيل له: يا أبا عبد الرحمن أوصنا، فقال: أجلسوني .. قال: إن العلم والإيمان عند أربعة رهط : عند عويمر أبي الدرداء، وعند سلمان الفارسي، وعند عبدالله بن مسعود، وعند عبدالله بن سلام الذي كان يهوديا فأسلم، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنه عاشر عشرة في الجنة. اهـ
وليس عجيبا أن يكون عبدالله بن سلام في هذه المكانة العالية من العلم بعد أن اجتمع لديه علم التوراة وعلم القرآن، وبعد أن امتزجت فيه الثقافتان اليهودية والإسلامية، ولقد نقل عنه المسلمون كثيرا مما يدل على علمه بالتوراة وما حولها، ونجد ابن جرير الطبري ينسب إليه في تاريخه كثيراً من المسائل الإسرائيلية، ويرويها كثير من المفسرين في كتبهم.
ونحن أمام ما يروى عنه من ذلك لا نزيف كل ما قيل، ولا نقبل كل ما قيل، بل علينا أن نعرض كل ما يروى عنه على مقياس الصحة المعتبر في باب الرواية، فما صح قبلناه، وما لم يصح رفضناه.
هذا، وإنا لا نستطيع أن نتهم الرجل في علمه، ولا في ثقته وعدالته، بعد ما عملت أنه من خيرا الصحابة وأعلمهم، وبعد ما جاء فيه من آيات القرآن، وبعد أن اعتمده البخاري وغيره من أهل الحديث، كما أننا لم نجد من أصحاب الكتب التي بين أيدينا من طعن عليه في علمه، أو نسب إليه من التهم مثل ما نسب إلى كعب الأحبار، ووهب بن منبه(1).
* * *
2- كعب الأحبار
· ترجمته :
هو أبو إسحاق، كعب بن ماتع الحميري، المعروف بكعب الأحبار، من آل ذي رعين، وقيل من ذي الكلاعِ، وأصله من يهود اليمن، ويقال: إنه أدرك الجاهلية وأسلم في خلافة ِأبي بكر، وقيل: في خلافة عمر، وقيل: إنه أسلم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وتأخرت هجرته، وقال ابن حجر في الفتح: إن إسلامه في خلافة عمر أشهر، وبعد إسلامه انتقل إلى المدينة، وغزا الروم في خلافة عمر، ثم تحول في خلافة عثمان إلى الشام فسكنها إلى أن مات بحمص سنة 32هـ ( اثنتين وثلاثين من الهجرة ) على أرجح الأقوال في ذلك. وذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من تابعي أهل الشام وقال: كان على دين يهود فأسلم وقدم المدينة، ثم خرج إلى الشام فسكن حمص حتى توفي بها سنة اثنتين وثلاثين في خلافة عثمان، وقد بلغ مائة وأربعين سنة. وقال أبو مسهر: والذي حدثني به غير واحد: أنه كان مسكنه اليمن، فقدم على أبى بكر، ثم أتى الشام فمات به. روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرسلا، وعن عمر، وصهيب، وعائشة. وروى عنه معاوية، وأبو هريرة، وابن عباس، وعطاء بن أبي رباح وغيرهم.
* * *
· مبلغه من العلم :
كان كعب بن ماتع عظيم من العلم، ولهذا كان يقال له كعب الحبر وكعب الأحبار، ولقد نقل عنه في التفسير وغيره ما يدل على علمه الواسع بالثقافة اليهودية والثقافة الإسلامية، ولم يؤثر عنه أنه ألف كما ألف وهب بن منبه، بل كانت تعاليمه كلها ـ على ما يظهر لنا وما وصل إلينا ـ شفوية تناقلها عنه أصحابه ومن أخذوا عنه. وقد جاء في الطبقات الكبرى حكاية عن رجل دخل المسجد فإذا عامر بن عبدالله بن قيس جالس إلى كتب وبينها سفر من أسفار التوراة وكعب يقرأ(1)، وهذا يدلنا على أن كعبا كان لا يزال بعد إسلامه يرجع إلى التوراة والتعاليم الإسرائيلية. وقال ابن سعد: قالوا: ذكر أبو الدرداء كعبا فقال: إن عند ابن الحميري لعلما كثيرا. وروى معاوية بن صالح عن عبدالرحمن بن جبير أنه قال: قال معاوية: ألا إن أبا الدرداء أحد الحكماء، ألا إن عمر بن العاص أحد الحكماء، ألا إن كعب الأحبار أحد العلماء، إن كان عنده علم كالثمار وإن كنا لمفرطين. وفي تاريخ محمد بن عثمان بن أبي شيبة، من طريق ابن أبي ذئب، أن عبدالله بن الزبير قال: ما أصبت في سلطاني شيئاً إلا قد أخبرني به كعب قبل أن يقع(2).
* * *
· ثقته وعدالته :
أما ثقته وعدالته فهذا أمر نقول به، ولا نستطيع أن نطعن عليه كما طعن بعض الناس، فابن عباس على جلالة قدره، وأبو هريرة على مبلغ علمه، وغيرهما من الصحابة كانوا يأخذون عنه في مواضع من صحيحه في أواخر كتاب الإيمان، كما نرى أبا داوود والترمذي والنسائي يخرجون له، وهذا دليل على أن كعبا كان ثقة عند هؤلاء جميعاً، وتلك شهادة كافية لرد كل تهمة تلصق بهذا الحبر الجليل.
* * *
3- وهب بن منبه
· ترجمته :
هو أبو عبدالله، وهب بن منبه بن سيج بن ذي كناز، اليماني الصنعاني، صاحب القصص، من خيرا علماء التابعين. قال عبدالله بن أحمد بن حنبل عن أبيه: كان من أبناء فارس، وأصل والده ((منبه)) من خراسان من أهل هراة، أخرجه كسرى منها إلى اليمن فأسلم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وكان وهب بن منبه يختلف إلى هراة ويتفقد أمرها، وقيل: إنه تولى قضاء صنعاء. قال إسحاق بن إبراهيم بن عبدالرحمن الهروى: ولد سنة 34هـ (أربع وثلاثين) في خلافة عثمان، وقال ابن سعد وجماعة: مات سنة 110هـ (عشر ومائة)، وقيل غير ذلك.
روى عن أبي هريرة، وأبي سعيد الخدري، وابن عباس، وابن عمر، وابن عمرو بن العاص، وجابر، وأنس، وغيرهم، وروى عنه ابناه: عبدالله وعبد الرحمن، وعمر بن دينار، وغيرهم. وأخرج له البخاري، ومسلم، والنسائي، والترمذي، وأبو داوود.
* * *
· مبلغه من العلم والعدالة :
كان وهب بن منبه واسع العلم، كثير الاطلاع على الكتب القديمة، محيطا بأخبار كثيرة وقصص يتعلق بأخبار الأول ومبدأ العالم، ومما يؤثر عنه أنه ألف كتابا في المغازي(1)، ويحدثنا ابن خلكان: أنه رأى لوهب ابن منبه تصنيفا ترجمه بذكر الملوك المتوجة من حمير، وأخبارهم، وقصصهم، وقبورهم وأشعارهم، في مجلد واحد، قال: وهو من الكتب المفيدة(2).
وقال أحمد بن حنبل عن عبد الرزاق عن أبيه: حج عامة الفقهاء سنة مائة فحج وهب، فلما صلوا العشاء أتاه نفر فيهم عطاء والحسن، وهم يريدون أن يتذاكروا القدر، قال: فأمعن في باب الحمد، فما زال فيه حتى طلع الفجر، فافترقوا ولم يسألوه عن شئ، قال أحمد: وكان يتهم بشئ من القدر ثم رجع وقال حماد بن سلمة عن أبي سنان: سمعت وهب بن منبه يقول: كنت أقول بالقدر حتى قرأت بضعة وسبعين كتابا من كتب الأنبياء في كلها ((من جعل إلى نفسه شيئاً من المشيئة فقد كفر)) فتركت قولي. وقال الجوزجاني: كان وهب كتب كتابا في القدر ثم حدث أنه ندم عليه.
فأنت ترى من بين هذه الأخبار أن وهباً كان على ناحية عظيمة من المعرفة بالكتب الإلهية القديمة، كما ترى أنه لم يثبت على رأيه وعقيدته في القدر، بل تركها بعد ما تبين له الحق، وندم على ما كان منه بعد أن ظهر له الصواب، وبعد رجوعه عن رأيه لا يصح أن نطعن عليه من هذه الناحية، ولقد كان وهب يرى من نفسه أنه قد جمع علم ابن سلام وعلم كعب، ويحدث هو بذلك عن نفسه فيقول: يقولون: عبدالله بن سلام أعلم أهل زمانه، وكعب أعلم أهل زمانه، أفرأيت من جمع علمهما؟ ـ يريد نفسه ـ .
* * *
· مطاعن بعض الناس عليه :
ومع تلك المنزلة العالية التي كان عليها وهب، طعن عليه بعض الناس كما طعن على كعب، ورموه بالكذب والتدليس وإفساد عقول بعض المسلمين وعقائدهم، وقد سمعت مقالة السيد محمد رشيد رضا فيه وفي كعب، وسمعت الرد عليه، كما سمعت مقالة الأستاذ أحمد أمين وما تعقبناه به.
4- عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج
· ترجمته :
هو أبو خالد، أو أبو الوليد، عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج. الأموي مولاهم. أصله رومي نصراني. كان من علماء مكة ومحدثيهم، وهو من أول من صنف الكتب بالحجاز، وهو قطب الإسرائيليات في عهد التابعين، ولو أنا رجعنا إلى تفسير ابن جرير الطبري، وتتبعنا الآيات التي وردت في النصارى، لوجدنا كثيراً مما يرويه ابن جرير في تفسير هذه الآيات يدور على عبدالله، الذي يعبر عنه دائماً بـ ((ابن جريج)).
روى عن أبيه، وعطاء بن أبي رباح، وزيد بن أسلم، والزهري، وغيرهم. وروى عنه ابناه: عبد العزيز ومحمد، الأوزاعي، والليث، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وحماد بن زيد، وغيرهم. قال ابن سعد: ولد سنة 80 هـ (ثمانين)، وأما وفاته فمختلف فيها، فمنهم من قال: سنة 150هـ ( خمسين ومائة )، ومنهم من قال: سنة 159هـ ( تسع وخمسين ومائة ). وقيل غير ذلك.
* * *
· مبلغه من العلم والعدالة:
ابن جريج ـ كما قيل ـ هو أول من صنف الكتب بالحجاز، ويعدونه من طبقة مالك بن أنس وغيره ممن جمعوا الحديث ودونوه. قال عبدالله ابن أحمد بن حنبل: قلت لأبي: من أول من صنف الكتب؟ قال: ابن جريج وابن أبي عروبة. وقال ابن عيينة: سمعت أخي عبد الرزاق بن همام عن ابن جريج يقول: مادون العلم تدوين أحد. وقد عرف عن ابن جريج انه كان رحالة في طلب العلم، فقد ولد بمكة ثم طوف في كثير من البلاد، فرحل إلى البصرة واليمن وبغداد. ويقول ابن خلدون في العبر إنه لم يطلب العلم إلا في الكهولة، ولو سمع في عنفوان شبابه لحلم عن غير واحد من الصحابة، فإنه قال: كنت أتتبع الأشعار العربية والأنساب فقيل لي: لو لزمت عطاء؟ فلزمته ثمانية عشر عاماً ا هـ(1).
وقد رويت عن ابن جريج أجزاء كثيرة في التفسير عن ابن عباس، منها الصحيح، ومنها ما ليس بصحيح، وذلك لأنه لم يقصد الصحة فيما جمع، بل روى ما ذكر في كل آية من الصحيح والسقيم(2).
أما منزلته من ناحية العدالة، فإنه لم يظفر بإجماع العلماء على توثيقه وتثبته فيما يرويه، وإنما اختلفت أنظارهم فيه، فمنهم من وثقه، ومنهم من ضعفه. قال فيه العجلي: مكي ثقة. وقال سليمان بن النضر بن مخلد بن يزيد: ما رأيت أصدق لهجة من ابن جريج وعن يحي بن سعيد قال: كنا نسمى كتب ابن جريج كتب الأمانة، وإن لم يحدثك بها ابن جريج من كتابه لم ينتفع به. وقال ابن معين: ثقة في كل ما روى عنه من الكتاب. وعن يحيى ابن سعيد قال: كان ابن جريج صدوقا فإذا قال حدثني فهو سماع. وإذا قال أخبرني فهو قراءة، وإذا قال: قال فهو شبه الريح. وقال الدار قطني: تجنب تدليس ابن جريج فإنه قبيح التدليس، لا يدلس إلا فيما سمعه من مجروح. وذكره ابن حبان في الثقات وقال: كان من فقهاء أهل الحجاز وقرائهم ومتقنيهم وكان يدلس. وقال عنه الذهبي في ميزان الاعتدال: أحد الأعلام الثقات يدلس، وهو في نفسه مجمع على ثقته مع كونه قد تزوج نحواً من تسعين امرأة نكاح متعة، وكان يرى الرخصة في ذلك وكان فقيه أهل مكة في زمانه. قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: قال أبي: بعض هذه الأحاديث التي كان يرسلها ابن جريج أحاديث موضوعة، كان ابن جريج لا يبالي من أين يأخذها، يعني قوله : أخبرت وحدثت عن فلان(3). وذكر الخزرجي في خلاصته(4) أنه مجمع عليه من أصحاب الكتب الستة. ولكن نرى الأستاذ أحمد أمين ينقل في ضحى الإسلام(5): أن البخاري لم يوثقه وقال: إنه لا يتابع في حديثه، ولسنا ندري من أين استقى صاحب ضحى الإسلام هذا الكلام الذي عزاه إلى البخاري رضي الله عنه.
هذه هي نظرة العلماء إليه وحكمهم عليه، ونرى أن كثيراً منهم يحكم عليه بالتدليس وعدم الثقة ببعض مروياته، ومع هذا فقد قال فيه الإمام أحمد: إنه من أوعية العلم، ونحن معه في ذلك، بدليل ما تقدم عنه من قوله: ((بعض هذه الأحاديث التي كان يرسلها ابن جريج أحاديث موضوعة، وكان ابن جريج لا يبالى من أين أخذها)).
وكان الإمام مالك رضي الله عنه يرى فيه أنه لا يبالى من أين يأخذ، فقد روى عنه أنه قال: كان ابن جريج حاطب ليل.
وأخيراً فعلى المفسر أن يكون على حذر فيما روى عن ابن جريج في التفسير حتى لا يروى ضعيفاً، أو يعتمد على سقيم(1).
وبعد ... فهؤلاء هم أقطاب الإسرائيليات، وعليهم يدور كثير مما هو مبثوث في كتب التفسير، وسواء أكان كل ما ينسب إليهم صح عنهم أم وضع عليهم، فقد علمت قيمة كل واحد منهم، وعلمت قيمة ما يروى من هذه الإسرائيليات وما يجوز روايته وما لا يجوز... وهذا هو جهد المقل وغاية ما وصلت إليه في هذا الموضوع الذي التوى، ثم النوى، حتى صار أعقد من ذنب الضب.
* * *


ثالثاً: حذف الإسناد
حذف الإسناد هو السبب الثالث والأخير الذي يرجع إليه ضعف التفسير المأثور، وسبق أن أشرنا إلى مبدأ اختصار الأسانيد، ونعود إليه فنقول:
إن الصحابة ـ رضوان الله عليهم أجمعين ـ كانوا يتحرون الصحة فيما يتحملون، وكان الواحد منهم لا يروى حديثاً إلا وهو متثبت مما يقول، ولكن لم يعرف عن الصحابة أنهم كانوا يسألون عن الإسناد، لما عرفوا به جميعا، من العدالة والأمانة. وإذا كان الأمر قد وصل ببعضهم إلى أنه كان لا يقبل الحديث إلا بعد أن تثبت عنده صحته بالشهادة أو اليمين كما دلت على ذلك الآثار الكثيرة، فإن الغرض من ذلك هو زيادة التأكد والتثبت، لا عدم الثقة بمن يروون عنه منهم، فقد روى أن عمر قال لأبي بن كعب ـ وقد روى له حديثا ـ لتأتينى على ما تقول ببينة، فخرج فإذا ناس من الأنصار فذكر لهم، قالوا: قد سمعنا هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر : أما إني لم أتهمك، ولكن أحببت أن أتثبت)) ا هـ(1).
ثم جاء عصر التابعين، وفيه ظهر الوضع وفشا الكذب، فكانوا لا يقبلون حديثاً إلا إذا جاء بسنده، وثبتت لهم عدالة رواته، أما إن حذف السند، أو ذكر وكان في رواته من لا يوقف بحديثه، فإنهم كانوا لا يقبلون الحديث الذي هذا شأنه، فقد روى الإمام مسلم في مقدمة صحيحة عن ابن سيرين أنه قال: ((لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا سموا لنا رجالكم))(2).
ظل الأمر في عهد التابعين على هذا، فكان ما يرونه من التفسير المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن الصحابة، لا يروونه إلا بإسناده، ثم جاء بعد عصر التابعين من جمع التفسير، ودون ما تجمع لديه من ذلك، فألفت تفاسير تجمع أقوال النبي صلى الله عليه وسلم في التفسير، وأقوال الصحابة والتابعين، مع ذك الأسانيد، كتفسير سفيان بن عيينة، ووكيع بن الجراح، وغيرهما ممن تقدم ذكرهم.
ثم جاء بعد هؤلاء أقوام ألفوا في التفسير، فاختصروا الأسانيد، ونقلوا الأقوال غير معزوة لقائليها، ولم ينحروا الصحة فيما يروون، فدخل من هنا الدخيل، والتبس الصحيح بالعليل.
ثم ثار كل من يسنح له قول يورده، ومن يخطر بباله شئ يعتمده، ثم ينقل ذلك عنه من يجئ بعده، ظانا أن له أصلا، غير ملتفت إلى تحرير ما ورد عن السلف.
وفي الحق أن هذا السبب يكاد يكون أخطر الأسباب جميعاً، لأن حذف الأسانيد جعل من ينظر في هذه الكتب يظن صحة كل ما جاء فيها، وجعل كثيراً من المفسرين ينقلون عنها ما فيها من الإسرائيليات والقصص المخترع على أنه صحيح كله، مع أن فيها ما يخالف النقل ولا يتفق مع العقل.
وإذا كان للوضع خطره، وللإسرائيليات خطرها، فإن هذا الخطر كان من الممكن تلافيه لو ذكرت لنا هذه الأقوال بأسانيدها، ولكن حذفها ـ وللأسف ـ عمى علينا كل شئ، وليت هؤلاء الذين حذفوا الأسانيد وعنوا بجمع شتات الأقوال فعلوا كما فعل ابن جرير من رواية كل قول بإسناده، فهو وإن كان لم يتحر الصحة فيما يرويه، إلا أن عذره في ذلك، أنه ذكر لنا السند مع كل رواية يرويها، وكانوا يرون أنهم متى ذكروا السند فقد خرجوا عن العهدة، فإن أحوال الرجال كانت معروفة في العهد الأول، وبذلك تعرف قيمة ما يروونه من ضعف وصحة.
وبعد ... فهذه هي الأسباب الثلاثة التي يرجع إليها ضعف التفسير المأثور، وكل واحد منها له خطره وأثره في التفسير، وقد أدرك المسلمون أخيراً هذا الخطر، وقدروا ما كان لهذه الأسباب من أثر، فتداعى علماؤهم وأشياخهم إلى تجريد كتب التفسير من هذه الإسرائيليات، وتطهيرها من كل ما دخل عليها، ولكن لم نجد منهم من نشط لهذا العمل، وإنا لنرجو آملين، أن يهيئ الله للمسلمين من بين علمائنا وأشياخنا من ينقد لهم هذه المجموعة المركومة من التفسير النقلي، على هدى قواعد القوم في نقد الرواية متناً وسنداً، ليستبعد منها هذا الكثير الذي لا يستحق البقاء، وليستريح الناظرون في الكتاب الكريم من الوقوف أمام شئ لا أساس له إذا ما حاولوا تفهم آية منه.
ولست أظن أن هذا العلم الشاق المضني يستطيع أن يقوم به فرد وحده، بل لا بد له من جماعة كبيرة، تتفرغ له، ويتسع أمامهم الزمن، وتتوفر لديها جميع المصادر والمراجع التي تتعلق بالموضوع وتتصل به.
ذلك ما نرجوه ونأمله، ونسأل الله تعالى أن يحقق الرجاء ويصدق الأمل ...
* * *


أشهر ما دون من كتب التفسير المأثور
وخصائص هذه الكتب

لا نريد أن نستقصي هنا جميع الكتب المدونة في التفسير المأثور، لأن هذا أمر لا يتيسر لنا، نظراً لعدم وقوع كثير منها في أيدينا. ولو تيسر لنا لوفقت عند عزمي هذا: وهو أني لا أتعرض لكل كتاب ألف في هذا النوع من التفسير، بل أتكلم عما اشتهر وكثر تداوله فحسب، لأني لو ذهب أتلكم عن جميع ما دون من هذه الكتب، كتاباً، لطال على الأمر، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى)).
لهذا رأيت أن أتكلم عن ثمانية كتب منها، هي أهمها وأشهرها وأكثرها تداولا، وسبيلي في هذا: أن أعرض أولا لنبذة مختصرة عن المؤلف، ثم أبين خصائص كل كتاب وطريقة مؤلفه فيه، وهذا الكتب التي وقع عليها اختياري هي ما يأتي :
1- جامع البيان في تفسير القرآن : لابن جرير الطبري.
2- بحر العلوم : لأبي الليث السمرقندي
3- الكشف والبيان عن تفسير القرآن : لأبي إسحاق الثعلبي
4- معالم التنزيل : لأبي محمد الحسين البغوي
5- المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز : لابن عطية الأندلسي
6- تفسير القرآن العظيم : لأبي الفداء الحافظ ابن كثير
7- الجواهر الحسان في تفسير القرآن : لعبد الرحمن الثعالبي
8- الدر المنثور في التفسير المأثور : لجلال الدين السيوطي
وسنتكلم عن كل واحد منها بحسب هذا الترتيب فنقول وبالله التوفيق:
1- جامع البيان في تفسير القرآن ـ للطبري
· التعريف بمؤلف هذا التفسير:
مؤلف هذا التفسير، هو أبو جعفر، محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الطبري، الإمام الجليل، المجتهد المطلق، صالح التصانيف المشهورة، وهو من أهل آمل طبرستان، ولد بها سنة 224هـ (أربع وعشرين ومائتين من الهجرة)، ورحل من بلده في طلب العلم وهو ابن اثنتي عشرة سنة، سنة ست وثلاثين ومائتين، وطوف في الأقاليم، فسمع بمصر والشام والعراق، ثم ألقى عصاه واستقر ببغداد، وبقى بها إلى أن مات سنة عشر وثلاثمائة.
* * *
· مبلغه من العلم والعدالة :
كان ابن جرير أحد الأئمة الأعلام، يحكم بقوله، ويرجع إلى رأيه لمعرفته وفضله، وكان قد جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره، فكان حافظاً لكتاب الله، بصيراً بالقرآن، عارفا بالمعاني، فقيها في أحكام القرآن، عالما بالسنن وطرقها، وصحيحها وسقيمها، وناسخها ومنسوخا، عارفاً بأقوال الصحابة والتابعين ومن بعدهم من المخالفين في الأحكام، ومسائل الحلال والحرام، عارفاً بأيام الناس وأخبارهم، وهذا هو ابن جرير في نظر الخطيب البغدادي وهي شهادة عالم خبير بأحوال الرجال. وذكر أن أبا العباس بن سريج كان يقول: محمد بن جرير فقيه عالم. وهذه الشهادة جد صادقة، فإن الرجل برع في علوم كثيرة، منها: علم القراءات، والتفسير، والحديث، والفقه. والتاريخ، وقد صنف في علوم كثيرة وأبدع التأليف وأجاد فيما صنف, فمن مصنفاته: كتاب التفسير الذي نحن بصدده. وكتاب التاريخ المعروف بتاريخ الأمم والملوك، وهو من أمهات المراجع، وكتاب القراءات، والعدد والتنزيل، وكتاب اختلاف العلماء، وتاريخ الرجال من الصحابة والتابعين، وكتاب أحكام شرائع الإسلام، ألفه على ما أداه إليه اجتهاده، وكتاب التبصر في أصول الدين ... وغير هذا كثير من تصانيفه التي تدل على سعة علمه وغزارة فضله.
ولكن هذه الكتب قد اختفى معظمها من زمن بعيد، ولم يحظ منها بالبقاء إلى يومنا هذا وبالشهرة الواسعة، سوى كتاب التفسير، وكتاب التاريخ.
وقد اعتبر الطبري أبا للتفسير. كما اعتبر أبا للتاريخ الإسلامي، وذلك بالنظر لما في هذين الكتابين من الناحية العلمية العالية. ويقول ابن خلكان: إنه كان من الأئمة المجتهدين، لم يقلد أحداً، ونقل: أن الشيخ أبا إسحاق الشيرازي ذكره في طبقات الفقهاء في جملة المجتهدين. قالوا: وله مذهب معروف ، وأصحاب ينتحلون مذهب يقال لهم الجريرية، ولكن هذا المذهب الذي أسسه ـ على ما يظهر ـ بعد بحث طويل، ووجد له أتباعاً من الناس، لم يستطع البقاء إلى يومنا هذا كثيرة كغيره من مذاهب المسلمين، ويظهر أن ابن جرير كان قبل أن يبلغ هذه الدرجة من الاجتهاد متمذهباً بمذهب الشافعي، يدلنا على ذلك ما جاء في الطبقات الكبرى لابن السبكي، من أن ابن جرير قال: أظهرت فقه الشافعي، وأفتيت به ببغداد عشر سنين، وتلقاه منى ابن بشار الأحول، أستاذ أبي العباس بن سريح. وقال السيوطي في طبقات المفسرين: وكان أولا شافعيا، ثم انفرد بمذهب مستقل، وأقاويل واختيارات، وله أتباع ومقلدون، وله في الأصول والفروع كتب كثيرة ا هـ وذكره صاحب لسان الميزان فقال (( ثقة، صادق، فيه تشيع يسير، وموالاة لا تضر ...)) ثم قال: أفذع أحمد بن على السليماني الحافظ فقال: كان يضع للروافض، وهذا رجم بالظن الكاذب، بل ابن جرير من كبار أئمة الإسلام المعتمدين، وما ندعى عصمته من الخطأ، ولا يحل لنا ان نؤذيه بالباطل والهوى، فإن كلام العلماء بعضهم في بعض ينبغي أن يتأني فيه، ولا سيما في مثل إمام كبير، ولعل السليماني أراد الآتي ـ يريد محمد بن جرير ابن رستم الطبري الرافضي ـ قال: ولو حلفت أن السليماني ما أراد إلا الآتي لبررت، والسليماني حافظ متقن، كان يدري ما يخرج من رأسه، فلا أعتقد أنه يطعن في مثل هذا الإمام بهذا الباطل))ا هـ
هذا هو ابن جرير، وهذه هي نظرات العلماء إليه، وذلك هو حكمهم عليه، ومن كل ذلك تتبين لنا قيمته ومكانته.
· التعريف بهذا التفسير وطريقة مؤلفه فيه :
يعتبر تفسير ابن جرير من أقوم التفاسير وأشهرها، كما يعتبر المرجع الأول عند المفسرين الذين عنوا بالتفسير النقلي، وإن كان في الوقت نفسه يعتبر مرجعا غير قليل الأهمية من مراجع التفسير العقلي، نظراً لما فيه من الاستنباط، وتوجيه الأقوال، وترجيح بعضها على بعض، ترجيحا يعتمد على النظر العقلي، والبحث الحر الدقيق.
ويقع تفسير ابن جرير في ثلاثين جزءا من الحجم الكبير، وقد كان هذا الكتاب من عهد قريب يكاد يعتبر مفقوداً لا وجود له، ثم قدر الله له الظهور والتداول، فكانت مفاجأة سارة للأوساط العلمية في الشرق والغرب أن وجدت في حيازة أمير ((حائل)) الأمير حمود ابن الأمير عبد الرشيد من أمراء نجد نسخة مخطوطة كاملة من هذا الكتاب، طبع عليها الكتاب من زمن قريب، فأصبحت في يدنا دائرة معارف غنية في التفسير المأثور(1).
ولو أننا تتبعنا ما قاله العلماء في تفسير ابن جرير، لوجدنا أن الباحثين في الشرق والغرب قد أجمعوا الحكم على عظيم قيمته، واتفقوا على أنه مرجع لا غنى عنه لطالب التفسير، فقد قال السيوطي رضي الله عنه (( وكتابه ـ يعني تفسير محمد بن جرير ـ أجل التافسير وأعظمها، فإنه يتعرض لتوجيه الأقوال، وترجيح بعضها على بعض، والإعراب، والاستنباط، فهو يفوق بذلك على تفاسير الأقدمين))(1). وقال النووي: ((أجمعت الأمة على أنه لم يصنف مثل تفسير الطبري)) وقال أبو حامد الإسفراييني: ((لو سافر رجل إلى الصين حتى يحصل على كتاب تفسير محمد بن جرير لم يكن ذلك كثيراً))(2) وقال الشيخ الإسلام ابن تيمية: ((وأما التفاسير التي في أيدي الناس، فأصحها تفسير ابن جرير الطبري، فإنه يذكر مقالات السلف بالأسانيد الثابتة، وليس فيه بدعة، ولا ينقل عن المتهمين، كمقاتل بن بكير والكلبي ))(3).
ويذكر صاحب لسان الميزان: أن ابن خزيمة استعار تفسير ابن جرير من ابن خالويه فرده بعد سنين ثم قال ((نظرت فيه من أوله إلى آخره فما أعلم على أديم الأرض أعلم من ابن جرير )) فابن خزيمة ما شهد هذه الشهادة إلا بعد أن اطلع على ما في هذا التفسير من علم واسع غزير.
هذا وقد كتب ((نولدكه)) في سنة1860م بعد اطلاعه على بعض فقرات من هذا الكتاب ((لو كان بيدنا هذا الكتاب لاستغنينا به عن كل التفاسير المتأخرة، ومع الأسف فقد كان يظهر أنه مفقدو تماما، وكان مثل تاريخه الكبير مرجعاً لا يغيض معينه أخذ عنه المتأخرون معارفهم))(4).
ويظهر مما بأيدينا من المراجع، أن هذا التفسير كان أوسع مما هو عليه اليوم، ثم اختصره مؤلفه إلى هذا القدر الذي هو عليه الآن، كما أن كتابه في التاريخ ظفر بمثل هذا البسط والاختصار، فابن السبكي يذكر في طبقاته الكبرى(5)(( أن أبا جعفر قال لأصحابه: أتنشطون لتفسير القرآن؟ قالوا: كم يكون قدره؟ فقال: ثلاثون ألف ورقة، فقالوا: هل تنشطون لتاريخ العالم من آدم إلى وقتنا هذا؟ قالوا: كم قدره؟ فذكر نحواً مما ذكره في التفسير، فأجابوه بمثل ذلك، فقال: إنا لله، ماتت الهمم ... فاختصره في نحو ما اختصر التفسير)) ا هـ.
هذا ونستطيع أن نقول إن تفسير ابن جرير هو التفسير الذي له الأولية بين كتب التفسير، أولية زمنية، وأولية من ناحية الفن والصناعة.
أما أوليته الزمنية، فلأنه أقدم كتاب في التفسير وصل إلينا، وما سبقه من المحاولات التفسيرية ذهبت بمرور الزمن، ولم يصل إلينا شئ منها، اللهم إلا ما وصل إلينا منها في ثنايا ذلك الكتاب الخالد الذي نحن بصدده.
وأما أوليته من ناحية الفن والصناعة، فذلك أمر يرجع إلى ما يمتاز به الكتاب من الطريقة البديعة التي سلكها فيه مؤلفه، حتى أخرجه للناس كتابا له قيمته ومكانته.
ونريد أن نعرض هنا لطريقة ابن جرير في تفسيره، بعد أن أخذنا فكرة عامة عن الكتاب، حتى يتبين للقارئ أن الكتاب واحد في بابه، سبق به مؤلفه غيره من المفسرين، فكان عمدة المتأخرين، ومرجعا مهماً من مراجع المفسرين، على اختلاف مذاهبهم، وتعدد طرائقهم، فنقول:
· طريقة ابن جرير في تفسره :
تتجلى طريقة ابن جرير في تفسيره، بكل وضوح إذا نحن قرأنا فيه وقطعنا في القراءة شوطا بعيدا، فأول ما نشاهده، أنه إذا أراد أن يفسر الآية من القرآن يقول ((القول في تأويل قوله تعالى كذا وكذا)) ثم يفسر الآية ويستشهد على ما قاله بما يرويه بسنده إلى الصحابة أو التابعين من التفسير المأثور عنهم في هذه الآية، وإذا كان في الآية قولان أو أكثر، فإنه يعرض لكل ما قيل فيها، ويستشهد على كل قول بما يرويه في ذلك عن الصحابة أو التابعين.
ثم هو لا يقتصر على مجرد الرواية، بل نجده يتعرض لتوجيه الأقوال، ويرجح بعضها على بعض، كما نجده يتعرض لناحية الإعراب إن دعت الحال إلى ذلك، كما أنه يستنبط الأحكام التي يمكن أن تؤخذ من الآية، مع توجيه الأدلة وترجيح ما يختار.
* * *
· إنكاره على من يفسر بمجرد الرأي :
ثم هو يخاصم بقوة أصحاب الرأي المستقلين في التفكير، ولا يزال يشدد في ضرورة الرجوع إلى العلم الراجع إلى الصحابة أو التابعين، والمنقول عنهم نقلا صحيحا مستفيضا، ويرى أن ذلك وحده هو علامة التفسير الصحيح، فمثلا عند ما تكلم عن قوله تعالى في الآية (49) من سورة يوسف ((ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون)) .. نجده يذكر ما ورد في تفسيرها عن السلف مع توجيهه للأقوال وتعرضه للقراءات بقدر ما يحتاج إليه تفسير الآية، ثم يعرج بعد ذلك على من يفسر القرآن برأيه، وبدون اعتماد منه على شئ إلا على مجرد اللغة، فيفند قوله، ويبطل رأيه، فيقول ما نصه ((... وكان بعض من لا علم له بأقوال السلف من أهل التأويل، ممن يفسر القرآن برأيه على مذهب كلام العرب، يوجه معنى قوله ((وفيه يعصرون)).. إلى وفيه ينجون من الجدب والقحط بالغيث، ويزعم أنه من العصر، والعصر التي بمعنى المنجاة، من قول أبي زبيد الطائي:
صاديا يستغيث غير مغاث ولقد كان عصرة المنجود
أي المقهور ـ ومن قول لبيد:
نبات وأسرى القوم آخر ليلهم وما كان وقافا بغير معصر
وذلك تأويل يكفى من الشهادة على خطئه خلافه قول جميع أهل العلم من الصحابة والتابعين(1).
وكثيراً ما يقف ابن جرير مثل هذا الموقف حيال ما يروى عن مجاهد أو الضحاك أو غيرهما ممن يروون عن ابن عباس.
فمثلا عند قوله تعالى في الآية (65) من سورة البقرة : } ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين { .. يقول ما نصه ((حدثني المثنى، قال : حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: } ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين { قال: (( مسخت قلوبهم ولم يمسخوا قردة، وإنما هو مثل ضربه الله لهم، كمثل الحمار يحمل أسفارا)) ا هـ ثم يعقب ابن جرير بعد ذلك على قول مجاهد فيقول ما نصه: ((وهذا القول الذي قاله مجاهد، قول لظاهر ما دل عليه كتاب الله مخالف)) .. الخ(2).
ومثلا عند تفسيره لقوله تعالى في الآية (229) من سورة البقرة أيضاً } تلك حدود الله فلا تعتدوها، ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون {.. نجده يروى عن الضحاك في معنى هذه الآية: أن من طلق لغير العدة فقد اعتدى وظلم نفسه، ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون. ثم نقول: وهذا الذي ذكر عن الضحاك لا معنى له في هذا الموضع، لأنه لم يجر للطلاق في العدة ذكر فيقال تلك حدود الله، وإنما جرى ذكر العدد الذي يكون للمطلق فيه الرجعة والذي لا يكون له فيه الرجعة، دون ذكر البيان عن الطلاق للعدة )) ا هـ(3).
... وهكذا نجد ابن جرير في غير موضع من تفسيره، ينبري للرد على مثل هذه الآراء التي لا تستند على شئ إلا على مجرد الرأي أو محض اللغة.
* * *


· موقفه من الأسانيد:
ثم إن ابن جرير وإن التزم في تفسيره ذكر الروايات بأسانيدها، إلا أنه في الأعم الأغلب لا يتعقب الأسانيد بتصحيح ولا تضعيف، لأنه كان يرى ـ كما هو مقرر في أصول الحديث ـ أن من أسند لك فقد حملك البحث عن رجال السند ومعرفة مبلغهم من العدالة أو الجرح، فهو بعمله هذا قد خرج من العهدة ومع ذلك فابن جرير يقف من السند أحيانا موقف الناقد البصير، فيعدل من يعدل من رجال الإسناد، ويجرح من يجرح منهم، ويرد الرواية التي لا يثق بصحتها، ويصرح برأيه فيها بما يناسبها، فمثلا نجده عند تفسيره لقوله تعالى في الآية (94) من سورة الكهف } ... فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سداً { .. يقول ما نصه: (( روى عن عكرمة في ذلك ـ يعني في ضم سين (( سداً )) وفتحها ـ ما حدثنا به أحمد بن يوسف. قال: حدثنا القاسم، قال: حدثنا حجاج، عن هارون، عن أيوب، عن عكرمة قال: ما كان من صنعة بني آدم فهو السَّد، ثم يعقب على هذا السند فيقول: وأما ما ذكره عن عكرمة في ذلك، فإن الذي نقل عن أيوب ((هارون))، وفي نقله نظر، ولا نعرف ذلك عن أيوب من رواية ثقاة أصحابه))(1).
· تقديره للإجماع :
كذلك نجد ابن جرير في تفسيره يقدر إجماع الأمة، ويعطيه سلطانا كبيراً في اختيار ما يذهب إليه من التفسير، فمثلا عند قوله تعالى في الآية (230) من سورة البقرة : } ... فان طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره { .. يقول ما نصه: (( فإن قال قائل : فأي النكاحين عنى الله بقوله: فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره؟ النكاح الذي هو جماع؟ أم النكاح الذي هو عقد تزويج؟ قيل كلاهما، وذلك أن المرأة إذا نكحت زوجاً نكاح تزويج ثم لم يطأها في ذلك النكاح ناكحها ولم يجامعها حتى يطلقها لم تحل للأول، وكذلك إن وطئها واطئ بغير نكاح لم تحل للأول، لإجماع الأمة جميعاً، فإذا كان ذلك كذلك، فمعلوم أن تأويل قوله: فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره، نكاحا صحيحاً، ثم يجامعها فيه، ثم يطلقها، فإن قال: فإن ذكر الجماع غير موجود في كتاب الله تعالى ذكره، فما الدلالة على أن معناه ما قلت؟ قيل: الدلالة على ذلك إجماع الأمة جميعاً على أن ذلك معناه ))(2).
* * *
· موقفه من القراءات :
كذلك نجد ابن جرير يعنى بذكر القراءات وينزلها على المعاني المختلفة، وكثيراً ما يرد القراءات التي لا تعتمد على الأئمة الذين يعتبرون عنده وعند علماء القراءات حجة، والتي تقوم على أصول مضطربة مما يكون فيه تغيير وتبديل لكتاب الله، ثم يتبع ذلك برأيه في آخر الأمر مع توجيه رأيه بالأسباب فمثلا عند قوله تعالى في الآية (81) من سورة الأنبياء : } ولسليمان الريح عاصفة {.. يذكر أن عامة قراء الأمصار قرأوا (( الريح )) بالنصب على أنها مفعول لسخرنا المحذوف، وأن عبد الرحمن الأعرج قرأ (( الريح )) بالرفع على أنها مبتدأ ثم يقول: والقراءة التي لا أستجيز القراءة بغيرها في ذلك ما عليه قراء الأمصار لإجماع الحجة من القراء عليه.
ولقد يرجع السبب في عناية ابن جرير بالقراءات وتوجيهها إلى أنه كان من علماء القراءات المشهورين، حتى أنهم ليقولون عنه: إنه ألف فيها مؤلفاً خاصاً في ثمانية عشر مجلداً، ذكر فيه جميع القراءات من المشهور والشواذ وعلل ذلك وشرحه، واختار منها قراءة لم يخرج بها عن المشهور(1)، وإن كان هذا الكتاب قد ضاع بمرور الزمن ولم يصل إلى أيدينا، شأن الكثير من مؤلفاته.
* * *
· موقفه من الإسرائيليات :
ثم إننا نجد ابن جرير يأتي في تفسيره بأخبار مأخوذة من القصص الإسرائيلي، يرويها بإسناده إلى كعب الأحبار، ووهب بن منبه، وابن جريج والسدي، وغيرهم، ونراه ينقل عن محمد بن إسحاق كثيراً مما رواه عن مسلمة النصارى. ومن الأسانيد التي تسترعى النظر، هذا الإسناد: حدثني ابن حميد، قال حدثنا سلمة عن ابن إسحاق عن أبي عتاب .. رجل من تغلب كان نصرانيا عمراً من دهره ثم أسلم بعد فقرأ القرآن وفقه في الدين، وكان فيما ذكر، أنه كان نصرانياً أربعين سنة ثم عمر في الإسلام أربعين سنة.
يذكر ابن جرير هذا الإسناد، ويروى لهذا الرجل النصراني الأصل خبرا عن آخر أنبياء بني إسرائيل، عند تفسيره لقوله تعالى في الآية (7) من سورة الإسراء : } أن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم، وان أسأتم فلها، فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا))(1).
كما نراه عند تفسيره لقوله تعالى في الآية (94) من سورة الكهف: } قالوا يا ذا القرنين أن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض { .. الآية .. يسوق هذا الإسناد: حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة قال: حدثنا محمد بن إسحاق قال: حدثني بعض من يسوق أحاديث الأعاجم من أهل الكتاب ممن قد أسلم، مما توارثوا من علم ذي القرنين أن ذا القرنين كان رجلا من أهل مصر، اسمه مرزبا بن مردبة اليوناني من ولد يونن بن يافث ابن نوح .. الخ ))(2).
(( ... وهكذا يكثرا ابن جرير من رواية الإسرائيليات، ولعل هذا راجع إلى ما تأثر به من الروايات التاريخية التي عالجها في بحوثه التاريخية الواسعة)).
وإذا كان ابن جرير يتعقب كثيراً من هذه الروايات بالنقد، فتفسيره لا يزال يحتاج إلى النقد الفاحص الشامل، احتياج كثير من كتب التفسير التي اشتملت على الموضوع والقصص الإسرائيلي، على أن ابن جرير ـ كما قدمنا ـ قد ذكر لنا السند بتمامه في كل رواية يرويها، وبذلك يكون قد خرج من العهدة، وعلينا نحن أن ننظر في السند ونتفقد الروايات.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
صانع المعروف
صانع المعروف


عدد المساهمات : 179
نقاط : 23882
تاريخ التسجيل : 25/06/2011

الكتاب الاسطورة مناهج المفسرين  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الكتاب الاسطورة مناهج المفسرين    الكتاب الاسطورة مناهج المفسرين  I_icon_minitimeالسبت أغسطس 13, 2011 2:16 pm

2- تفسير القرآن العظيم ـ لابن كثير

· التعريف بمؤلف هذا التفسير :
مؤلف هذا التفسير، هو الإمام الجليل الحافظ، عماد الدين، أو الفداء، إسماعيل بن عمرو بن كثير بن ضوء بن كثير بن زرع البصري ثم الدمشقي، الفقيه الشافعي، قدم دمشق وله سبع سنين مع أخيه بعد موت أبيه. سمع من ابن الشحنة، والآمدي، وابن عساكر، وغيرهم، كما لازم المزي وقرأ عليه تهذيب الكمال، وصاهره على ابنته. وأخذ عن ابن تيمية، وفتن بحبه، وامتحن بسببه. وذكر ابن قاضي شهبة في طبقاته: أنه كانت له خصوصية بابن تيمية، ومناضلة عنه، وإتباع له في كثير من آرائه، وكان يفتى برأيه في مسألة الطلاق وامتحن بسبب ذلك وأوذي.
وقال الدوادي في طبقات المفسرين: ((كان قدوة العلماء والحفاظ، وعمدة أهل المعاني والألفاظ، ولي مشيخة أم الصالح بعد موت الذهبي ـ وبعد موت السبكي مشيخة الحديث الأشرفية مدة يسيرة، ثم أخذت منه )) ا هـ (1)
وكان مولده سنة 700هـ (سبعمائة) أو بعدها بقليل وتوفي في شعبان سنة 774هـ (أربع وسبعين وسبعمائة من الهجرة)، ودفن بمقبرة الصوفية عند شيخه ابن تيمية، وكان قد كف بصره في آخر عمره. رحمه الله رحمة واسعة.
* * *
· مكانته العلمية :
كان ابن كثير على مبلغ عظيم من العلم، وقد شهد له العلماء بسعة علمه، وغزارة مادته، خصوصا في التفسير والحديث والتاريخ. قال عنه ابن حجر ((اشتغل بالحديث مطالعة في متونه ورجاله، وجمع التفسير، وشرع في كتاب كبير في الأحكام لم يكمل، وجمع التاريخ الذي سماه البداية والنهاية، وعمل طبقات الشافعية، وشرع في شرح البخاري .. وكان كثير الاستحضار حسن المفاكهة، وصارت تصانيفه في البلاد في حياته، وانتفع بها الناس بعد وفاته، ولم يكن على طريق المحدثين في تحصيل العوالي، وتمييز العالي من النازل، ونحو ذلك من فنونهم، وإنما هو من محدثي الفقهاء، وقد اختصر مع ذلك كتاب ابن الصلاح، وله فيه فوائد)). وقال الذهبي عنه في المعجم المختص ((الإمام المفتي، المحدث البارع، فقيه متفنن، محدث متقن، مفسر نقال، وله تصانيف مفيدة))، وذكره صاحب شذرات الذهب فقال: ((كان كثير الاستحضار، قليل النسيان، جيد الفهم))، وقال ابن حبيب فيه: ((زعيم أرباب التأويل، سمع وجمع وصنف، وأطرب الأسماع بالفتوى وشنف، وحدث وأفاد، وطارت أوراق فتاويه في البلاد، واشتهر بالضبط والتحرير، وانتهت إليه رياسة العلم في التاريخ والحديث والتفسير)) وقال فيه أحد تلاميذه ابن حجي: ((أحفظ من أدركناه لمتون الحديث، وأعرفهم بجرها ورجالها، وصحيحها وسقيمها، وكان أقرانه وشيوخه يعترفون له بذلك، وما أعرف أني اجتمعت به على كثرة ترددي عليه إلا واستفدت منه)).
وعلى الجملة، فعلم ابن كثير يتجلى بوضوح لمن يقرأ تفسيره أو تاريخه، وهما من خير ما ألف، وأجود ما أخرج للناس.
* * *
· التعريف بهذا التفسير وطريقة مؤلفه فيه :
تفسير ابن كثير من أشهر ما دون في التفسير المأثور، ويعتبر في هذه الناحية الكتاب الثاني بعد كتاب ابن جرير. اعتنى فيه مؤلفه بالرواية عن مفسري السلف، ففسر فيه كلام الله تعالى بالأحاديث والآثار مسندة إلى أصحابها، مع الكلام عما يحتاج إليه جرحاً وتعديلا. وقد طبع هذا التفسير مع معالم التفسير للبغوي، ثم طبع مستقلا في أربعة أجزاء كبار.
وقد قدم له مؤلفة بمقدمة طويلة هامة، تعرض فيها لكثير من الأمور التي لها تعلق واتصال بالقرآن وتفسيره، ولكن أغلب هذه المقدمة مأخوذ بنصه من كلام شيخه ابن تيمية الذي ذكره في مقدمته في أصول التفسير.
ولقد قرأت في هذا التفسير فوجدته يمتاز في طرقته بأنه يذكر الآية، ثم يفسرها بعبارة سهلة موجزة، وإن أمكن توضيح الآية بآية أخرى ذكرها وقارن بين الآيتين حتى يتبين المعنى ويظهر المراد، وهو شديد العناية بهذا النوع من التفسير الذي يسمونه تفسير القرآن بالقرآن، وهذا الكتاب أكثر ما عرف من كتب التفسير سرداً للآيات المتناسبة في المعنى الواحد.
ثم بعد أن يفرغ من هذا كله، يشرع في سرد الأحاديث المرفوعة التي تتعلق بالآية، ويبين ما يحتج به وما لا يحتج به منها، ثم يردف هذا بأقوال الصحابة والتابعين ومن يليهم من علماء السلف.
ونجد ابن كثير يرجح بعض الأقوال على بعض، ويضعف بعض الروايات، ويصحح بعضاً آخر منها، ويعدل بعض الرواة ويجرح بعضاً آخر. وهذا يرجع إلى ما كان عليه من المعرفة بفنون الحديث وأحوال الرجال.
وكثيراً ما نجد ابن كثير ينقل من تفسير ابن جرير، وابن أبي حاتم، وتفسير ابن عطية، وغيرهم ممن تقدمه.
ومما يمتاز به ابن كثير، أنه ينبه إلى ما في التفسير المأثور من منكرات الإسرائيليات، ويحذر منها على وجه الإجمال تارة، وعلى وجه التعيين والبيان لبعض منكراتها تارة أخرى.
فمثلا عند تفسيره لقوله تعالى في الآية (67) وما بعدها من سورة البقرة } إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة ... { .. إلى آخر القصة، نراه يقص لنا قصة طويلة وغريبة عن طلبهم للبقرة المخصوصة، وعن وجودهم لها عند رجل من بني إسرائيل كان من أبر الناس بأبيه ... الخ، ويروى كل ما قيل في ذلك عن بعض علماء السلف .. ثم بعد أن يفرغ من هذا كله يقول ما نصه: (( وهذه السياقات عن عبيدة وأبي العالية والسدى وغيرهم، فيها اختلاف، والظاهر أنها مأخوذة من كتب بني إسرائيل، وهي مما يجوز نقلها ولكن لا تصدق ولا تكذب، فلهذا لا يعتمد عليها إلا ما وافق الحق عندنا. والله أعلم ))(1).
ومثلا عند تفسيره لأول سورة ((ق)) نراه يعرض لمعنى هذا الحرف في أول السورة ((ق)) ويقول: ((.. وقد روى عن بعض السلف أنهم قالوا ((ق)) جبل محيط بجميع الأرض يقال له جبل قاف، وكأن هذا ـ والله أعلم ـ من خرافات بني إسرائيل التي أخذها عنهم بعض زنادقتهم، يلبسون به على الناس أمر دينهم، كما أفترى في هذه الأمة مع جلالة قدر علمائها وحفاظها وأئمتها أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وما بالعهد من قدم، فكيف بأمة بني إسرائيل مع طول المدى وقلة حفاظ النقاد فيهم، وشربهم الخمور وتحريف علمائهم الكلم عن موضعه، وتبديل كتب الله وآياته؟ وإنما أباح الشارع الرواية عنهم في قوله: ((وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج فيما قد يجوز العقل، فأما فيما تحيله العقول، ويحكم فيه بالبطلان، ويغلب على الظنون كذبه، فليس من هذا القبيل. والله أعلم))(2)1 هـ
كما نلاحظ على ابن كثير أنه يدخل في المناقشات الفقهية، ويذكر أقوال العلماء وأدلتهم عندما يشرح آية من آيات الأحكام، وإن شئت أن ترى مثالا لذلك فارجع إليه عند تفسير قوله تعالى في الآية (185) من سورة البقرة } ... فمن شهد منكم الشهر فليصمه، ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر {... الآية، فإنه ذكر أربع مسائل تتعلق بهذه الآية، وذكر أقوال العلماء فيها، وأدلتهم على ما ذهبوا إليه(1)} فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره {... الآية، فإنه قد تعرض لما يشترط في نكاح الزوج المحلل، وذكر أقوال العلماء وأدلتهم(2).، وارجع إليه عند تفسير قوله تعالى في الآية (230) من سورة البقرة أيضاً:
بالجملة، فإن هذا التفسير من خير كتب التفسير بالمأسور وقد شهد له بعض العلماء، فقال السيوطي في ذيل تذكرة الحافظ، والزرقاني في شرح المواهب: إنه لم يؤلف على نمطه مثله(3).


3- الدر المنثور في التفسير بالمأثور – للسيوطي
· التعريف بمؤلف هذا التفسير :
مؤلف هذا التفسير هو الحافظ جلال الدين أبو الفضل عبد الرحمن بن أبي بكر بن محمد السيوطي الشافعي, المسند المحقق, صاحب المؤلفات الفائقة النافعة, ولد في رجب سنة 849 هـ (تسع وأربعين وثمانمائة), وتوفي والده وله من العمر خمس سنوات وسبعة أشهر, وأسند وصايته إلى جماعة من العلماء, منهم الكمال بن الهمام , فقرره في وظيفة الشيخونية ولحظه بنظره, وختم القرآن وله من العمر ثمان سنين, وحفظ كثيرا من المتون, وأخذ عن شيوخ كثيرين, عدهم تلميذه الداودي فبلغ بهم واحدا وخمسين, كما عد مؤلفاته فبلغ بها ما يزيد على الخمسمائة مؤلف, وشهرة مؤلفاته تغني عن ذكرها, فقد اشتهرت شرقا وغربا ورزقت قبول الناس. وكان السيوطي ـ رحمه الله ـ آية في سرعة التأليف حتى قال تلميذه الداودي: عاينت الشيخ وقد كتب في يوم واحد ثلاث كراريس تأليفا وتحريرا.
وكان أعلم أهل زمانه بعلم الحديث وفنونه, رجالا, وغريبا, ومتنا وسندا, واستنباطا للأحكام. ولقد أخبر عن نفسه أنه يحفظ مائتي ألف حديث, قال: لو وجدت أكثر لحفظت. ولما بلغ الأربعين سنة تجرد للعبادة وانقطع إلى الله تعالى, وأعرض عن الدنيا وأهلها, وترك الإفتاء والتدريس, واعتذر عن ذلك في مؤلف سماه ((بالتنفيس)), وأقام في روضة المقياس ولم يتحول عنها إلى أن مات. وله مناقب وكرامات كثيرة, وله شعر كثير جيد أغلبه في الفوائد العلمية والأحكام الشرعية, وتوفي في سحر ليلة الجمعة تاسع عشر جمادى الأولى سنة 911 هـ (إحدى عشرة وتسعمائة) في منزله بروضة المقياس فرضي الله عنه وأرضاه(1).
* * *
· التعريف بهذا التفسير وطريقة مؤلفه فيه :
عرف الجلال السيوطي نفسه هذا التفسير وبين لنا الحامل له على تأليفه وذلك بمجموع ما ذكره في آخر الإتقان (ج2 ص183): ((وقد جمعت كتابا مسندا فيه تفاسير النبي صلى الله عليه وسلم، فيه بضعة عشر ألف حديث ما بين مرفوع وموقوف, وقد تم ولله الحمد في أربع مجلدات وسميته ((ترجمان القرآن )) 1هـ .
وقال في مقدمة الدر المنثور (ج1ص2): ((وبعد فلما ألفت كتاب ترجمان القرآن ـ وهو التفسير المسند عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وتم بحمد الله في مجلدات فكان ما أوردته فيه من الآثار بأسانيد الكتب المخرجة منها واردات, رأيت قصور أكثر أهل الهمم عن تحصيله ورغبتهم في الاقتصاد على متون الأحاديث, دون الإسناد وتطويله فلخصت منه هذا المختصر مقتصرا فيه على متن الأثر مصدرا بالعزو والتخريج إلى كل كتاب معتبر وسميته بالدر المأثور في التفسير بالمأثور )) 1هـ .
ومن هاتين العبارتين يتبين لنا أن السيوطي اختصر كتابه الدر المنثور من كتابه ترجمان القرآن, وحذف الأسانيد مخافة الملل مع عزوه كل رواية إلى الكتاب الذي أخذ منه.
ويقول السيوطي في آخر الإتقان (ج3ص190): (( وقد شرعت في تفسير جامع ما يحتاج إليه من التفاسير المنقولة, والأقوال المعقولة, والاستنباطات, والإشارات, والأعاريب, واللغات ونكت البلاغة, ومحاسن البدائع, وغير ذلك بحيث لا يحتاج معه إلى غيره أصلا, وسميته بمجمع البحرين ومطلع البدرين وهو الذي جعلته هذا الكتاب ـ يعني الإتقان ـ مقدمة له)) 1هـ.
ومن هذه العبارة يتبين لنا أن كتاب: (( مجمع البحرين ومطلع البدرين )) يشبه في منهجه وطريقته ـ إلى حد كبير ـ تفسير ابن جرير الطبري ولكن لا ندري إذا كان السيوطي قد أتم هذا التفسير أم لا؟ ويظهر لنا أنه لا صلة بينه وبين كتاب الدر المنثور وذلك لأني استعرضت كتاب الدر المنثور فوجدته لا يتعرض فيه مطلقا لما ذكره من منهجه في مجمع البحرين ومطلع البدرين فلا استنباط ولا إعراب ولا نكات بلاغية ولا محسنات بديعية ولا شئ مما ذكر أنه سيعرض له في مجمع البحرين ومطلع البدرين, وكل ما فيه هو سرد الروايات عن السلف في التفسير بدون أن يعقب عليها, فلا يعدل ولا يجرح ولا يضعف ولا يصحح فهو كتاب جامع فقط لما يروى عن السلف في التفسير أخذه السيوطي من البخاري, ومسلم, والنسائي, والترمذي, وأحمد, وأبي داوود, وابن جرير, وابن أبي حاتم, وعبد بن حميد, وابن أبي الدنيا, وغيرهم ممن تقدمه ودون التفسير.
والسيوطي رجل مغرم بالجمع وكثرة الرواية, وهو مع جلالة قدره ومعرفته بالحديث وعلله لم يتحر الصحة فيما جمع في هذا التفسير, وإنما خلط بين الصحيح والعليل فالكتاب يحتاج إلى تصفية حتى يتميز لنا غثه من سمينه, وهو مطبوع في ستة مجلدات ومتداول بين أهل العلم.
ولا يفوتنا هنا أن ننبه إلى أن كتاب الدر المنثور هو الكتاب الوحيد الذي اقتصر على التفسير المأثور من بين هذه الكتب التي تكلمنا عنها فلم يخلط بين الروايات التي نقلها شيئا من عمل الرأي كما فعل غيره .
وإنما اعتبرنا كل هذه الكتب من كتب التفسير بالمأثور نظرا لما امتازت به عما عداها من الإكثار في النقل, والاعتماد على الرواية, وما كان وراء ذلك من محاولات تفسيرية عقلية, أو استطراد إلى نواح تتصل بالتفسير, فذلك أمر يكاد يكون ثانويا بالنسبة لما جاء فيها من روايات عن السلف في التفسير.
وإلى هنا نمسك عن الكلام عن بقية الكتب المؤلفة في التفسير المأثور لما قدمناه من عدم وصولها جميعها إلينا, ومن مخافة التطويل ... ولعل القارئ الكريم يتفق معي على أن هذه الكتب التي تقدمت يغني الكلام عنها عن الكلام عما عداها من الكتب التي نهجت هذا المنهج وسلكت هذا الطريق.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
صانع المعروف
صانع المعروف


عدد المساهمات : 179
نقاط : 23882
تاريخ التسجيل : 25/06/2011

الكتاب الاسطورة مناهج المفسرين  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الكتاب الاسطورة مناهج المفسرين    الكتاب الاسطورة مناهج المفسرين  I_icon_minitimeالسبت أغسطس 13, 2011 2:18 pm

مناهج المفسرين

من كتاب


التفسير والمفسرون

المقرر الثالث



تأليف

الدكتور: محمد الذهبي


بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على اشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.وبعد:
فبتوفيق الله تعالى ومنه كرمه تم طبع هذا الكتاب المنتقى من كتاب "التفسير والمفسرون" للدكتور محمد حسين الذهبي.
وقد وقع اختيار إدارة الدراسات الإسلامية على انتقاء الفصل المتعلق بالتفسير بالرأي، كمقرر يدرس في الفصل الثالث في معهد الدراسات الإسلامية، وذلك نظرا لما لهذا المبحث من أهمية عظيمة، إذ به يعلم الدارس الشروط والقيود والعلوم التي يجب توافرها في المفسر للقرآن الكريم، والأمور التي يجب على المفسر تجنبها، حتى يكون على بينة ووضوح من أمره حين نظره في القرآن الكريم، فيتفادى الوقوع في الخطأ والانحراف الذي وقعت فيه بعض الفرق الضالة، والتي أخذت تفسر القرآن الكريم تفسيرا يوافق آراءها ومشاربها المنحرفة.
وليس ذنبا أعظم عند الله تعالى من التقول عليه بما لم يقله، فالمفسر للقرآن الذي يفسره بلا علم ولا دراية ولا تأهيل شرعي في شتى الفنون المختلفة والمتصلة صلة وثيقة بالقرآن الكريم، إنما يفترى على الله تعالى الكذب إن لم يصب الحق ، وإن أصاب الحق فهو آثم من جهة تعديه على كتاب الله وكلامه بلا علم ودراية، ويؤيد هذا قول النبي r "ومن قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ"(1) وقوله r : "اتقوا الحديث عني إلا ما عملتم، فمن كذب عليَّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار، ومن قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار".
وهذا المقرر يتناول موضوع التفسير بالرأي، وآراء العلماء فيه وموقف الفرق المختلفة منه تناولا علميا موضوعيا نزيها، جَلَّى فيه مؤلفه المسلك الصحيح والمنهج القويم لتفسير القرآن الكريم بالرأي، والشروط التي يجب توافرها في كل من يقوم بتفسير كتاب الله عز وجل.
هذا ونرجو الله تعالى أن ينفع بهذا الكتاب دارسيه وقارئيه، وان يأخذ بأيديهم وأيدينا إلى طرق الخير والهداية.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
مدير إدارة الدراسات الإسلامية

الفصل الثاني
التفسير بالرأي وما يتعلق به من مباحث
· معنى التفسير بالرأي:
يطلق الرأي على الاعتقاد، وعلى الاجتهاد ، وعلى القياس ، ومنه أصحاب الرأي، أي أصحاب القياس.
والمراد بالرأي هنا الاجتهاد، وعليه فالتفسير بالرأي، عبارة عن تفسير القرآن بالاجتهاد بعد معرفة المفسر لكلام العرب ومناحيهم في القول، ومعرفته للألفاظ العربية ووجوه دلالتها، واستعانته في ذلك بالشعر الجاهلي ووقوفه على أسباب النزول، ومعرفته بالناسخ والمنسوخ من آيات القرآن، وغير ذلك من الأدوات التي يحتاج إليها المفسر، وسنذكرها قريبا إن شاء الله تعالى.
* * *
· موقف العلماء من التفسير بالرأي:
اختلف العلماء من قديم الزمان في جواز تفسير القرآن بالرأي، ووقف المفسرون بإزاء هذا الموضوع موقفين متعارضين :
فتقوم تشددوا في ذلك فلم يجرأوا على تفسير شئ من القرآن، ولم يبيحوه لغيرهم، وقالوا: لا يجوز لأحد تفسير شئ من القرآن وإن كان عالما أديبا متسعا في معرفة الأدلة، والفقه، والنحو، والأخبار، والآثار، وإنما له أن ينتهي إلى ما روى النبي r ، وعن الذين شهدوا التنزيل من الصحابة t ، أو عن الذين أخذوا عنهم من التابعين(1).
وقوم كان موقفهم على العكس من ذلك، فلم يروا بأسا من أن يفسروا القرآن باجتهادهم، ورأوا أن من كان ذا أدب وسيع فموسع له أن يفسر القرآن برأيه واجتهاده.
والفريقان على طرفي نقيض فيما يبدو، وكل يعزز رأيه ويقويه بالأدلة والبراهين.

أما الفريق الأول – فريق المانعين – فقد استدلوا بما يأتي:
أولا : قالوا: أن التفسير بالرأي قول على الله بغير علم، والقول على الله بغير علم منهي عنه، فالتفسير بالرأي منهي عنه، دليل الصغرى: أن المفسر بالرأي ليس على يقين بأنه أصاب ما أراد الله تعالى، ولا يمكنه أن يقطع بما يقول، وغاية الأمر أنه بقول بالظن، والقول بالظن قول على الله بغير علم، ودليل الكبرى: قوله تعالى: } وأن تقولوا على الله مالا تعلمون { وهو معطوف على ما قبله من المحرمات في قوله تعالى في الآية (33) من سورة الأعراف : } قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن {... الآية، وقوله تعالى في الآية (36) من سورة الإسراء : } ولا تقف ما ليس لك به علم {..
وقد رد المجيزون هذا الدليل فقالوا: نمنع الصغرى، لأن الظن نوع من العلم، إذ هو أدراك الطرف الراجح، وعلى فرض تسليم الصغرى فإنا نمنع الكبرى، لأن الظن منهي عنه إذا أمكن الوصول إلى العلم اليقيني القطعي، بأن يوجد نص قاطع من نصوص الشرع، أو دليل عقلي موصل لذلك أما إذا لم يوجد شئ من ذلك، فالظن كاف هنا، لاستناده إلى دليل قطعي من الله سبحانه وتعالى على صحة العمل به إذ ذاك كقوله تعالى: } لا يكلف الله نفسا إلا وسعها { .. وقوله عليه الصلاة والسلام: ((جعل الله للمصيب اجرين وللمخطئ واحدا)) ولقول رسول الله r لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: ((فبم تحكم ؟ قال: بكتاب الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: بسنة رسول الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: اجتهد رأيي، فضرب رسول الله r في صدره وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضى رسول الله)).
ثانيا: استدلوا بقوله تعالى: } وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم {(1) .. فقد أضاف البيان إليه، فعلم أنه ليس لغيره شئ من البيان لمعاني القرآن.
وأجاب المجيزون عن هذا الدليل فقالوا: نعم إن النبي r مأمور بالبيان، ولكنه مات ولم يبين كل شئ فما ورد بيانه عنه r ففيه الكفاية عن فكرة من بعده، وما لم يرد عنه ففيه حينئذ فكرة أهل العلم بعده، فيستدلون بما ورد بيانه على ما لم يرد، والله تعالى يقول في آخر الآية: } ولعلهم يتفكرون {.
ثالثا: استدلوا بما ورد في السنة من تحريم القول في القرآن بالرأي فمن ذلك:
1- ما رواه الترمذي عن ابن عباس t عن النبي r أنه قال: ((اتقوا الحديث عني إلا ما علمتم، فمن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار، ومن قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار" – قال أبو عيسى :(1) هذا حديث حسن.
2- ما وراه الترمذي وأبو داوود عن جندب أنه قال: قال رسول الله r : ((من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد اخطأ))..
وأجاب المجيزون عن هذين الحديثين بأجوبة:
منها: أن النهي محمول على من قال برأيه في نحو مشكل القرآن، ومتشابهه، من كل ما لا يعلم إلا عن طريق النقل عن النبي r والصحابة عليهم رضوان الله.
ومنها: أنه أراد بالرأي الرأي الذي يغلب على صاحبه من غير دليل يقوم عليه، أما الذي يشده البرهان، ويشهد له الدليل، فالقول به جائز، فالنهي على هذا متناول لمن كان يعرف الحق ولكنه له في الشئ رأي وميل إليه من طبعه وهواه، فيتأول القرآن على وفق هواه، ليحتج به على تصحيح رأيه الذي يميل إليه، ولو لم يكن له ذلك الرأي والهوى لما لاح له هذا المعنى الذي حمل القرآن عليه، ومتناول لمن كان جاهلا بالحق ولكنه يحمل الآية التي تحتمل أكثر من وجه على ما يوافق رأيه وهواه، ويرجح هذا الرأي بما يتناسب مع ميوله، ولولا هذا لما ترجح عنده ذلك الوجه.
ومتناول أيضا لمن كان له غرض صحيح ولكنه يستدل لغرضه هذا بدليل قرآني يعلم أنه ليس مقصودا به ما أراد، مثل الداعي إلى مجاهدة النفس الذي يستدل على ذلك بقوله تعالى: } اذهب إلى فرعون أنه طغى {(2)..
ويريد من فرعون النفس، ولا شك أن مثل هذا قائل في القرآن برأيه.
ومنها : أن النهي محمول على من يقول في القرآن بظاهر العربية، من غير أن يرجع إلى أخبار الصحابة الذين شاهدوا تنزيله، وأدوا إلينا من السنن ما يكون بيانا لكتاب الله تعالى، وبدون أن يرجع إلى السماع والنقل فيما يتعلق بغريب القرآن، وما فيه من المبهمات، والحذف، والاختصار، والإضمار، والتقديم، والتأخير، ومراعاة مقتضى الحال، ومعرفة الناسخ والمنسوخ، وما إلى ذلك من كل ما يجب معرفته لمن يتكلم في التفسير، فان النظر إلى ظاهر العربية وحده لا يكفي، بل لابد من ذلك أولا، ثم بعد ذلك يكون التوسع في الفهم والاستنباط.
فمثلا قوله تعالى: } وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها {(1)..
معناه: وآتينا ثمود الناقة معجزة واضحة، وآية بينة على صدق رسالته، فظلموا بعقرها أنفسهم، ولكن الواقف عند ظاهر العربية وحدها بدون أن يستظهر بشئ مما تقدم، يظن أن مبصرة من الأبصار بالعين، وهو حال من الناقة وصف لها في المعنى، ولا يدري بعد ذلك بم ظلموا، ولا من ظلموا.
كل من هذه الأجوبة الثلاثة، يمكن أن يجاب به على من يستند في قوله بحرمة التفسير بالرأي على هذين الحديثين المتقدمين ، وهي أجوبة سليمة دامغة، كافية لإسقاط حجتهما والاعتماد عليهما.
هذا ويمكن الإجابة عن حديث جندب ـ زيادة عما تقدم ـ بأن هذا الحديث لم تثبت صحته، لأن من رواته سهيل بن أبي حزم، وهو متكلم فيه، قال فيه أبو حاتم: ليس بالقوى، وكذا قال البخاري والنسائي، وضعفه ابن معين وقال فيه الإمام احمد: روي أحاديث منكرة(2) والترمذي نفسه يقول بعد روايته لهذا الحديث : ((وقد نكلم بعض أهل الحديث في سهيل بن أبي حزم)).
رابعا : ما ورد عن السلف من الصحابة والتابعين، من الآثار التي تدل على أنهم كانوا يعظمون تفسير القرآن ويتحرجون من القول فيه بآرائهم .
فمن ذلاك: ما جاء عن أبي مليكة أنه قال: سئل أبو بكر الصديق t في تفسير حرف من القرآن فقال: ((أي سماء تظلني، وأين ارض تقلني، وأين اذهب وكيف أصنع إذا قلت في حرف من كتاب الله بغير ما أراد تبارك وتعالى؟)).
وما ورد عن سعيد بن المسيب: أنه كان إذا سئل عن الحلال والحرام تكلم وإذا سئل عن تفسير آية من القرآن سكت كأن لم يسمع شيئا.
وما روى عن الشعبي أنه قال: ((ثلاث لا أقول فيهن حتى أموت: القرآن، والروح، والرأي)).
وهذا ابن مجاهد يقول: ((قال رجل لأبي : أنت الذي تفسر القرآن برأيك؟ فبكى أبي، ثم قال: إني إذن لجر، لقد حملت التفسير عن بضعة عشر رجلا من أصحاب النبي r ورضى عنهم)).
وهذا هو الأصمعي إمام اللغة، كان مع علمه الواسع شديد الاحتراز في تفسير الكتاب، بل والسنة، فإذا سئل عن معنى شئ من ذلك يقول: ((العرب تقول: معنى هذا كذا، ولا اعلم المراد منه في الكتاب والسنة أي شئ هو)).
.. وغير هذا كثير من الآثار الدالة على المنع من القول في التفسير بالرأي.
وقد أجاب المجيزون عن هذه الآثار: بأن إحجام من أحجم من السلف عن التفسير بالرأي، إنما كان منهم ورعا واحتياطا لأنفسهم، مخالفة ألا يبلغوا ما كلفوا به من إصابة الحق في القول، وكانوا يرون أن التفسير شهادة على الله بأنه عني باللفظ كذا وكذا، فأمسكوا عنه خشية أن لا يوافقوا مراد الله عز وجل، كان منهم من يخشى أن يفسر القرآن برأيه فيجعل في التفسير إمام يبني على مذهبه ويقتفي طريقه، فربما جاء أحد المتأخرين وفسر القرآن برأيه فوقع في الخطأ، ويقول : أمامي في التفسير بالرأي فلان من السلف.
ويمكن أن يقال أيضا: أن إحجامهم كان مقيدا بما لم يعرفوا وجه الصواب فيه، أما إذا عرفوا وجه الصواب فكانوا لا يتحرجون من إبداء ما يظهر لهم ولو بطريق الظن، فهذا أبو بكر t يقول: وقد سئل عن الكلالة ـ ((أقول فيها برأي فإن كان صوابا من الله، وإن كان غير ذلك فمني ومن الشيطان: الكلالة كذا وكذا)).
ويمكن أن يقال أيضا: إنما أحجم من أحجم، لأنه كان لا يتعين للإجابة لوجود من يقوم عنه في تفسير القرآن وإجابة السائل وإلا لكانوا كاتمين للعلم وقد أمرهم الله ببيانه للناس.
وهناك أجوبة أخرى غير ما تقدم والكل يوضح لنا سر إحجام من أحجم من السلف عن القول في التفسير برأيهم، ويبين أنه لم يكن عن اعتقاد منهم بعدم جواز التفسير بالرأي.
وأما الفريق الثاني ـ فريق المجوزين ـ فقد استدلوا على ما ذهبوا إليه بما يأتي:
أولا: بنصوص كثيرة وردت في كتاب الله تعالى: منها قوله تعالى: } أفلا يتدبرون القرآن ام على قلوب أقفالها..{(1) وقوله: } كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب{..
وقوله: } ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم {(1) وجه الدلالة في هذه الآيات: أنه تعالى حث في الآيتين الأوليين على تدبر القرآن والاعتبار بآياته، والاتعاظ بعظاته، كما دلت الآية الأخيرة على أن في القرآن ما يستنبطه أولوا الألباب باجتهادهم، ويصلون إليه بأعمال عقولهم وإذا كان الله قد حثنا على التدبر وتعبدنا بالنظر في القرآن واستنباط الأحكام منه، فهل يعقل أن يكون تأويل ما لم يستأثر الله بعلمه محظورا على العلماء، مع أنه طريق العلم، وسبيل المعرفة والعظة؟ لو كان ذلك لكنا ملزمين بالاتعاظ والاعتبار بما لا نفهم ولما توصلنا لشئ من الاستنباط ولما فهم الكثير من كتاب الله تعالى.
ثانيا: قالوا: لو كان التفسير بالرأي غير جائز لما كان الاجتهاد جائزا، ولتعطل كثير من الأحكام، وهذا باطل بين البطلان، وذلك لأن باب الاجتهاد لا يزال مفتوحا إلى اليوم أمام أربابه، والمجتهد في حكم الشرع مأجور أصاب أو أخطأ، والنبي r لم يفسر كل آيات القرآن ولم يستخرج لنا جميع ما فيه من أحكام.
ثالثا: استدلوا بما ثبت من أن الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ قرأوا القرآن واختلفوا في تفسيره على وجوه، ومعلوم أنهم لم يسمعوا كل ما قالوه في تفسيره على وجوه، ومعلوم أنهم لم يسمعوا كل ما قالوه في تفسير القرآن من النبي r ، إذ أنه لم يبين لهم كل معاني القرآن، بل بين لهم بعض معانيه، وبعضه الآخر توصلوا إلى معرفته بعقولهم واجتهادهم، ولو كان القول بالرأي في القرآن محظورا لكانت الصحابة قد خالفت ووقعت فيما حرم الله ونحن نعيذ الصحابة من المخالفة والجرأة على محارم الله.
رابعا: قالوا: أن النبي r دعا لابن عباس t ، فقال في دعائه له: ((اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل)) فلو كان التأويل مقصورا على السماع والنقل كالتنزيل، لما كان هناك فائدة لتخصيص ابن عباس بهذا الدعاء، فدل ذلك على أن التأويل الذي دعا به الرسول r لابن عباس أمر آخر وراء النقل والسماع، ذلك هو التفسير بالرأي والاجتهاد وهذا بين لا إشكال فيه.
هذه هي أدلة الفريقين، وكل يحاول بما ذكر من الأدلة أن يثبت قوله ويركز مدعاه، والغزالي ـ في الأحياء، بعد الاحتجاج والاستدلال على بطلان القول بأن لا يتكلم احد في القرآن إلا بما يسمعه ـ يقول : ((فبطل أن يشترط السماع في التأويل، وجاز لكل واحد أن يستنبط من القرآن بقدر فهمه وحد عقله))(1) كما قال قبل ذلك بقليل : ((أن في فهم معاني القرآن مجالا رحبا ومتسعا بالغا وأن المنقول من ظاهر التفسير ليس منتهى الإدراك فيه))(2).
والراغب الأصفهاني ـ بعد ذكر المذهبين وأدلتهما في مقدمة التفسير ـ يقول : ((وذكر بعض المحققين: أن المذهبين هما الغلو والتقصير، فن اقتصر على المنقول إليه فقد ترك كثيرا مما يحتاج إليه، ومن أجاز لكل احد الخوض فيها فقد عرضه للتخليط، ولم يعتبر حقيقة قوله تعالى: } ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب {(3) أ هـ (14)
* * *
· حقيقة الخلاف:
ونحن مع هذا البعض الذي نقل عنه الراغب هذا التحقيق أن وقف الفريق الأول عند المنقول فلم يتجاوزه، وأجاز الفريق الثاني لكل احد الخوض في التفسير والكلام فيه، إذا أن الجمود على المنقول تقصير وتفريط بلا نزاع، والخوص في التفسير لكل إنسان غلو وإفراط بلا جدال.
ولكن لو رجعنا إلى هؤلاء المتشددين في التفسير وعرفنا سر تشددهم فيه، ثم رجعنا إلى هؤلاء المجوزين للتفسير بالرأي ووقفنا على ما شرطوه من شروط لابد منها لمن يتكلم في التفسير برأيه، وحللنا أدلة الفريقين تحليلا دقيقا، لظهر لنا أن الخلاف لفظي لا حقيقي ولبيان ذلك نقول:
الرأي قسمان: قسم جار على موافقة كلام العرب ومناحيهم في القول: مع موافقة الكتاب والسنة، ومراعاة سائر شروط التفسير، وهذا القسم جائز لا شك فيه، وعليه يحمل كلام المجيزين للتفسير بالرأي.
وقسم غير جار على قوانين العربية، ولا موافق للأدلة الشرعية، ولا مستوف لشرائط التفسير، وهذا هو مورد النهي ومحط الذم، وهو الذي يرمي إليه كلام ابن مسعود إذ يقول: ((ستجدون أقواما يدعونكم إلى كتاب الله وقد نبذوه وراء ظهورهم، فعليكم بالعلم وإياكم والتبدع وإياكم والتنطع)) وكلام عمر إذ يقول: ((إنما أخاف عليكم رجلين، رجل يتأول القرآن على غير تأويله، ورجل ينافس الملك على أخيه)) وكلامه إذ يقول: ((ما أخاف على هذه الأمة من مؤمن ينهاه إيمانه، ولا من فاسق بين فسقه، ولكني أخاف عليها رجلا قد قرأ القرآن حتى أذلقه بلسانه ثم تأوله على غير تأويله)).. فكل هذا ونحوه وارد في حق من لا يراعى في تفسير القرآن قوانين اللغة ولا أدلة الشريعة، جاعلا هواه رائده، ومذهبه قائده، وهذا هو الذي يحمل عليه كلام المانعين للتفسير بالرأي، وقد قال ابن تيمية ـ بعد أن ساق الآثار عمن تحرج من السلف من القول في التفسير ـ فهذه الآثار الصحيحة وما شاكلها عن أئمة السلف، محمولة على تحرجهم عن الكلام في التفسير بما لا علم لهم به، فأما من تكلم بما يعلم من ذلك لغة وشرعا فلا حرج عليه، ولهذا روى عن هؤلاء وغيرهم أقوال في التفسير ولا منافاة، لأنهم تكلموا فيما علموه، وسكتوا عما جهلوه هذا هو الواجب على كل أحد، فأنه كما يجب السكوت عما لا علم له به، فكذلك يجب القول فيما سئل عنه مما يعلمه، لقوله تعالى: } لتبيننه للناس ولا تكتمونه {(1)، ولما جاء في الحديث المروي من طرق: ((من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار))(2). أ هـ.
وإذ قد علمنا أن التفسير بالرأي قسمان: قسم مذموم غير جائز، وقسم ممدوح جائز، وتبين لنا القسم الجائز محدود بحدود، ومقيد بقيود، فلا بد من أن نعرض هنا لما ذكروه من العلوم التي يحتاج إليها المفسر، وما ذكروه من الأدوات التي إذا توافرت لديه وتكاملت فيه، خرج عن كونه مفسرا للقرآن بمجرد الرأي ومحض الهوى.
* * *
· العلوم التي يحتاج إليها المفسر:
اشترط العلماء في المفسر الذي يريد أن يفسر القرآن برأيه بدون أن يلتزم الوقوف عند حدود المأثور منه فقط، أن يكون ملما بجملة من العلوم التي يستطيع بواسطتها أن يفسر القرآن تفسيرا عقليا مقبولا، وجعلوا هذه العلوم بمناسبة أدوات تعصم المفسر من الوقوع في الخطأ، وتحميه من القول على الله بدون علم، وإليك هذه العلوم مفصلة، مع توضيح ما لكل علم منها من الأثر في الفهم وإصابة وجه الصواب:

الأول: علم اللغة: لأن به يمكن شرح مفردات الألفاظ ومدلولاتها بحسب الوضع قال مجاهد: ((لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتكلم في كتاب الله إذا لم يكن عالما بلغات العرب))، ثم أنه لابد من التوسع والتبحر في ذلك، لأن اليسير لا يكفي إذ ربما كان اللفظ مشتركا، والمفسر يعلم احد المعنيين ويخفي عليه الآخر وقد يكون هو المراد.
الثاني: علم النحو: لأن المعنى يتغير ويختلف باختلاف الإعراب، فلابد من اعتباره اخرج أبو عبيد عن الحسن أنه سئل عن الرجل يتعلم العربية يلتمس بها حسن المنطق ويقيم بها قراءته فقال: حسن فتعلمها، فإن الرجل يقرأ الآية فيعي بوجهها فيهلك فيها.

الثالث: علم الصرف: وبواسطته تعرف الأبنية والصيغ قال ابن فارس ((ومن فاته المعظم لأن "وجد" مثلا كلمة مبهمة، فإذا صرفناها اتضحت بمصادرها)) وحكى السيوطي عن الزمخشري أنه قال: ((من بدع التفاسير قول من قال: إن الإمام في قوله تعالى: } يوم ندعوا كل أناس بإمامهم {(1) جمع أم، وإن الناس يدعون يوم القيامة بأمهاتهم دون آبائهم قال: وهذا غلط أوجبه جهله بالتصريف فإن أما لا تجمع على إمام)).

الرابع: الاشتقاق: لأن الاسم إذا كان اشتقاقه من مادتين مختلفتين اختلف باختلافهما، كالمسيح مثلا، هل هو من السياحة أو من المسح؟
الخامس والسادس والسابع: علوم البلاغة الثلاثة ((المعاني، والبيان، والبديع)): فعلم المعاني، يعرف به خواص تراكيب الكلام من جهة إفادتها المعنى. وعلم البيان يعرف به خواص التراكيب من حيث اختلافها بحسب وضوح الدلالة وخفائها، وعلم البديع، يعرف به وجوه تحسين الكلام وهذه العلوم الثلاثة من أعظم أركان المفسر لأنه لابد له من مراعاة ما يقتضيه الإعجاز وذلك لا يدرك إلا بهذه العلوم.
الثامن: علم القراءات: إذ بمعرفة القراءة يمكن ترجيح بعض الوجوه المحتملة على بعض.
التاسع: علم أصول الدين: وهو علم الكلام وبه يستطيع المفسر أن يستدل على ما يجب في حقه تعالى، وما يجوز وما يستحل وان ينظر في الآيات المتعلقة بالنبوات والمعاد وما إلى ذلك نظرة صائبة ولولا ذلك لوقع المفسر في ورطات.

العاشر: علم أصول الفقه: إذ به يعرف كيف يستنبط الأحكام من الآيات ويستدل عليها، ويعرف الإجمال والتبيين والعموم والخصوص والإطلاق والتقييد ودلالة الأمر والنهي، وما سوى ذلك من كل ما يرجع إلى هذا العلم.
الحادي عشر: علم أسباب النزول: إذ أن معرفة سبب النزول يعين على فهم المراد من الآية.
الثاني عشر: علم القصص: لأن معرفة القصة تفصيلا يعين على توضيح ما أجمل منها في القرآن.
الثالث عشر: علم الناسخ والمنسوخ: وبه يعلم المحكم من غيره ومن فقد هذه الناحية ربما أفتى بحكم منسوخ فيقع في الضلال والإضلال.
الرابع عشر: الأحاديث المبينة لتفسير المجمل والمبهم. ليستعين بها على توضيح ما يشكل عليه.
الخامس عشر : علم الموهبة: وهو علم يورثه الله تعالى لمن عمل بما علم. وإليه الإشارة بقوله تعالى: } واتقوا الله، ويعلمكم الله {(1) .. وبقوله r: ((من عمل بما علم ورثه الله علم ما لا يعلم))، قال السيوطي بعد أن عد علم الموهبة من العلوم التي لابد منها للمفسر ((ولعلك تستشكل علم الموهبة وتقول: هذا شئ ليس في قدرة الإنسان, وليس الأمر كما ظننت من الإشكال، والطريق في تحصيله ارتكاب الأسباب الموجبة له من العمل والزهد، قال في البرهان: ((اعلم أنه لا يحصل للناظر فهم معاني الوحي ولا تظهر له أسراره، وفي قلبه بدعة ،أو كبر، أو هوى، أو حب دنيا، أو وهو مصر على ذنب، أو غير متحقق بالإيمان، أو ضعيف التحقيق، أو يعتمد على قول مفسر ليس عنده علم، أو راجع إلى معقوله، وهذه كلها حجب وموانع بعضها أكد من بعض)) قلت: وفي هذا المعنى قوله تعالى: } سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق { (2).. قال ابن عيينه: أنزع عنهم فهم القرآن، أخرجه ابن أبي حاتم))(3).
هذه هي العلوم التي اعتبرها العلماء أدوات لفهم كتاب الله تعالى، وقد ذكرناها مسهبة مفصلة، وإن كان بعض العلماء ذكر بعضا وأعرض عن بعض آخر، ومنهم من أدمج بعضها في بعض وضغطها حتى كانت اقل عددا مما ذكرنا، وليس هذا العدد الذي ذكرنا حاصراً لجميع العلوم التي يتوقف عليها التفسير، فإن القرآن ـ مثلا ـ قد اشتمل على أخبار الأمم الماضية وسيرهم وحوادثهم، وهي أمور تقتضي الإلمام بعلمي التاريخ وتقويم البلدان، لمعرفة العصور والأمكنة التي وجدت فيها تلك الأمم، ووقعت فيها هذه الحوادث، وارى أن أسوق هنا مقالة الأستاذ المرحوم السيد محمد رشيد رضا في مقدمة تفسيره تتميما للفائدة، وإليك نص هذه المقالة التي اقتبسها من دروس أستاذه الإمام الشيخ محمد عبده عليه رضوان الله.
قال رحمه الله: ((للتفسير مراتب: أدناها أن يبين بالإجمال ما يشرب القلب عظمة الله وتنزيهه، ويصرف النفس عن الشر، ويجذبها إلى الخير، وهذه هي التي قلنا أنها متيسرة لكل احد: } ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر {(1).. وأما المرتبة العليا فهي لا تتم إلا بأمور:
احدها: فهم حقائق الألفاظ المفردة التي أودعها القرآن، بحيث يحقق المفسر ذلك من استعمالات أهل اللغة، غير مكتف بقبول فلان وفهم فلان، فإن كثيرا من الألفاظ كانت تستعمل في زمن التنزيل لمعان ثم غلبت على غيرها بعد ذلك بزمن قريب أو بعيد، من ذلك لفظ التأويل اشتهر بمعنى التفسير مطلقا، أو على وجه مخصوص، ولكنه جاء في القرآن بمعان أخرى، كقوله تعالى: } هل ينظرون إلا تأويله، يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق { (2) .. فما هذا التأويل؟ يجب على من يريد الفهم الصحيح أن يتتبع الاصطلاحات التي حدثت في الملة، ليفرق بينها وبين ما ورد في الكتاب، فكثيرا ما يفسر المفسرون كلمات القرآن بالاصطلاحات التي حدثت في الملة بعد القرون الثلاثة الأولى، فعلى المدقق أن يفسر القرآن بحسب المعاني التي كانت مستعملة في عصر نزوله، والأحسن أن يفهم اللفظ من القرآن نفسه، بأن يجمع ما تكرر في مواضع منه وينظر فيه، فربما استعمل بمعان مختلفة كلفظ الهداية وغيره، ويحقق كيف يتفق معناه مع جملة معنى الآية، فيعرف المعنى المطلوب من بين معانيه، وقد قالوا: إن القرآن يفسر بعضه بعضا، وإن أفضل قرينة تقوم على حقيقة معنى اللفظ موافقته لما سبق له من القول، واتفاقه مع جملة المعنى، وائتلافه مع القصد الذي جاء له الكتاب بجملته.
ثانيها: الأساليب، فينبغي أن يكون عنده من علمها ما يفهم به هذه الأساليب الرفيعة، وذلك يحصل بممارسة الكلام البليغ ومزاولته، مع التفطن لنكته ومحاسنه والعناية بالوقوف على مراد المتكلم منه، نعم إذا لا نتسامى إلى فهم مراد الله تعالى كله على وجه الكمال والتمام، ولكن يمكننا فهم ما نهتدي به بقدر الطاقة، ويحتاج في هذا إلى علم الإعراب وعلم الأساليب ((المعاني والبيان)) ولكن مجرد العلم بهذه الفنون وفهم مسائلها وحفظ أحكامها لا يفيد المطلوب.
ترون في كتب العربية أن العرب كانوا مسددين في النطق، يتكلمون بما يوافق القواعد قبل أن توضع، أتحسبون أن ذلك كان طبيعيا لهم؟ كلا، وإنما هي ملكة مكتسبة بالسماع والمحاكاة ولذلك صار أبناء العرب اشد عجمة من العجم عندما اختلطوا بهم، ولو كان طبيعيا ذاتيا لما فقدوه في مدة خمسين سنة بعد الهجرة.
ثالثها: علم أحوال البشر، فقد انزل الله هذا الكتاب وجعله آخرون الكتب، وبين فيه ما لم يبين في غيره، بين فيه كثيرا من أحوال الخلق وطبائعهم، والسنن الإلهية في البشر، وقصد علينا أحسن القصص عن الأمم وسيرها والموافقة لسنته فيها، فلابد للناظر في هذا الكتاب من النظر في أحوال البشر في أطوارهم وأدوارهم، ومناشئ اختلاف أحوالهم من قوة وضعف، وعز وذل، وعلم وجهل، وإيمان وكفر، ومن العلم بأحوال العالم الكبير، علوية وسفلية، ويحتاج هذا إلى فنون كثيرة من أهمها التاريخ بأنواعه.
قال الأستاذ الإمام: أنا لا أعقل كيف يمكن لأحد أن يفسر قوله تعالى: } كان الناس امة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين { (1).. الآية، وهو لا يعرف أحوال البشر، وكيف اتحدوا، وكيف تفرقوا، وما معنى تلك الوحدة التي كانوا عليها، هل كانت نافعة أو ضارة، وماذا كان من آثار بعثة النبيين فيهم.
أجمل القرآن الكلام عن الأمم وعن السنن الإلهية، وعن آياته في السموات والأرض، وفي الآفاق والأنفس، وهو إجمال صادر عمن أحاط بكل شئ علما، وأمرنا بالنظر والتفكر، والسير في الأرض لنفهم إجماله بالتفصيل الذي يزيدنا ارتقاء وكمالا، ولو اكتفينا من علم أكون بنظرة في ظاهره، لكنا كن يعتبر الكتاب بلون جلده، لا بما حواه من علم وحكمة.
رابعها: العلم بوجه هداية البشر كلهم بالقرآن، فيجب على المفسر القائم بهذا الفرض الكفائي، أن يعلم ما كان عليه الناس في عصر النبوة من العرب وغيرهم، لآن القرآن ينادي بأن الناس كلهم كانوا في شقاء وضلال، وان النبي r بعث به لهدايتهم وإسعادهم، وكيف يفهم المفسر ما قبحته الآيات من عوائدهم على وجه الحقيقة أو ما يقرب منها، إذا لم يكن عارفا بأحوالهم وما كانوا عليه؟
هي يكتفي من علماء القرآن ـ دعاة الدين والمناضلين عنه بالتقليد ـ بأن يقولوا تقليدا لغيرهم: أن الناس كانوا على باطل، وان القرآن دحض أباطيلهم في الجملة؟ كلا.
وأقول الآن: يروى عن عمر t أنه قال: إن جهل الناس بأحوال الجاهلية هو الذي يخشى أن ينقض عرى الإسلام عروة عروة. بالمعنى، والمراد: إن من نشأ في الإسلام ولم يعرف حال الناس قبله، يجهل تأثير هدايته، وعناية الله بجعله مغيرا لأحوال البشر، ومخرجا لهم من الظلمات إلى النور، ومن جهل هذا يظن أن الإسلام أمر عادي، كما ترى بعض الذين يتربون في النظافة والنعيم يعدون التشديد في الأمر بالنظافة والسواك من قبيل اللغو، لأنه من ضروريات الحياة عندهم، ولو اختبروا غيرهم من طبقات الناس لعرفوا الحكمة في تلك الأوامر، وتأثير تلك الآداب من أين جاء ؟
خامسها: العلم بسيرة النبي r وأصحابه، وما كانوا عليه من علم وعمل، وتصرف في الشئون دنيويها وأخرويها(1).
هذه هي عبارة الأستاذ الشيخ رشيد رضا بنصها، وفيها تركيز وإدماج لبعض ما قلناه من قبل، وفيها شرح وإيضاح لبعض آخر منه، وهي تلقي ضوءا على ما تقدم وتوضح بعض ما فيه من إيجاز.
* * *
· مصـادر التفسـير:
خرجنا من المعركة التي قامت بين المتحرجين من القول في التفسير بالرأي والمجيزين له ((بأن الخلاف لفظي لا حقيقي، وأسفرت النتيجة عن انقسام التفسير بالرأي إلى قسمين: قسم جائز ممدوح، وقسم حرام مذموم، وعرفنا العلوم التي يجب على المفسر معرفتها حتى يكون أهلاً للتفسير بالرأي الجائز، وبقى علينا بعد ذلك أن نذكر المصادر التي يجب على المفسر أن يرجع إليها عند شرحه للقرآن، حتى يكون تفسيره جائزا ومقبولا، وإليك أهم هذه المصادر:
أولا: الرجوع إلى القرآن نفسه: وذلك بأن ينظر في القرآن نظرة فاحص مدقق، ويجمع الآيات التي في موضوع واحد، ثم يقارن بعضها ببعضها الآخر، فان من الآيات ما أجمل في مكان وفسر في مكان آخر، ومنها ما أوجز في موضع وبسط في موضع آخر، فيحمل المجمل على المفسر، ويشرح ما جاء موجزا بما جاء مسهبا مفصلا، وهذا هو ما يسمونه تفسير القرآن بالقرآن، فإن عدل عن هذا وفسر برأيه فقد اخطأ وقال برأيه المذموم.
ثانيا: النقل عن الرسول r، مع الاحتراز عن الضعيف والموضوع فأنه كثير، فإن وقع فيه تفسير صحيح عن رسول الله r فليس له أن يعدل عنه ويقول برأيه، لأن النبي r مؤيد من ربه، وموكول إليه أن يبين للناس ما نزل إليهم، فمن يترك ما يصح عن النبي r في التفسير إلى رأيه فهو قائل بالرأي المذموم.
ثالثا: الأخذ بما صح عن الصحابة في التفسير، ولا يغتر بكل ما ينسب لهم من ذلك، لأن في التفسير كثيرا مما وضع على الصحابة كذبا واختلاقا، فان وقع على قول صحيح لصحابي في التفسير، فليس له أن يهجره ويقول بريه، لأنهم اعلم بكتاب الله ، وأدرى بأسرار التنزيل، لما شاهدوه من القرائن والأحوال، ولما اختصوا به من الفهم التام والعلم الصحيح لاسيما علماؤهم وكبراؤهم، كالأئمة الأربعة: الخلفاء الراشدين، وأبي بن كعب، وابن مسعود، وابن عباس وغيرهم، وقد سبق لنا أن عرضنا لقول الصحابي، هل له حكم المرفوع أولا، واستوفينا الكلام في ذلك بما يغني عن إعادته هنا.
ثم هل للمفسر أن يعدل عن أقوال التابعين في التفسير، أو لابد له من الرجوع إلى أقوالهم؟ خلاف سبق لنا أن عرضنا له أيضا فلا داعي لإعادته.
رابعا: الأخذ بمطلق اللغة، لأن القرآن نزل بلسان عربي مبين، ولكن على المفسر أن يحترز من صرف الآية عن ظاهرها إلى معان خارجة محتملة، يدل عليها القليل من كلام العرب، ولا توجد غالبا إلا في الشعر ونحوه، ويكون المتبادر خلافها روي البيهقي في الشعب عن مالك t أنه قال: ((لا أوتي برجل غير عالم بلغة العرب يفسر كتاب الله إلا جعلته نكالا)).
خامسا: التفسير بالمقتضى من معنى الكلام والمقتضب من قوة الشرع، وهذا هو الذي دعا به النبي r لابن عباس حيث قال: ((اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل)) والذي عناه على t بقوله ـ حين سئل: هل عندكم عن رسول الله r شئ بعد القرآن؟ ـ فقال: لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا فهم يؤتيه الله عز وجله في القرآن.
ومن هنا اختلف الصحابة في فهم بعض آيات القرآن، فأخذ كل بما وصل إليه عقله، وأداه إليه نظرة.
· الأمور التي يجب على المفسر أن يتجنبها في تفسيره:
هناك أمور يجب على المفسر أن يتجنبها في تفسيره حتى لا يقع في الخطأ ويكون ممن قال في القرآن برأيه الفاسد، وهذه الأمور هي ما يأتي:
أولا: التهجم على بيان مراد الله تعالى من كلامه مع الجهالة بقوانين اللغة وأصول الشريعة، وبدون أن يحصل العلوم التي يجوز معها التفسير.
ثانيا: الخوض فيما استأثر الله بعلمه، وذلك كالمتشابه الذي لا يعلمه إلا الله فليس للمفسر أن يتهجم على الغيب بعد أن جعله الله تعالى سرا من أسراره وحجبه عن عباده.
ثالثا: السير مع الهوى والاستحسان، فلا يفسر بهواه ولا يرجح باستحسانه.
رابعا: التفسير المقرر للمذهب الفاسد، بأن يجعل المذهب أصلا والتفسير تابعا، فيحتال في التأويل حتى يصرفه إلى عقيدته، ويرده إلى مذهبه بأي طريق أمكن، وإن كان غاية في البعد والغرابة.
خامسا: التفسير مع القطع بأن مراد الله كذا وكذا من غير دليل، وهذا منهي عنه شرعا، لقوله تعالى في الآية (169) من سورة البقرة: } وأن تقولوا على الله مالا تعلمون {..
وإذ قد بينا أن المفسر لا يجوز له أن يتهجم على تفسير ما استأثر الله تعالى بعلمه وحجبه عن خلقه، وبينا أنه لا يجوز له أن يقطع بأن مراد الله كذا وكذا من غير دليل، لزم علينا أن بين أنواع العلوم التي اشتمل عليها القرآن ما يمكن معرفته منها وما لا يمكن، فنقول:
أنواع علوم القرآن
تتنوع علوم القرآن إلى أنواع ثلاثة، وهي ما يأتي:
النوع الأول: علم لم يلطع الله عليه أحدا من خلقه، وهو ما أستأثر به من علوم أسرار كتابه، من معرفة كنه ذاته وغيوبه التي لا يعلمها إلا هو، وهذا النوع لا يجوز لأحد الخوض فيه والتهجم عليه بوجه من الوجوه إجماعا.
النوع الثاني: ما اطلع الله عليه نبيه r من أسرار الكتاب واختصه به، وهذا لا يجوز الكلام فيه إلا له r أو لمن أذن له: قيل: ومنه الحروف المقطعة في أوائل السور، ومن العلماء من يجعلها من النوع الأول.
النوع الثالث: علوم علمها الله نبيه مما أودع في كتابه من المعاني الجلية والخفية وأمره بتعليمها وهذا النوع قسمان:
قسم: لا يجوز الكلام فيه إلا بطريق السمع، وذلك كأسباب النزول، والناسخ والمنسوخ والقراءات، واللغات، وقصص الأمم الماضية، وأخبار ما هو كائن من الحوادث، وأمور الحشر والمعاد.
وقسم : يؤخذ بطريق النظر، والاستدلال والاستنباط والاستخراج من العبارات والألفاظ وهو ينقسم إلى قسمين: "احدهما": اختلفوا في جوازه، وهو تأويل الآيات المتشابهات في الصفات، "وثانيهما": اتفقوا على جوازه، وهو استنباط الأحكام الأصلية والفرعية، والمواعظ والحكم والإشارات وما شاكل ذلك من كل ما لا يمتنع استنباطه من القرآن واستخراجه منه لمن كان أهلا لذلك.
* * *
· المنهج الذي يجب على المفسر أن ينهجه في تفسيره:
علمنا مما سبق: أن المفسر برأيه لا بد أن يلمه بكل العلوم التي هي وسائل لفهم كتاب الله، وأدوات للكشف عن أسراره كما علمنا مما سبق أيضا: أن المفسر لابد أن يطلب المعنى أولا من كتاب الله، فإن لم يجده طلبه من السنة، لأنها شارحة للقرآن وموضحة له، فإن أعجزه ذلك رجع إلى أقوال الصحابة، لأنهم أدرى بكتاب الله واعلم بمعانيه، لما اختصوا به من الفهم التام، والعلم الصحيح، والعمل الصالح، ولاحتمال أن يكونوا سمعوه من الرسول r، فإن عجز عن هذا كله، ولم يظفر بشئ من تلك المراجع الأولى للتفسير، فليس عليه بعد ذلك إلا أن يعمل عقله، ويقدح فكره، ويجتهد وسعه في الكشف عن مراد الله تعالى، مستندا إلى الأصول التي تقدمت، مبتعدا عن كل ما ذكرنا من الأمور التي تجعل المفسر في عداد المفسرين بالرأي المذموم، وعليه بعد ذلك أن ينهج في تفسيره منهجا يراعي فيه القواعد الآتية، بحيث لا يحيد عنها، ولا يخرج عن نطاقها وهذه القواعد هي ما يأتي:
أولا: مطابقة التفسير للمفسر، من غير نقص لما يحتاج إليه في إيضاح المعنى، ولا زيادة لا تليق بالغرض ولا تناسب المقام، مع الاحتراز من كون التفسير فيه زيغ عن المعنى وعدول عن المراد.
ثانيا: مراعاة المعنى الحقيقي والمعنى المجازي، فلعل المراد المجازي فيحمل الكلام على الحقيقة أو العكس.
ثالثا: مراعاة التأليف والغرض الذي سيق له الكلام، والمؤاخاة بين المفردات.
رابعا: مراعاة التناسب بين الآيات، فيبين وجه المناسبة، ويربط بين السابق واللاحق من آيات القرآن، حتى يوضح أن القرآن لا تفكك فيه، وإنما هو آيات متناسبة يأخذ بعضها بحجز بعض.
خامسا: ملاحظة أسباب النزول، فكل آية نزلت على سبب فلابد من ذكره به بيان المناسبة وقبل الدخول في شرح الآية، وقد ذكر السيوطي في الإتقان أن الزركشي قال في أوائل البرهان ((قد جرت عادة المفسرين أن يبدأوا بذكر سبب النزول، ووقع البحث في أنه: أيهما أولى بالبداءة ؟ أيبدأ بذكر السبب، أو بالمناسبة لأنها المصححة لنظم الكلام، وهي سابقة على النزول؟ قال: والتحقيق التفصيلي بين أن يكون وجه المناسبة متوقفا على سبب النزول كآية: } إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها {(1) .. فهذا ينبغي فيه تقديم ذكر السبب، لأنه حينئذ من باب تقديم الوسائل على المقاصد، وان لم يتوقف على ذلك فالأولى تقديم وجه المناسبة))(2)
سادسا: بعد الفراغ من ذكر المناسبة وسبب النزول يبدأ بما يتعلق بالألفاظ المفردة، من اللغة والصرف، والاشتقاق، ثم يتكلم عليها بحسب التركيب، فيبدأ، بالإعراب، ثم بما يتعلق بالمعاني، ثم البيان، ثم البديع، ثم يبين المعنى المراد، ثم يستنبط ما يمن استنباطه من الآية في حدود القوانين الشرعية.
سابعا: على المفسران يتجنب ادعاء التكرار في القرآن ما أمكن.
نقل السيوطي عن بعض العلماء أنه قال: ((مما يدفع توهم التكرار في عطف المترادفين نحو } لا تبقى ولا تذر{(3) .. } صلوات من ربهم ورحمة { (4).. وأشبه ذلك ، أن يعتقد أن مجموع المترادفين يحصل معنى لا يوجد انفراد احدهما، فإن التركيب يحدث معنى زائدا، وإذا كانت كثرة الحروف تفيد زيادة المعنى ، فكذلك كثرة الألفاظ))(5).
وعلى المفسر أيضا أن يتجنب كل ما يعتبر من قبيل الحشو في التفسير كالخوض في ذكر علل النحو، ودلائل مسائل أصول الفقه، ودلائل مسائل الفقه، ودلائل مسائل أصول الدين، فإن كل ذلك مقرر في تأليف هذه العلوم، وإنما يؤخذ ذلك مسلما في علم التفسير دون استدلال عليه.
وكذلك على المفسر أن يتجنب ذكر ما لا يصح من أسباب النزول وأحاديث الفضائل، والقصص الموضوع، والأخبار الإسرائيلية، فإن هذا مما يذهب بجمال القرآن، ويشغل الناس عن التدبر والاعتبار.
ثامنا: على المفسر بعد كل هذا أن يكون يقظا، عليما بقانون الترجيح، حتى إذا ما كانت الآية محتملة لأكثر من وجه أمكنة أن يرجح ويختار.
وإذا كان المفسر لابد له من أن يحتكم إلى قانون الترجيح عندما تحتمل الآية أكثر من وجه فإنا في حاجة إلى بيان هذا القانون، الذي هو الحكم الفصل عند تزاحم الوجوه وكثرة الاحتمالات، فنقول:
قانون الترجيح في الرأي
أجمع كلمة قيلت في بيان هذا القانون، هي الكلمة التي نقلها لنا السيوطي في كتابه الإتقان عن البرهان للزركشي، ونرى أن نسوقها هنا نقلا عن الإتقان، ونكتفي بذلك لما فيها من الكفاية:
قال الزركشي رحمه الله تعالى: ((كل لفظ احتمل معنيين فصاعدا هو الذي لا يجوز لغير العلماء الاجتهاد فيه، وعليهم اعتماد الشواهد والدلائل دون مجرد الرأي، فإن كان احد المعنيين اظهر، وجب الحمل عليه، إلا أن يقوم الدليل على أن المراد هو الخفي.
وإن استويا، والاستعمال فيهما حقيقة، لكن في احدهما حقيقة لغوية أو عرفية، وفي الآخر شرعية، فالحمل على الشرعية أولى، إلا أن يدل دليل على أرادة اللغوية، كمال في : } وصل عليهم ، إن صلاتك سكن لهم { (1)... ولو كان في أحدهما عرفية، والآخر لغوية، فالحمل على العرفية أولى وان اتفقا في ذلك أيضا، فإن تنافي اجتماعهما ولم يمكن أرادتهما باللفظ الواحد، كالقرء للحيض والطهر، اجتهد في المراد منهما بالأمارات الدالة عليه، فما ظنه فهو مراد الله تعالى في حقه، وإن لم يظهر له شئ فهو يتخير في الحمل على أيهما شاء؟ أو يأخذ بالأغلظ حكما؟ أو بالأخف؟ أقوال، وان لم يتنافيا وجب الحمل عليهما عند المحققين ويكون ذلك ابلغ في الإعجاز والفصاحة إلا إن دل على أرادة احدهما.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
صانع المعروف
صانع المعروف


عدد المساهمات : 179
نقاط : 23882
تاريخ التسجيل : 25/06/2011

الكتاب الاسطورة مناهج المفسرين  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الكتاب الاسطورة مناهج المفسرين    الكتاب الاسطورة مناهج المفسرين  I_icon_minitimeالسبت أغسطس 13, 2011 2:20 pm

· منشأ الخطأ في التفسير بالرأي:
يقع الخطأ كثيرا في التفسير من بعض المتصدرين للتفسير بالرأي، الذين عدلوا عن مذاهب الصحابة والتابعين وفسروا بمجرد الرأي والهوى غير مستندين إلى تلك الأصول التي قدمنا أنها أول شئ يجب على المفسر أن يعتمد عليه ولا متذرعين بتلك العلوم التي هي في الواقع أدوات لفهم كتاب الله والكشف عن أسراره ومعانيه.
ونرى هنا أن نذكر منشأ هذا الخطأ الذي وقع فيه كثير من طوائف المفسرين فنقول:
يرجع الخطأ في التفسير بالرأي غالبا، إلى جهتين حدثتا بعد تفسير الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان فان الكتب التي يذكر فيها كلام هؤلاء صرفا غير ممزوج بغيره، كتفسير عبد الرزاق وعبد بن حميد، وغيرهما، لا يكاد يوجد فيها شئ من هاتين الجهتين، بخلاف الكتب التي جدت بعد ذلك فإن كثيرا منها، كتفاسير المعتزلة والشيعة مليئة بأخطاء لا تغتفر حملهم على ارتكابها نصرة المذهب والدفاع عن العقيدة.
أما هاتان الجهتان اللتان يرجع إليهما الخطأ في الغالب فهما ما يأتي:
الجهة الأولى: أن يعتقد المفسر معنى من المعاني، ثم يريد أن يحمل ألفاظ القرآن على ذلك المعنى الذي يعتقده.
الجهة الثانية: أن يفسر معنى القرآن بمجرد ما يسوغ أن يريده بكلامه من كان من الناطقين بلغة العرب، وذلك بدون نظر إلى المتكلم بالقرآن، والمنزل عليه، والمخاطب به.
فالجهة الأولى مراعى فيها المعنى الذي يعتقده المفسر من غير نظر إلى ما تستحقه ألفاظ القرآن من الدلالة والبيان.
والجهة الثانية: مراعى فيها مجرد اللفظ وما يجوز أن يريد به العربي، من غير نظر إلى ما يصلح للمتكلم به والمخاطب، وسياق الكلام.
ثم إن الخطأ الذي يرجع إلى الجهة الأولى يقع على أربع صور:
الصورة الأولى: أن يكون المعنى الذي يريد المفسر نفيه أو إثباته صوابا، فمراعاة لهذا المعنى يحمل عليه لفظ القرآن، مع أنه لا يدل عليه ولا يراد منه، وهو مع ذلك لا ينفي المعنى الظاهر المراد، وعلى هذا يكون الخطأ واقعا في الدليل لا في المدلول، وهذه الصورة تنطبق على كثير من تفاسير الصوفية والوعاظ الذين يفسرون القرآن بمعان صحيحة في ذاتها ولكنها غير مرادة، ومع ذلك فهم يقولون بظاهر المعنى، وذلك مثل كثير مما ذكره غير مراده ، ومع ذلك فهم يقولون بظاهر المعنى، وذلك مثل كثير مما ذكره أبو عبد الرحمن السلمي في حقائق التفسير، فمثلا عندما عرض لقوله تعالى في الآية: (66) من سورة النساء: } ولو إنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم {.. الآية، نجده يقول ما نصه: اقتلوا أنفسكم بمخالفة هواها، أو اخرجوا من دياركم أي اخرجوا حب الدنيا من قلوبكم .. الخ.(1)
الصورة الثانية: أن يكون المعنى الذي يريد نفيه أو إثباته صوابا فمراعاة لها المعنى يسلب لفظ القرآن ما يدل عليه ويراد به، ويحمله على ما يريده هو، وعلى هذا يكون الخطأ واقعا في الدليل لا في المدلول أيضا، وهذه الصورة تنطبق على تفاسير بعض المتصوفة الذين يفسرون القرآن بمعان أشارية صحيحة في حد ذاتها، ومع ذلك فأنهم يقولون: إن المعاني الظاهرة غير مرادة، وتفسير هؤلاء اقرب ما يكون إلى تفسير الباطنية، ومن ذلك ما فسر به سهل التستري قوله تعالى في الآية (35) من سورة البقرة: } ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين { .. حيث يقول ما نصه: لم يرد الله معنى الأكل في الحقيقة، وإنما أراد معنى مساكنة الهمة لشئ هو غيره الخ(2).
الصورة الثالثة: أن يكون المعنى الذي يريد المفسر نفيه أو إثباته خطأ، فمراعاة لهذا المعنى يحمل عليه لفظ القرآن، مع أنه لا يدل عليه ولا يراد منه، وهو مع ذلك لا ينفي الظاهر المراد، وعلى هذا يكون الخطأ واقعا في الدليل والمدلول معا، وهذه الصورة تنطبق على ما ذكره بعض المتصوفة من المعاني الباطلة، وذلك كالتفسير المبنى على القول بوحدة الوجود، كما جاء في التفسير المنسوب لابن عربي عندما عرض لقوله تعالى في الآية: (Cool من سورة المزمل: } واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا { .. من قوله في تفسيرها: واذكر اسم ربك الذي هو أنت، أي اعرف نفسك ولا تنسها فينسك الله ..الخ(3).
الصورة الرابعة: أن يكون المعنى الذي يريد المفسر نفيه أو إثباته خطأ، فمراعاة لهذا المعنى يسلب لفظ القرآن ما يدل عليه ويراد به، ويحمله على ذلك الخطأ دون الظاهر المراد، وعلى هذا يكون الخطأ في الدليل والمدلول معا، وهذه الصورة تنطبق على تفاسير أهل البدع، والمذاهب الباطلة، فتارة يلوون لفظ القرآن عن ظاهره المراد إلى معنى ليس في اللفظ أي دلالة عليه، كتفسير بعض غلاة الشيعة الجبت والطاغوت بأبي بكر وعمر، وتارة يحتالون على صرف اللفظ عن ظاهره إلى معنى فيه نكلف غير مقبول، وذلك إذا أحسوا أن اللفظ القرآني يصادم مذهبهم الباطل، كما فعل بعض المعتزلة ففسر لفظ ((إلى)) في قوله تعالى في الآيتين "22،23" من سورة القيامة: } وجوه يومئذ ناضرة، إلى ربها ناظرة { .. بالنعمة، ذهابا منهم إلى أن "إلى" واحد الآلاء، بمعنى النعم، فيكون المعنى: ناظرة نعمة ربها، على التقديم والتأخير، وذلك كله ليصرف الآية عما تدل عليه من رؤية الله في الآخرة.
وأما الخطأ الذي يرجع إلى الجهة الثانية فهو يقع على صورتين.
الصورة الأولى: أن يكون اللفظ محتملا للمعنى الذي ذكره المفسر لغة، ولكنه غير مراد، وذلك كاللفظ الذي يطلق في اللغة على معنيين أو أكثر، والمراد منه واحد بعينه، فيأتي المفسر فيحمله على معنى آخر من معانيه غير المعنى المراد، وذلك كلفظ ((امة)) فأنه يطلق على معان، منها: الجماعة، والطريقة المسلوكة في الدين، والرجل الجامع لصفات الخير، فحمله على غير معنى الطريقة المسلوكة في الدين في قوله تعالى في الآية "22" من سورة الزخرف: } إنا وجدنا آباءنا على امة { .. غير صحيح وإن احتمله اللفظ لغة.
الصورة الثانية : أن يكون اللفظ موضوعا لمعنى بعينه، ولكنه غير مراد في الآية، وإنما المراد بمعنى آخر غير ما وضع له اللفظ بقرينة السياق مثلا، فيخطئ المفسر في تعيين المعنى المراد، لأنه اكتفى بظاهر اللغة ، فشرح اللفظ على معناه الوضعي، وذلك كتفسير لفظ ((مبصرة)) في قوله تعالى في الآية (59) من سورة الإسراء : } وآتينا ثمود الناقة مبصرة { .. بجعل مبصرة من الإبصار بالعين على أنها حال من الناقة، وهذا خلاف المراد، إذ المراد: آية واضحة.

* * *


· التعارض بين التفسير المأثور والتفسير بالرأي:
قلنا أن التفسير بالرأي قسمان: قسم مذموم غير مقبول، وقسم ممدوح ومقبول، أما القسم المذموم فلا يعقل وجود تعارض بينه وبين المأثور، لأنه ساقط من أول الأمر، وخارج عن محيط التفسير بمعناه الصحيح.
وأما التفسير بالرأي المحمود، فهذا هو الذي يعقل التعارض بينه وبين التفسير المأثور، وهذا هو الذي نريد أن نتكلم فيه ونعرض له بالبحث والبيان، غير أنه يتحتم علينا ـ ليكون الكلام على بصيرة ـ أن نعرض لبيان معنى هذا التعارض فنقول:
التعارض بين التفسير العقلي والتفسير المأثور معناه التقابل والتنافي بينهما وذلك بأن يدل احدهما على إثبات أمر مثلا، والآخر يدل على نفيه، بحيث لا يمكن اجتماعهما بحال من الأحوال، فكأن كلا منهما وقف في عرض الطريق فمنع الآخر من السير فيه، وأما إذا وجدت المغايرة بينهما بدون منافاة وأمكن الجمع، فلا يسمى ذلك تعارضا، وذلك كتفسيرهم ((الصراط المستقيم)) بالقرآن، وبالإسلام، وبطريق العبودية وبطاعة الله ورسوله، فهذه المعاني وان تغايرت غير متنافية ولا متناقضة لأن طريق الإسلام هو طريق القرآن وهو طريق العبودية وهو طاعة الله ورسوله ومثلا تفسيرهم لقوله تعالى: } فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات { (1).. قيل فيه: السابق هو الذي يصلي بعد فواته، وقيل: السابق من يؤدي الزكاة المفروضة مع الصدقة والمقتصد من يؤدي الزكاة المفروضة وحدها، والظالم لنفسه من يمنع الزكاة ولا يتصدق، وغير خاف أنه لا تنافي بين هذين التفسيرين وان تغايرا، لأن الظالم لنفسه يتناول المضيع للواجبات والمنتهك للحرمات، والمقتصد يتناول فاعل الواجبات وتارك المحرمات، والسابق يتناول من يفعل الواجبات ويتقرب بعد ذلك بزيادة الحسنات، فكل ذكر فردا العام على سبيل التمثيل لا الحصر.
هذا وإن الصور العقلية التي يحصل فيها التعارض بين التفسير العقلي والتفسير النقلي هي ما يأتي:
أولا: أن يكون العقلي قطعيا والنقلي قطعيا كذلك.
ثانيا: أن يكون احدهما قطعيا والآخر ظنيا.
ثالثا: أن يكون احدهما ظنيا والآخر ظنيا كذلك.
أما الصورة الأولى، ففرضية، لأنه لا يعقل تعارض بين قطعي وقطعي، ومن المحال أن يتناقض الشرع مع العقل.
وأما الصورة الثانية: فالقطعي منهما مقدم على الظني إذا تعذر الجمع ولم يمكن التوفيق، أخذا بالأرجح وعملا بالأقوى.
وأما الصورة الثالثة: فإن أمكن الجمع بين العقلي والنقلي وجب حمل النظم الكريم عليهما، وان تعذر الجمع، قدم التفسير المأثور عن النبي r إن ثبت من طريق صحيح، وكذا يقدم ما صح عن الصحابة لأن ما يصح نسبته إلى الصحابة في التفسير، النفس إليه أميل، لاحتمال سمعاه من الرسول r، ولما امتازوا به من الفهم الصحيح والعمل الصالح ولما اختصوا به من مشاهدة التنزيل.
وأما ما يؤثر عن التابعين ففيه التفصيل، وذلك أما أن يكون التابعي معروفا بالأخذ عن أهل الكتاب أو لا. فإن عرف بالأخذ عن أهل الكتاب قدم التفسير العقلي، وإن لم يعرف بالأخذ عن أهل الكتاب وتعارض ما جاء عنه مع التفسير العقلي ـ كما هو الفرض ـ فحينئذ نلجأ إلى الترجيح فإن تأيد احدهما بسمع أو استدلال رجحناه على الأخر، وإن اشتبهت القرائن، وتعارضت الأدلة والشواهد، توقفنا في الأمر، فنؤمن بمراد الله تعالى، ولا نتهجم على تعيينه، وينزل ذلك منزلة المجمل قبل تفصيله والمتشابه قبل تبيينه.
وبعد.. فهذا هو التفسير العقلي بقسميه وهذه هي نظرات العلماء إليه، وتلك هي حقيقة الخلاف، ثم هذه هي البحوث التي تتعلق به تعلقا قويا وتتصل به اتصالا وثيقا، وارى بعد ذلك أن أتكلم عن أهم كتب التفسير بالرأي الجائز وأشهرها، متعرضا لنبذة قصيرة عن كل مؤلف، تلقي لنا ضوءا على شخصيته الذاتية والعلمية، ملتزما بيان المسلك الذي سلكه كل منهم في تفسيره، وطريقته التي جرى عليها وامتاز بها، بما يظهر لي من ذلك أثناء قراءتي في هذه الكتب، مستعينا في ذلك بما اظفر به من مقدمات قدم بها أصحاب هذه الكتب لكتبهم، ثم بعد الفراغ من ذلك يكون لنا كلام آخر عن موقف بعض الفرق من التفسير، وعن أشهر مؤلفاتهم فيه، وهي لا تكاد تخرج عن دائرة التفسير بالرأي المذموم.
* * *


الفصل الثالث
أهم كتب التفسير بالرأي الجائز
· تمهيد:
ابتدأ عهد التدوين من قديم، وظفر التفسير بالتدوين كغيره من العلوم فألفت فيه كتب اختلفت في منهجها حسب اختلاف مشارب مؤلفيها، وظفرت هذه الناحية من التفسير ـ ناحية التفسير بالرأي الجائز ـ بكثرة زاخرة من الكتب المؤلفة، كثرة تضخمت على مر العصور وكر الدهور، ففي كل عصر يجد جديد من الكتب المؤلفة في التفسير بالرأي الجائز، ثم تنضم إلى ما سبق من ذلك، حتى ازدحمت بها المكتبة الإسلامية على اتساعها وطول عهدها.
ولكن هل احتفظت لنا المكتبة الإسلامية بكل هذه الكتب؟ أو عفى رسمها وذهب أثرها؟ لا ..لا هذا، ولا ذاك، بل احتفظت لنا ببعضها، وذهب بعضها الآخر بتقادم الزمن عليه، ومع هذا، فإن القصور المكتبي، حال بيننا وبين الاطلاع على جميع ما خلفته لنا المكتبة الإسلامية العامة.. لهذا ولعدم القدرة على الاطلاع على كل ما يوجد من هذه الكتب واستيعابه بالبحث والدراسة، اكتفى بأن أتعرض لبعض هذه الكتب على ضوء المنهج الذي بينته، ولعل في ذلك غنى عن بعضها الآخر، الذي حال بيني وبينه القصور المكتبي تارة، والقصور الزمني تارة أخرى.
هذا، ولا يفوتني أن أنبه إلى أن هذه الكتب التي وقع عليها اختياري يتجه كل منها إلى اتجاه معين، وتغب عليه ناحية خاصة من نواحي التفسير وألوانه، فمنها ما تغلب عليه الصناعة النحوية ومنها ما تغلب عليه النزعة الفلسفية والكلامية، ومنها ما تطغى فيه الناحية القصصية والإسرائيلية، ومنها غير ذلك، ولكن الجميع ينضم تحت شئ واحد هو التفسير بالرأي الجائز، فلا على أذن إن كنت قد جمعت بين هذه الكتب المختلفة المنازع والاتجاهات، وهذا أمر اعتباري لا اقل ولا أكثر.


أما هذه الكتب التي وقع عليها اختياري، فهي ما يأتي:
1. مفاتيح الغيب : للفخر الرازي
2. أنوار التنزيل وأسرار التأويل : للبيضاوي
3. مدارك التنزيل وحقائق التأويل : للنسفي
4. لباب التأويل في معاني التنزيل : للخازن
5. البحر المحيط : لأبي حيان.
6. غرائب القرآن ورغائب الفرقان : للنيسابوري
7. تفسير الجلالين : للجلال المحلي، والجلال السيوطي.
8. السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير. : للخطيب الشربيني
9. إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم : لأبي السعود.
10. روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني :للآلوسي.
هذه هي الكتب التي وقع عليها اختياري، وسأتكلم عنها على حسب هذا الترتيب، فأقول وباله التوفيق:



1- مفاتيح الغيب - للرازي
· التعريف بمؤلف هذا التفسير:
مؤلف هذا التفسير، هو أبو عبدالله ، محمد بن عمر بن الحسين ابن الحسن بن علي، التميمي، البكري، الطبرستاني، الرازي، الملقب بفخر الدين، والمعروف بابن الخطيب الشافعي، المولود سنة 544هـ (أربع وأربعين وخمسمائة من الهجرة). كان رحمه الله فريد عصره ومتكلم زمانه جمع كثيرا من العلوم ونبغ فيها ، فكان إماما في التفسير والكلام والعلوم العقلية وعلوم اللغة ولقد اكسبه نبوغه العلمي شهرة عظيمة، فكان العلماء يقصدونه من البلاد، ويشدون إليه الرحال من مختلف الأقطار، وقد اخذ العلم عن والده ضياء الدين المعروف بخطيب الري، وعن الكمال السمعاني، والمجد الجيلي، وكثير من العلماء الذين عاصرهم ولقيهم، وله فوق شهرته العلمية شهرة كبيرة في الوعظ، حتى قيل أنه كان يعظ باللسان العربي واللسان العجمي، وكان يلحقه الوجد في حال الوعظ ويكثر البكاء، ولقد خلف ـ رحمه الله ـ للناس مجموعة كبيرة من تصانيفه في الفنون المختلفة وقد انتشرت هذه التصانيف في البلاد ورزق فيها الحظوة الواسعة، السعادة العظيمة، إذ أن الناس اشتغلوا بها واعرضوا عن كتب المتقدمين ومن أهم هذه المصنفات: تفسيره الكبير، المسمى بمفاتيح الغيب، وهو ما نحن بصدده الآن وله تفسير سورة الفاتحة في مجلد واحد، ولعله هو الموجود بأول تفسيره ((مفاتيح الغيب)) وله في علم الكلام : المطالب العالية، وكتاب البيان والبرهان في الرد على أهل الزيغ والطغيان، وله في أصول الفقه: المحصول، وفي الحكمة: الملخص، وشرح الإشارات لابن سينا، وشرح عيون الحكمة، وفي الطلسمات: السر المكنون، ويقال أنه شرح المفصل في النحو للزمخشري، وشرح الوجيز في الفقه للغزالي ..وغير هذا كثير من مصنفاته، التي يتجلى فيها علم الرجل الواسع الغزير.
هذا، وقد كانت وفاة الرازي ـ رحمه الله ـ سنة 606هـ (ست وستمائة من الهجرة) بالري، ويقال في سبب وفاته: أنه كان بينه وبين الكرامية خلال كبير وجدل في أمور العقيدة، فكان ينال منهم وينالون منه سبا وتكفيرا وأخيرا سموه فمات على إثر ذلك واستراحوا منه(1).


· التعريف بهذا التفسير وطريقة مؤلفه فيه:
يقع هذا التفسير في ثماني مجلدات كبار، وهو مطبوع ومتداول بين أهل العلم ويقول ابن قاضي شهبة: أنه ـ أي الفخر الرازي ـ لم يتمه(1) كما يقول ذلك ابن خلكان في وفيات الأعيان(2)، إذن فمن الذي أكمل هذا التفسير؟ وإلى أي موضع من القرآن وصل الفخر الرازي في تفسيره؟
الحق أن هذه مشكلة لم نوفق إلى حلقها حلا حاسما، لتضارب أقوال العلماء في هذا الموضوع، فابن حجر العسقلاني في كتابه الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة، يقول: ((الذي أكمل تفسير فخر الدين الرازي هو احمد بن محمد بن أبي الحزم مكي نجم الدين المخزومي القمولي مات سنة 727هـ (سبع وعشرين وسبعمائة من الهجرة) وهو مصري))(3).
وصاحب كشف الظنون يقول: ((وصنف الشيخ نجم الدين احمد بن محمد القوملي تكملة له وتوفى سنة 727هـ وقاضي القضاة شهاب الدين بن خليل الخويي الدمشقي، كمل ما نقص منه أيضا، وتوفى سنة 639هـ (تسع وثلاثين وستمائة))(4).
فأنت ترى أن ابن حجر يذكر أن الذي أتم تفسير الفخر هو نجم الدين القمولي، وصاحب كشف الظنون يجعل لشهاب الدين الخويي مشاركة على وجه ما في هذه التكملة، وان كانا يتفقان على أن الرازي لم يتم تفسيره.
وأما إلى أي موضع وصل الفخر في تفسيره؟ فهذه كالأولى أيضا ذلك لأنا وجدنا على هامش كشف الظنون ما نصه: ((الذي رأيته بخط السيد مرتضى نقلا عن شرح الشفا للشهاب، أنه وصل فيه إلى سورة الأنبياء))(5) أ هـ.
وقد وجدت في أثناء قراءتي في هذا التفسير عند قوله تعالى في الآية (24) من سورة الواقعة: } جزاءا بما كانوا يعملون { .. هذه العبارة ((المسألة الأولى أصولية، ذكرها الإمام فخر الدين رحمه الله في مواضع كثيرة، ونحن نذكر بعضها ..الخ))(6).
وهذه العبارة تدل على أن الإمام فخر الدين، لم يصل في تفسيره إلى هذه السورة.
كما وجدت عند تفسيره لقوله تعالى في الآية (6) من سورة المائدة: }
يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة { .. الآية أنه تعرض لموضوع النية في الوضوء، واستشهد على اشتراط النية فيه بقوله تعالى في الآية (5) من سورة البينة : } وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين {.. وبين أن الإخلاص عبارة عن النية، ثم قال : ((وقد حققنا الكلام في هذا الدليل في تفسير قوله تعالى : } وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين { فليرجع إليه في طلب زيادة الإتقان))(1) أ هـ وهذه العبارة تشعر بأن الفخر الرازي فسر سورة البينة، أي أنه وصل إليها في تفسيره، وهذا طبعا بحسب ظاهر العبارة المجرد عن كل شئ.
والذي استطيع أن أقوله كحل لهذا الاضطراب: هو أن الإمام فخر الدين كتب تفسيره هذا إلى سورة الأنبياء فأتى بعد شهاب الدين الخويي، فشرع في تكملة هذا التفسير ولكنه لم يتمه فأتى بعده نجم الدين القمولي فأكمل ما بقى منه، كما يجوز أن يكون الخويي أكمله إلى النهاية والقمولي كتب تكملة أخرى غير التي كتبها الخويي، وهذا هو الظاهر من عبارة صاحب كشف الظنون.
وأما إحالة الفخر على ما كتبه في سورة البينة، فهذا ليس بصريح في أنه وصل إليها في تفسيره إذ لعله كتب تفسيرا مستقلا لسورة البينة أو لهذه الآية وحدها فهو يشير إلى ما كتب فيها ويحيل عليه.
أقول هذا واعتقد أنه ليس حلا حاسما لهذا الاضطراب وإنما هو توفيق يقوم على الظن، والظن يخطئ ويصيب.
ثم أن القارئ في هذا التفسير، لا يكاد يلحظ فيه تفاوتا في المنهج والمسلك بل يجري الكتاب من أوله إلى أخره على نمط واحد، وطريقة واحدة، تجعل الناظر فيه لا يستطيع أن يميز بين الأصل والتكملة، ولا يتمكن من الوقوف على حقيقة المقدار الذي كتبه الفخر، والمقدار الذي كتبه صاحب التكملة.
هذا، وان تفسير الفخر الرازي ليحظى بشهرة واسعة بين العلماء ن وذلك لأنه يمتاز عن غيره من كتب التفسير، بالأبحاث الفياضة الواسعة، في نواح شتى من العلم ولهذا يصفه ابن خلكان فيقول: ((أنه ـ أي الفخر الرازي ـ جمع فيه كل غريب وغريبة))(2).
· اهتمام الفخر الرازي ببيان المناسبات بين آيات القرآن وسوره:
وقد قرأت في هذا التفسير، فوجدت أنه يمتاز بذكر المناسبات بين الآيات بعضها مع بعض، وبين السور بعضها مع بعض، وهو لا يكتفي بذكر مناسبة واحدة بل كثيرا ما يذكر أكثر من مناسبة.
* * *
· اهتمامه بالعلوم الرياضية والفلسفية:
كما أنه يكثر من الاستطراد إلى العلوم الرياضية والطبيعية، وغيرها من العلوم الحادثة في الملة، على ما كانت عليه في عهده، كالهيئة الفلكية وغيرها، كما أنه يعرض كثيرا لأقوال الفلاسفة بالرد والتفنيد، وان كان يصوغ أدلته في مباحث الإلهيات على نمط استدلالاتهم العقلية، ولكن بما يتفق ومذهب أهل السنة.
* * *
· موقفه من المعتزلة:
ثم أنه ـ كسني يرى ما يراه أهل السنة، ويعتقد بكل ما يقررونه من مسائل علم الكلام ـ لا يدع فرصة تمر دون أن يعرض لمذهب المعتزلة بذكر أقوالهم والرد عليها، ردا لا يراه البعض كافيا ولا شافيا.
فهذا هو الحافظ ابن حجر يقول عنه في لسان الميزان ((وكان يعاب بإيراد الشبهة الشديدة، ويقصر في حلها، حتى قال بعض المغاربة: ((يورد الشبه نقدا ويحلها نسيئة))(1) ا هـ ، وقال ابن حجر أيضا في لسان الميزان ورأيت في الإكسير في علم التفسير للنجم الطوفي ما ملخصه: ما رأيت في التفاسير اجمع لغالب علم التفسير من القرطبي، ومن تفسير الإمام فخر الدين إلا أنه كثير العيوب فحدثني شرف الدين النصيبي عن شيخه سراج الدين السرمياحي المغربي، أنه صنف كتاب المأخذ في مجلدين بين فيهما ما في تفسير الفخر من الزيف والبهرج، وكان ينقم عليه كثيرا ويقول: يورد شبه المخالفين في المذهب والدين على غاية ما يكون من التحقيق، ثم يورد شبه المخالفين في المذهب والدين على غاية ما يكون من التحقيق، ثم يورد مذهب أهل السنة والحق على غاية من الوهاء، قال الطوفي: ولعمري، إن هذا دأبه في كتبه الكلامية والحكمة، حتى اتهمه بعض الناس ولكنه خلاف ظاهر حاله، لأنه لو كان اختار قولا أو مذهبا ما كان عنده من يخاف منه حتى يستر عنه، ولعل سببه أنه كان يستفرغ أقوالا في تقرير دليل الخصم، فإذا انتهى إلى تقرير دليل نفسه لا يبقى عنده شئ من القوى ولا شك أن القوى النفسانية تابعة للقوى البدنية، وقد صرح في مقدمة نهاية العقول: أنه مقرر مذهبه خصمه تقريرا لو أراد خصمه تقريره لم يقدر على الزيادة على ذلك))(1) أ هـ.
* * *
· موقفه من علوم الفقه والأصول والنحو والبلاغة:
ثم إن الفخر الرازي لا يكاد يمر بآية من آيات الأحكام إلا ويذكر مذاهب الفقهاء فيها، مع ترويجه لمذهب الشافعي ـ الذي يقلده ـ بالأدلة والبراهين.
كذلك نجده يستطرد لذكر المسائل الأصولية، والمسائل النحوية، والبلاغية، وإن كان لا يتوسع في ذلك توسعة في مسائل العلوم الكونية والرياضية.
وبالجملة فالكتاب أشبه ما يكون بموسوعة في علم الكلام، وفي علوم الكون والطبيعة، إذ أن هذه الناحية، هي التي غلبت عليه حتى كادت تقلل من أهمية الكتاب كتفسير للقرآن الكريم.
ومن اجل ذلك قال صاحب كشف الظنون: ((إن الإمام فخر الدين الرازي ملأ تفسيره بأقوال الحكماء والفلاسفة، وخرج من شئ إلى شئ حتى يقضي الناظر العجب)) ونقل عن أبي حيان أنه قال في البحر المحيط : ((جمع الإمام الرازي في تفسيره أشياء كثيرة طويلة لا حاجة بها في علم التفسير، ولذلك قال بعض العلماء: فيه كل شئ إلا التفسير))(2).
ويظهر لنا أن الإمام فخر الدين الرازي كان مولعا بكثرة الاستنباطات والاستطرادات في تفسيره، ما دام يستطيع أن يجد صلة ما بين المستنبط أو المستطرد إليه وبين اللفظ القرآني، والذي يقرأ مقدمة تفسيره لا يسعه إلا أن يحكم على الفخر هذا الحكم، وذلك حيث يقول: ((اعلم أنه مر على لساني في بعض الأوقات، أن هذه السورة الكريمة ـ يريد الفاتحة ـ يمكن أن يستنبط من فوائده ونفائسها عشرة آلاف مسألة، فاستبعد هذا بعض الحساد، وقوم من أهل الجهل والغي والعناد، وحملوا ذلك على ما ألفوه من أنفسهم من التعلقات الفارغة عن المعنى، والكلمات الخالية عن تحقيق المعاقد والمباني، فلما شرعت في تصنيف هذا الكتاب قدمت هذه المقدمة، المعروف بداية قدس نفسه وروح رمسه، وطرف منها مما دار بخلدي وسمحت به ذات يدي غير جازم بأنه المراد من الآية ،بل خائف من أن يكون ذلك جرأة مني وخصوصا فيما لا يعنيني، وإنما شجعني على ذلك سائر الأئمة الذين اشتهروا بالذوق والوجدان وجمعوا بين العرفان والإيمان والإتقان في معنى القرآن الذي هو باب واسع يطمع في تصنيفه كل طامع، فإن أصبت فيها، وإن أخطأت فعلى الإمام ما سها، والعذر مقبول عند أهل الكرم والنهي، والله المستعان لنا ولهم في مظان الخلل والزلل، وعلى رحمته التكلان في محال الخطأ والخطل، فعلى المرء أن يبذل وسعه لإدراك الحق، ثم الله معين لإرادة الصواب. ومعين لإلهام الصدق.
وكذا الكلام في بيان الرباطات والمناسبات بين السور والآيات وفي أنواع التكريرات وأصناف المشتبهات فإن للخواطر والظنون فيها مجالا وللناس الأكياس في استنباط الوجوه والنسب هناك مقالا)) ثم مضى فقال: ((واني لم أمل في هذا الإملاء إلا إلى مذهب أهل السنة والجماعة فبينت أصولهم ووجوه استدلالاتهم بها وما ورد عليها من الاعتراضات والأجوبة عنها.
وأما في الفروع فذكرت استدلال كل طائفة بالآية على مذهبه، من غير تعصب ومراء وجدال وهراء)) ثم مضى فقال : ((ولقد وقفت لإتمام هذا الكتاب في مدة خلافة على t وكنا نقدر إتمامه في مدة خلافة الخلفاء الراشدين وهي ثلاثون سنة، ولو لم يكن ما أتفق في أثناء التفسير من وجود الأسفار الشاعسة وعدم الأسفار النافعة ومن غموم لا يعد عديدها، وهموم لا ينادي وليدها لكان يمكن إتمامه في مدة خلافة أبي بكر، كما وقع لجار الله العلامة))(1). أ هـ
هذا، وقد نوه صاحب روضات الجنات بمكانة هذا التفسير فقال: ((وتفسيره ـ يريد النيسابوري ـ من أحسن شروح كتاب الله المجيد، واجمعها للفوائد اللفظية والمعنوية وأحوزها للفوائد القشرية واللبية، وهو قريب من تفسير مجمع البيان كما وكيفا، وسمة وترتيبا، بزيادة أحكام الأوقاف في أوائل تفسير الآي، ومراتب التأويل في آخره، والإشارة إلى جملة من دقائق نكات العربية في البين))(2) ا هـ.
والكتاب مطبوع على هامش تفسير ابن جرير الطبري ومتداول بين أهل العلم.
* * *
7- تفسير الجلالين – لجلال الدين المحلي وجلال الدين السيوطي
· التعريف بمؤلفي هذا التفسير:
ألف هذا التفسير الإمامان الجليلان، جلال الدين المحلي، وجلال الدين السيوطي، أما جلال الدين السيوطي فقد سبق التعريف به عند الكلام عن تفسيره المسمى بالدر المنثور.
وأما جلال الدين المحلي، فهو جلال الدين محمد بن احمد بن محمد بن إبراهيم المحلي الشافعي، تفتازاني العرب، الإمام العلامة، قال في حسن المحاضرة: ((ولد بمصر سنة 791هـ (إحدى وتسعين وسبعمائة)، واشتغل وبرع في الفنون فقها، وكلاما، وأصولا، ونحوا ومنطقا، وغيرها وأخذ عن البدر محمود الاقصرائي، والبرهان البيجوري، والشمس البساطي، والعلاء البخاري، وغيرهم وكان علامة آية في الذكاء والفهم حتى كان بعض أهل عصره يقول فيه : إن ذهنه يثقب الماس، وكان هو يقول عن نفسه إن فهمه لا يقبل الخطأ ولم يك يقدر على الحفظ)).
وكان غرة عصره في سلوك طريق السلف على مبلغ عظيم من الصلاح والورع آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر وكانوا يأتون إليه فلا يلتفت إليهم ولا يأذن لهم في الدخول عليه وكان حديد الطبع لا يراعي أحدا في القول، وقد عرض عليه القضاء الأكبر فلم يقبله، وولى تدريس الفقه بالمؤيدية والبرقوقية، وسمع من جماعة، وكان مع هذا متقشفا في معيشته يتكسب بالتجارة، وقد ألف كتبا كثيرة تشد إليها الرحال وهي غاية في الاختصار، والتحرير والتنقيح، وسلامة العبارة وحسن المزج والحل، وقد اقبل الناس على مؤلفاته وتلقوها بالقبول، وتداولوها في دراساتهم، فمن مؤلفاته: شرح جمع الجوامع في الأصول وشرح المنهاج في فقه الشافعية وشرح الورقات في الأصول، ومنها هذا التفسير الذي نحن بصدده.
توفى رحمه الله في أول يوم من سنة 864هـ (أربع ستين وثمانمائة من الهجرة).
* * *


· التعريف بهذا التفسير وطريقة مؤلفيه فيه:
اشترك في هذا التفسير ـ كما قلنا ـ الإمامان الجليلان، جلال الدين المحلي، وجلال الدين السيوطي.
أما جلال الدين المحلي، فقد ابتدأ تفسيره من أول سورة الكهف إلى آخر سورة الناس، ثم ابتدأ بتفسير الفاتحة، وبعد أن أتمها اخترمته المنية فلم يفسر ما بعدها.
وأما جلال الدين السيوطي، فقد جاء بعد الجلال المحلي فكمل تفسيره، فابتدأ بتفسير سورة البقرة، وانتهى عند آخر سورة الإسراء، ووضع تفسير الفاتحة في آخر تفسير الجلال المحلي لتكون ملحقة به.
هذا هو الواقع ولا أظن صاحب كشف الظنون مصيبا حيث يقول عند الكلام على تفسير الجلالين ما نصه ((تفسير الجلالين من أوله إلى آخر سورة الإسراء للعلامة جلال الدين محمد بن احمد المحلي الشافعي المتوفى سنة 864هـ ، (أربع وستون وثمانمائة)، ولما مات كمله الشيخ المتبحر جمال الدين عبد الرحمن ابن أبو بكر السيوطي المتوفى سنة 911هـ (إحدى عشر وتسعمائة) وحيث يقول: بعد ذلك بقليل وكأن المحلى لم يفسر الفاتحة وفسرها السيوطي تفسيرا مناسبا(1).
نعم، لا أظن صاحب كشف الظنون مصيبا في ذلك لأن السيوطي في مقدمة هذا التفسير وقبل الكلام على سورة البقرة، يقول بعد الدباجة ما نصه: ((هذا ما اشتدت إليه حاجة الراغبين في تكملة تفسير القرآن الكريم، الذي ألفه الإمام العلامة المحقق، جلال الدين، محمد ابن احمد، المحلى الشافعي رحمه الله، وتميم ما فاته وهو ـ يريد ما فات بجلال المحلى وقام هو بتفسيره ـ من أول سورة البقرة إلى آخر سورة الإسراء )).
ويقول في آخر سورة الإسراء ما نصه: ((قال مؤلفه: هذا ما حملت به تفسير القرآن الكريم، الذي ألفه الشيخ الإمام، العالم العلامة المحقق، جلال الدين المحلى الشافعي t))(2)
هذا من ناحية تعيين القدر الذي فسره كل منهما. وأما من ناحية أخرى وهي ادعاء صاحب كشف الظنون أن المحلى لم يفسر الفاتحة، وإنما الذي فسرها هو السيوطي، فهي أيضا دعوة ليظهر لنا أنها غير صحيحة، وذلك بما يقوله الشيخ سليمان الجمل في مقدمة حاشيته على هذا التفسير (ج1 ص 7): ((وأما الفاتحة ففسرها المحلى، فجعلها السيوطي في آخر تفسير المحلى لتكون منضمة لتفسيره، وابتدأ هو من أول سورة البقرة" ا هـ.. ـ ولقوله في الحاشية نفسها (ج4 ص626) عند نهاية ما كتبه على تفسير سورة الفاتحة ((أنه ـ أي الجلال المحلي ـ كان قد شرع في تفسير النصف الأول، وأنه ابتدأ بالفاتحة وأنه اخترمته المنية بعد الفراغ منها وقبل الشروع في البقرة وما بعدها)) ا هـ
هذا، وقد قال صاحب كشف الظنون بعد ما نقلناه عنه آنفا بقليل: ((ولم يتكلم الشيخان على البسملة، فتكلم عليها بأقل مما ينبغي من الكلام بعض العلماء من زبيد وكتب ذلك حاشية بالهامش، وهذا صحيح، فإن الجلال المحلي لم يتكلم عن تفسيره البسملة مطلقا في الجزء الذي فسره، لا في أول سورة الكهف، ولا في أول فاتحة الكتاب، كذلك الجلال السيوطي، لم يتكلم عن تفسيرها مطلقا في الجزء الذي فسره.
وبعد هذا، فالجلال المحلي، فسر الجزء الذي فسره بعبارة موجزة محررة، في غاية الحسن ونهاية الدقة، والجلال السيوطي تابعه على ذلك ولم يتوسع، لأنه التزم بأن يتم الكتاب على النمط الذي جرى عليه الجلال المحلي، كما أوضح هو ذلك في مقدمته، وذكر في خاتمة سورة الإسراء أنه ألف الجزء الذي ألفه في قدر ميعاد الكليم، وهو أربعون يوما، كما ذكر في هذا الموضع نفسه: أنه استفاد في تفسيره من تفسير الجلال المحلي، وأنه اعتمد عليه في الآي المتشابهة، كما أنه اعترف ـ جازما ـ بأن الذي وضعه الجلال المحلي في قطعته أحسن مما وضعه هو بطبقات كثيرة))(1).
وعلى الجملة، فالسيوطي قد نهج في تفسيره منهج المحلي ((من ذكر ما يفهم من كلام الله تعالى، والاعتماد على أرجح الأقوال، وأعراب ما يحتاج إليه، والتنبيه على القراءات المختلفة المشهورة، على وجه لطيف، وتعبير وجيز وترك التطويل بذكر أقوال غير مرضية، وأعاريب محلها كتب العربية(2).
ولا شك أن الذي يقرأ تفسير الجلالين، لا يكاد يلمس فرقا واضحا بين طريقة الشيخين فيما فسراه، ولا يكاد يحس بمخالفة بينهما في ناحية من نواحي التفسير المختلفة، اللهم إلا في مواضع قليلة لا تبلغ العشرة كما قيل.
فمن هذه المواضع أن المحلي في سورة (ص) فسر الروح بأنها جسم لطيف يحيا به الإنسان بنفوذه فيه، والسيوطي تابعه على هذا التفسير في سورة الحجر ثم ضرب ثم ضرب عليه قوله تعالى في الآية (85) من سورة الإسراء: } ويسألونك عن الروح، قل الروح من أمر ربي، وما أوتيتم من العلم إلا قليلا { فهي صريحة أو كالصريحة في أن الروح من علم الله تعالى، فالإمساك عن تعريفها أولى.
ومنها: أن المحلى قال في سورة الحج: ((الصابئون : فرقة من اليهود))، والسيوطي في سورة البقرة تابعه على ذلك وزاد عليه: ((أو النصارى)) بيانا منه لقول ثان(1).... وهكذا تلمح الخلاف بين الشيخين قليلا نادرا.
ثم إن هذا التفسير، غاية في الاختصار، والإيجاز، حتى لقد ذكر صاح كشف الظنون عن بعض علماء اليمن أنه قال: ((عددت حروف القرآن وتفسيره للجلالين فوجدتهما متساويين إلى سورة المزمل، ومن سورة المدثر التفسير زائد على القرآن، فعلى هذا يجوز حمله بغير الوضوء))(2) ا هـ
ومع هذا الاختصار، فالكتاب قيم في بابه، وهو من أعظم التفاسير انتشارا، وأكثرها تداولا ونفعا، وقد طبع مرارا كثيرة، وظفر بكثير من تعاليق العلماء وحواشيهم عليه، ومن أهم هذه الحواشي: حاشية الجمل وحاشية الصاوي، وهما متداولتان بين أهل العلم.
وذكر صاحب كشف الظنون، أن عليه حاشية لشمس الدين محمد ابن العلقمي سماها، قبس النيرين، فرغ من تأليفها سنة 953هـ (اثنين وخمسين وتسعمائة)، وحاشية مسماة بالجمالين، لمولانا الفاضل نور الدين على بن سلطان محمد القاري نزيل مكة المكرمة، والمتوفى بها عام 1010هـ (عشر وألف)، وشرح لجلال الدين محمد بن محمد الكرخي، وهو كبير في مجلدات سماه مجمع البحرين ومطلع البدرين، وله حاشية صغرى)) .. ولكن شيئا مما ذكره صاحب كشف الظنون لم يقع تحت أيدينا، ولم نظفر بالاطلاع عليه.
* * *
الدر المنثور ما نصه: ((الكلبي اتهموه بالكذب وقد مرض فقال لأصحابه في مرضه: كل شئ حدثتكم عن أبي صالح كذب)) ولكن نجد أبا السعود، يخلص من تبعه هذه الروايات التي سردها بقوله أخيرا ((والله تعالى اعلم)) وهذا يشعر بأنه يشك في صدقها وصحتها.
* * *
· إقلاله من ذكر المسائل الفقهية:
كذلك نجد أبا السعود ـ رحمه الله ـ يتعرض في تفسيره لبعض المسائل الفقهية، ولكنه مقل جدا، ولا يكاد يدخل في المناقشات الفقهية والأدلة المذهبية، بل نجده يسرد المذاهب في الآية ولا يزيد على ذلك.
فمثلا عند قوله تعالى في الآية (225) من سورة البقرة: } لا يؤاخذكم الله بالغو في أيمانكم {.. الآية نجده يعرض للخلاف المذهبي في تحديد معنى اليمين اللغو فيقول: ((وقد اختلف فيه، فعندنا هو أن يحلف على شئ يظنه على ما حلف عليه ثم يظهر خلافه، فأنه لا يقصد فيه الكذب، وعند الشافعي ـ رحمه الله ـ هو قول العرب لا والله وبلى والله، مما يؤكدون به كلامهم من غير إخطار الحلف بالبال)) ولا يزيد على ذلك بل يمضي فينزل الآية على قول الحنفية.
* * *
· تناوله لما تحتمله الآيات من وجوه الإعراب:
كما نلحظ عليه أنه يعرض أحيانا للناحية النحوية إذا كانت الآية تحتمل أوجها من الإعراب، وينزل الآية على اختلاف الأعاريب، ويرجح واحدا منها ويدل على رجحانه.
وعلى الجملة فالكتاب دقيق غاية الدقة، بعيد عن خلط التفسير بما لا يتصل به، غير مسرف فيما يضطر إليه من التكلم عن بعض النواحي العلمية وهو مرجع يعتمد عليه كثير ممن جاء بعده من المفسرين وقد طبع هذا التفسير مرارا، وهو يقع في خمسة أجزاء متوسطة الحجم.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
صانع المعروف
صانع المعروف


عدد المساهمات : 179
نقاط : 23882
تاريخ التسجيل : 25/06/2011

الكتاب الاسطورة مناهج المفسرين  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الكتاب الاسطورة مناهج المفسرين    الكتاب الاسطورة مناهج المفسرين  I_icon_minitimeالسبت أغسطس 13, 2011 2:22 pm

10 – روح المعاني في تفسير القرآن العظيم
والسبع المثاني - للآلوسي
· التعريف بمؤلف هذا التفسير:
مؤلف هذا التفسير هو: أبو الثناء، شهاب الدين، السيد محمود أفندي الآلوسي(1) البغدادي، ولد في سنة 1217هـ (سبع عشرة ومائتين بعد الألف من الهجرة النبوية) في جانب الكرخ من بغداد.
كان رحمه الله شيخ العلماء في العراق، وآية من آيات الله العظام، ونادرة من نوادر الأيام، جمع كثيرا من العلوم حتى أصبح علامة في المنقول والمعقول فهامة في الفروع والأصول، محدثا لا يجاري، ومفسرا لكتاب الله لا يباري، اخذ العلم عن فحول العلماء، منهم والده العلامة، والشيخ خالد النقشبندي والشيخ على السويدي، وكان رحمه الله غاية في الحرص على تزايد علمه، وتوفير نصيبه منه، وكان كثيرا ما ينشد:
سهري لتنقيح العلوم ألذ لي من وصل غانية وطيب عناق
اشتغل بالتدريس والتأليف وهو ابن ثلاث عشرة سنة، ودرس في عدة مدارس، وعندما قلد إفتاء الحنفية، شرع يدرس سائر العلوم في داره الملاصقة لجامع الشيخ عبدالله العاقولي في الرصافة، وقد تتلمذ له واخذ عنه خلق كثير من قاصي البلاد ودانيها، وتخرج عليه جاماعات من الفضلاء من بلاد مختلفة كثيرة، وكان ـ رحمه الله ـ يواسي طلبته من ملبسه ومأكله، ويسكنون البيوت الرفيعة من منزله، حتى صار في العراق العلم المفرد، وانتهت إليه الرياسة لمزيد فضله الذي لا يجحد، وكان نسيج وحده في النثر وقوة التحرير، وغزارة الإملاء وجزالة التعبير وقد أملى كثيرا من الخطب والرسائل والفتاوى والمسائل، ولكن أكثر ذلك ـ على قرب العهد ـ درس وعفت آثاره، ولم تظفر الأيدي إلا بالقليل منه، وكان ذا حافظة عجيبة، وفكرة غريبة، وكثيرا ما كان يقول : ((ما استودعت ذهني شيئا فخانني، ولا دعوت فكري لمعضلة إلا وأجابني)) قلد إفتاء الحنفية في السنة الثامنة والأربعين بعد المائتين والألف من الهجرة المحمدية، وقبل ذلك بأشهر ولي أوقاف المدرسة المرجانية إذ كانت مشروطة لأعلم أهل البلد وتحقق لدى الوزير الخطير على رضا باشا، أنه ليس فيها من يدانيه من أحد وفي شوال سنة 1263هـ (ثلاثة وستين ومائتين بعد الألف) انفصل من منصب الإفتاء، وبقى مشتغلا بتفسير القرآن الكريم حتى أتمه، ثم سافر إلى القسطنطينية في السنة السابعة والستين بعد المائتين والألف، فعرض تفسيره على السلطان عبد المجيد خان، فنال إعجابه ورضاه، ثم رجع منها سنة 1269هـ (تسع وستين ومائتين بعد الألف).
وكان ـ رحمه الله ـ عالما باختلاف المذاهب، مطلعا على الملل والنحل، سلفي الاعتقاد، شافعي المذهب، إلا أنه في كثير من المسائل يقلد الإمام الأعظم أبا حنيفة النعمان t، وكان في آخر أمره يميل إلى الاجتهاد. ولقد خلف ـ رحمه الله ـ للناس ثروة علمية كبيرة ونافعة فمن ذلك تفسيره لكتاب الله وهو الذي نحن بصدده الآن، وحاشيته على القطر، كتب منها في الشباب إلى موضع الحال، وبعد وفاته أتمها ابنه السيد نعمان الآلوسي، وشرح السلم في المنطق، وقد فقد ومنها الأجوبة العراقية عن الأسئلة اللاهورية، الأجوبة العراقية على الأسئلة الإيرانية، ودرة الغواص في أوهام الخواص، والنفحات القدسية في المباحث الأمامية والفوائد السنية في علم آداب البحث.
وقد توفى رحمه الله في يوم الجمعة الخامس والعشرين من ذي القعدة سنة 1270هـ (سبعين ومائتين بعد الألف من الهجرة)، ودفن مع أهله في مقبرة الشيخ معروف الكرخي في الكرخ، فرضي الله عنه وأرضاه.
* * *
· التعريف بهذا المفسر وطريقة مؤلفه فيه:
ذكر مؤلفه هذا التفسير في مقدمته أنه منذ عهد الصغر، لم يزل متطلبا لاستكشاف سر كتاب الله المكتوم، مترقبا لارتشاف رحقه المختوم، وأنه طالما فرق نومه لجمع شوارده، وفارق قومه لوصال خرائده، ولا يرفل في مطارف اللهو كما يرفل أقرانه، ولا يهب نفائس الأوقات لخسائس الشهوات كما يفعل إخوانه، وبذلك وفقه الله للوقوف على كثير من حقائقه، وحل وفير من دقائقه، وذكر أنه قبل أن يكمل سنه العشرين، شرع يدفع كثيرا من الإشكالات التي ترد على ظاهر النظم الكريم، ويتجاهر بما لم يظفر به في كتاب من دقائق التفسير ويعلق على ما أغلق مما لم تعلق به ظفر كل ذي ذهن خطير، وذكر أنه استفاد من علماء عصره، واقتطف من أزهارهم، واقتبس من أنوارهم ، وأودع علمهم صدره، وأفنى في كتابة فوائدهم حبره ... ثم ذكر أنه كثيرا ما خطر له أن يحرر كاتبا يجمع فيه ما عنده من ذلك، وأنه كان يتردد في ذلك، إلى أن رأى في بعض ليالي الجمعة من شهر رجب سنة 1252هـ (اثنتين وخمسين ومائتين بعد الألف من الهجرة)، أن الله جل شأنه أمره بطي السموات والأرض، ورتق فتقهما على الطول والعرض، فرفع يدا إلى السماء، وخفض الأخرى إلى مستقر الماء، ثم انتبه من نومه وهو مستعظم لرؤيته، فجعل يفتش لها عن تعبير، فرأى في بعض الكتب أنها إشارة إلى تأليف تفسير، فشرع فيه في الليلة السادسة عشرة من شهر شعبان من السنة المذكورة، وكان عمره إذ ذاك أربعا وثلاثين سنة، وذلك في عهد السلطان محمود خان بن السلطان عبد الحميد خان، وذكر في خاتمته أنه انتهى منه ليلة الثلاثاء لأربع خلون من شهر ربيع الآخر سنة 1267هـ (سبع وستين ومائتين بعد الألف)، ولما انتهى منه جعل يفكر ما اسمه؟ وبماذا يدعوه؟ فلم يظهر له اسم تهتش له الضمائر، فعرض الأمر على وزير الوزراء على رضا باشا، فسماه على الفور: ((روح المعاني، في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني)).
هذه هي قصة تأليف هذا التفسير، كما ذكرها صاحبه عليه رضوان الله .
وقد ذكروا أن سلوكه في تفسيره هذا كان أمراً عظيما، وسرا من الأسرار غريبا، فإن نهاره كان للإفتاء والتدريس وأوله ليلة لمنادمة مستفيد وجليس، فيكتب بأواخر الليل منه ورقات، فيعطيها صباحا للكتاب الذين وظفهم في داره فلا يكملونها تبييضا إلا في نحو عشر ساعات.
* * *
· مكانة هذا التفسير من التفاسير التي تقدمته:
ثم أن هذا التفسير ـ والحق يقال ـ قد أفرغ فيه مؤلفه وسعه، وبذل مجهوده حتى أخرجه للناس كتابا جامعا لآراء السلف رواية ودراية ن مشتملا على أقوال الخلف بكل أمانة وعناية، فهو جامع لخلاصة كل ما سبقه من التفاسير فتراه ينقل لك عن تفسير ابن عطية، وتفسير أبي حيان، وتفسير الكشاف، وتفسير أبي السعود، وتفسير البيضاوي، وتفسير الفخر الرازي، وغيرها من كتب التفسير المعتبرة، وهو إذا نقل عن تفسير أبو السعود يقول ـ غالبا ـ قال شيخ الإسلام، وإذا نقل عن تفسير البيضاوي يقول ـ غالبا ـ قال القاضي، وإذا نقل عن تفسير الفخر الرازي يقول ـ غالبا ـ قال الإمام. وهو إذ ينقل عن هذه التفاسير ينصب نفسه حكما عدلا بينها، ويجعل من نفسه نقادا مدققا، ثم يبدي رأيه حرا فيما ينقل، فتراه كثيرا ما يتعرض على ما ينقله عن أبي السعود، أو عن البيضاوي ، أو عن أبي حيان، أو عن غيرهم، كما تراه يتعقب الفخر الرازي في كثير من المسائل، ويرد عليه على الخصوص في بعض المسائل الفقهية، انتصارا منه لمذهب أبي حنيفة، ثم أنه إذا استصوب رأيا لبعض من ينقل عنهم، انتصر له ورجحه على ما عداه.
* * *
· موقف الآلوسي من المخالفين لأهل السنة:
والآلوسي سلفي المذهب سني العقيدة، ولهذا نراه كثيرا ما يفند آراء المعتزلة والشيعة، وغيرهم من أصحاب المذاهب المخالفة لمذهبه.
فمثلا عند تفسيره لقوله تعالى في الآية (15) من سورة البقرة: } الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون {.. يقول بعد كلام طويل ما نصه : ((... وإضافته – أي الطغيان – إليهم، لأنه فعلهم الصادر منهم، بقدرهم المؤثرة بإذن الله تعالى فالاختصاص المشعرة به الإضافة. إنما هو بهذا الاعتبار، لا باعتبار المحلية والاتصاف، فأنه معلوم لا حاجة فيه إلى الإضافة، ولا باعتبار الإيجاد استقلالا من غير توقف على إذن الفعال لما يريد، فأنه اعتبار عليه غبار، بل غبار ليس له اعتبار، فلا تهولنك جعجعة الزمخشري وقعقعته))(1).
وانظر إلى ما كتبه قبل ذلك عند تفسيره لقوله تعالى في الآية (7) من السورة نفسها : } ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم، وعلى أبصارهم غشاوة، ولهم عذاب عظيم {. تجده يطيل بما لا يتسع لذكره المقام هنا، من بيان إسناد الختم إليه عز وجل على مذهب أهل السنة، ومن ذكر ما ذهب إليه المعتزلة في هذه الآية وما رد به عليهم، وفند به تأويلهم الذي يتفق مع مذهبهم الاعتزالي(2).
ومثلا عند تفسيره لقوله تعالى في الآية (11) من سورة الجمعة : } وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما، قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة، والله خير الرازقين {.. يقول ما نصه : ((وطعن الشيعة لهذه الآية الصحابة t، بأنهم آثروا دنياهم على آخرتهم، حيث انفضوا إلى اللهو والتجارة، ورغبوا عن الصلاة التي هي عماد الدين، وأفضل من كثير من العبادات، لاسيما مع رسول الله r ، وروى أن ذلك قد وقع مرارا منهم، وفيه أن كبار الصحابة كأبي بكر وعمر وسائر العشرة المبشرة لم ينفضوا، والقصة كانت في أوائل زمن الهجرة، ولم يكن أكثر القوم تام التحلي بحلية آداب الشريعة بعد، وكان قد أصاب أهل المدينة جوع وغلاء سعر، فخاف أولئك المنفضون اشتداد الأمر عليهم بشراء غيرهم ما يقتات به لو لم ينفضوا، ولذا لم يتوعدهم الله على ذلك بالنار أو نحوها، بل قصارى ما فعل سبحانه أنه عاتبهم ووعظهم ونصحهم، ورواية أن ذلك وقع منهم مرارا أن أريد بها رواية البيهقي في شعب الإيمان عن مقاتل بن حيان أنه قال: بلغني ـ والله تعالى اعلم ـ أنهم فعلوا ذلك ثلاث مرات، فمثل ذلك لا يلتفت إليه ولا يعول عند المحدثين عليه، وأن أريد بها غيرها فليبين وليثبت صحته، واني بذلك ؟ وبالجملة: الطعن بجميع الصحابة لهذه القصة التي كنت من بعضهم في أوائل أمرهم ـ وقد عقبها منهم عبادات لا تحصى ـ سفه ظاهر وجهل وافر(1).
* * *
· الآلوسي والمسائل الكونية:
ومما نلاحظه على الآلوسي في تفسيره، أنه يستطرد إلى الكلام في الأمور الكونية، ويذكر كلام أهل الهيئة وأهل الحكمة، ويقر منه ما يرتضيه، ويفند ما لا يرضيه، وإن أردت مثالا جامعا، فارجع إليه عند تفسيره لقوله تعالى في الآيات (40.39.38) من سورة يس: } والشمس تجري لمستقر لها، ذلك تقدير العزيز العليم، والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم، لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار، وكل في فلك يسبحون {(2)..
وارجع إليه عند تفسيره لقوله تعالى في الآية (12) من سورة الطلاق } الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن { (3)فسترى منه توسعا في هذه الناحية.
* * *

· كثرة استطراده للمسائل النحوية:
كذلك يستطرد الآلوسي إلى الكلام في الصناعة النحوية، ويتوسع في ذلك أحيانا إلى حد يكاد يخرج به عن وصف كونه مفسرا، ولا أحيلك على نقطة بعينها، فأنه لا يكاد يخلو موضع من الكتاب من ذلك.
* * *
· موقفه من المسائل الفقهية:
كذلك نجده إذا تكلم عن آيات الأحكام فأنه لا يمر عليها إلا إذا استوفى مذاهب الفقهاء وأدلتهم مع عدم تعصب منه لمذهب بعينه.
فمثلا عند تفسيره لقوله تعالى في الآية (236) من سورة البقرة: } ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف، حقا على المحسنين {.. يقول ما نصه: وقال الإمام مالك: المحسنون المتطوعون، وبذلك استدل على استحباب المتعة وجعله قرينة صارفة للأمر إلى الندب وعندنا: هي واجبة للمطلقات في الآية، مستحبة لسائر المطلقات، وعند الشافعي t في أحد قوليه: هي واجبة لكل زوجة مطلقة إذا كان الفراق من قبل الزوج إلا التي سمى لها وطلقت قبل الدخول، ولما لم يساعده مفهوم الآية ولم يعتبر العموم في قوله تعالى: } وللمطلقات متاع بالمعروف {، لأنه يحمل المطلق على المقيد، قال بالقياس، وجعله مقدما على المفهوم، لأنه من الحجج القطعية دونه، وأجيب عما قاله مالك، بمنع قصر المحسن على المتطوع، بل هو اعم منه ومن القائم بالواجبات، فلا تنافي لوجوب، فلا يكون صارفا للأمر عنه ما انضم إليه من لفظ حقا))(1).
وإذا أردت أن تتأكد من أن الآلوسي غير متعصب لمذهب بعينه فارجع إلى البحث الذي أفاض فيه عند تفسيره لقوله تعالى في الآية (228) من سورة البقرة: } والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاث قروء { .. الآية ، تجده بعد أن يذكر مذهب الشافعية، ومذهب الحنفية، وأدلة كل منهم، ومناقشاتهم يقول: ((وبالجملة، كلام الشافعية في هذا المقام قوي، كما لا يخفي على من أحاط بأطراف كلامهم، واستقرأ ما قالوه، تأمل ما دفعوا به من أدلة مخالفيهم))(2).
· موقفه من الإسرائيليات :
ومما نلاحظه على الآلوسي أنه شديد النقد للإسرائيليات والأخبار المكذوبة التي حشا بها كثير من المفسرين تفاسيرهم وظنوها صحيحة، مع سخرية منه أحيانا.
فمثلا عند تفسيره لقوله تعالى في الآية (12) من سورة المائدة : } ولقد اخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم أثنى عشر نقيبا)).. نجده يقص علينا قصة عجيبة عن عوج بن عنق، يرويها عن البغوي، ولكنه بعد الفراغ منها يقول ما نصه: ((وأقول: قد شاع أمر عوج عند العامة، ونقلوا فيه حكايات شنيعة، وفي فتاوى العلامة ابن حجر، قال الحافظ العماد ابن كثير: قصة عوج وجميع ما يحكون عنه، هذيان لا أصل له، وهو من مختلقات أهل الكتاب، ولم يكن قط على عهد نوح عليه السلام، ولم يسلم من الكفار أحد، وقال ابن القيم: من الأمور التي يعرف بها كون الحديث موضوعا، أن يكون مما تقوم الشواهد الصحيحة على بطلانه، كحديث عوج بن عنق، وليس العجب من جرأة من وضع هذا الحديث وكذب على الله تعالى، إنما العجب من يدخل هذا الحديث في كتب العلم من التفسير وغيره ولا يبين أمره، ثم قال: ولا ريب أن هذا وأمثاله من صنع زنادقة أهل الكتاب الذين قصدوا الاستهزاء والسخرية بالرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام وأتباعهم.. ثم مضى الآلوسي في تفنيد هذه القصة بما حكاه عن غير من تقدم من العلماء الذين استنكروا هذه القصة الخرافية(1).
ومثلا عند تفسيره لقوله تعالى في الآية (38) من سورة هود : } ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه { .. نجده يروي أخبارا كثيرة في نوع الخشب الذي صنعت منه السفينة، وفي مقدار طولها وعرضها وارتفاعها، وفي المكان الذي صنعت فيه .. ثم يعقب على كل ذلك بقوله: ((وسفينة الأخبار في تحقيق الحال فيما أرى لا تصلح للركوب فيها، إذ هي غير سالمة عن عيب، فالحري بحال من لا يميل إلى الفضول، أن يؤمن بأنه عليه السلام صنع الفلك حسبما قص الله تعالى في كتابه، ولا يخوض في مقدار طولها وعرضها وارتفاعها، ومن أي خشب صنعها، وبكم مدة أتم عملها إلى غير ذلك مما لم يشرحه الكتاب ولم تبينه السنة الصحيحة))(2).
* * *
· تعرضه للقراءات والمناسبات وأسباب النزول:
ثم أن الآلوسي يعرض لذكر القراءات ولكنه لا يتقيد بالمتواتر منها، كما أنه يعني بإظهار وجه المناسبات بين السور كما يعني بذكر المناسبات بين الآيات ويذكر أسباب النزول للآيات التي أنزلت على سبب، وهو كثير الاستشهاد بأشعار العرب على ما يذهب إليه من المعاني اللغوية.
* * *
· الآلوسي والتفسير الاشاري:
ولم يفت الآلوسي أن يتكلم عن التفسير الاشاري بعد أن يفرغ من الكلام عن كل ما يتعلق بظاهر الآيات، ومن هنا عد بعض العلماء تفسيره هذا في ضمن كتب التفسير الاشاري، كما عد تفسير النيسابوري في ضمنها كذلك، ولكني رأيت أن أجعلهما في عداد كتب التفسير بالرأي المحمود، نظرا إلى أنه لم يكن مقصودهما الأهم هو التفسير الاشاري، بل كان ذلك تابعا ـ كما يبدو ـ لغيره من التفسير الظاهر، وهذه ـ كما قلت من قبل ـ مسألة اعتبارية لا أكثر ولا اقل، وإنما أردت أن أبين جهتي الاعتبار.
وجملة القول، فروح المعاني للعلامة الآلوسي ليس إلا موسوعة تفسيرية قيمة، جمعت جل ما قاله علماء التفسير الذين تقدموا عليه، مع النقد الحر، والترجيح الذي يعتمد على قوة الذهن وصفاء القريحة، وهو وان كان يستطرد إلى نواح علمية مختلفة، مع توسع يكاد يخرجه عن مهمته كمفسر إلا أنه متزن في كل ما يتكلم فيه، مما يشهد له بغزارة العلم على اختلاف نواحيه،وشمول الإحاطة بكل ما يتكلم فيه، فجزاه الله عن العلم وأهله خير الجزاء، أنه سميع مجيب.
وبعد ... فهذه هي أهم كتب التفسير بالرأي الجائز، وهناك كتب أخرى تدخل في هذا النوع من التفسير، ولها أهميتها وقيمتها، كما أن لها شهرتها الواسعة بين أهل العلم الذين يعنون بالتفسير، غير أني أمسكت عنها هنا مخافة التطويل، ولعدم إمكان الحصول على بعضها، واحسب أن في هذا القدر كفاية وغنى عن كتب أخرى كثيرة.
* * *

الفصل الرابع
التفسير بالرأي المذموم أو تفسير الفرق المبتدعة
· تمهيد في بيان نشأة الفرق الإسلامية:
جرى التفسير منذ زمن النبوة إلى زمن أتباع التابعين، على طريقة تكاد تكون واحدة، فخلف كل عصر يحمل التفسير عمن سلف بطريقة الرواية والسماع، وفي كل عصر من هذه العصور، تتجدد نظرات تفسيرية، لم يكن لها وجود قبل ذلك، وهذا راجع إلى أن الناس كلما بعدوا عن عصر النبوة ازدادت نواحي الغموض في التفسير، فكان لابد للتفسير من أن يتضخم كلما مرت عليه السنون.
لم يكن هذا التضخم في الحقيقة إلا محاولات عقلية، ونظرات اجتهادية، قام بها أفراد ممن لهم عناية بهذه الناحية، غير أن هذه الناحية العقلية في التفسير لم تخرج عن قانون اللغة، ولم تتخط حدود الشريعة، بل ظلت محتفظة بصبغتها العقلية والدينية، فلم تتجاوز دائرة الرأي المحمود إلى دائرة الرأي المذموم الذي لا يتفق وقواعد الشرع.
ظل الأمر على ذلك إلى أن قامت الفرق المختلفة، ظهرت المذاهب الدينية المتنوعة، ووجد من العلماء من يحاول نصرة مذهبه والدفاع عن عقيدته بكل وسيلة وحيلة وكان القرآن هو هدفهم الأول الذي يقصدون إليه جميعا، كل يبحث في القرآن ليجد فيه ما يقوي رأيه ويؤيد مذهبه، وكل واجد ما يبحث عنه ولو بطريق إخضاع الآيات القرآنية لمذهبه، والميل بها مع رأيه وهواه، وتأويل ما يصادمه منها تأويلا يجعلها غير منافية لمذهبه ولا متعارضة معه، ومن هنا بدأ الخروج عن دائرة الرأي المحمود إلى دائرة الرأي المذموم، واستفحل الأمر إلى حد جعل القوم يتسعون في حماية عقائدهم، والترويج لمذاهبهم، بما أخرجوه للناس من تفاسير حملوا فيها كلام ا لله على وفق أهوائهم، ومتقضى نزعاتهم ونحلهم!!.
ونحن نعلم بطريق الإجمال ـ وللتفصيل موضع غير هذا ـ أن رسول الله r قال: ((ستفترق أمتي ثلاثا وسبعين فرقة، كلها في النار، إلا واحدة، وهي ما أنا عليه وأصحابي)) وقد حقق الله نبوءة رسوله، وصدق قوله فتصدعت الوحدة الإسلامية إلى أحزاب مختلفة، وفرق متنافرة متناحرة، ولم يظهر هذا التفرق بكل ما فيه من خطر على الإسلام والمسلمين إلا في عصر الدولة العباسية، أما قبل ذلك، فقد كان المسلمون يدا واحدة، وكانت عقيدتهم واحدة كذلك، إذا استثنينا ما كان بينهم من المنافقين الذين ينتسبون إلى الإسلام ويضمرون الكفر، وما كان بين علي ومعاوية من خلاف لم يكن له مثل هذا الخطر، وإن كان النواة التي قام عليها التحزب، ونبت عنها التفرق والاختلاف.
بدأ الخلاف بين المسلمين أول ما بدأ، في أمور اجتهادية لا تصل بأحد منهم إلى درجة الابتداع والكفر، كاختلافهم عند قول النبي r : ((ائتوني بقرطاس أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعدي)) حتى قال عمر: إن النبي قد غيبه الوجع، حسبنا كتاب الله، وكثر اللغط في ذلك حتى قال النبي r : ((قوموا عني، لا ينبغي عندي التنازع))، وكاختلافهم في موضع دفنه r، أيدفن بمكة، لأنها مولده وبها قبلته ومشاعر الحج؟ ام يدفن بالمدينة، لأنها موضع هجرته، وموطن أهل نصرته؟ ام يدفن ببيت المقدس، لأن بها تربة الأنبياء ومشاهدهم؟، وكالخلاف الذي وقع بينهم في سقيفة بني ساعدة في تولية من يخلف رسول الله r بعد وفاته، وغير ذلك من الخلافات التي وقعت بينهم، ولم يكن لها خطرها الذي ينجم عنه التفرق ووقوع الفتنة والبغضاء بين المسلمين.
ظل الأمر على ذلك إلى زمن عثمان t، وكان ما كان من خروج بعض المسلمين عليه، ومحاصرتهم لداره، وقتلهم له، فعرى المسلمين من ذلك الوقت رجة فكرية عنيفة، طاحت بالروية، وذهبت بكثير من الأفكار مذاهب شتى، فقام قوم يطالبون بدم عثمان، ثم نشبت الحرب بين علي ومعاوية t من اجل الخلافة، وكان لكل منهم شيعة وأنصار يشدون أزره، ويقوون عزمه، وتبع ذلك انشقاق جماعة على كرم الله وجهه، بعد مسألة التحكيم في الخلاف الذي بينه وبين معاوية، في السنة السابعة والثلاثين من الهجرة، فظهرت من ذلك الوقت فرقة الشيعة، وفرقة الخوارج، وفرقة المرجئة(1)، وفرقة أخرى تنحاز لمعاوية، وتؤيد الأمويين على وجه العموم.
ثم اخذ هذا الخلاف والتفرق، يتدرج شيئا فشيئا، ويترقى حينا بعد حين، إلى أن ظهر في أيام المتأخرين من الصحابة خلاف القدرية، وكان أول من جهر بهذا المذهب ووضع الحجر الأساسي لقيام هذه الفرقة، معبد الجهني الذي اخذ عنه مذهبه غيلان الدمشقي ومن شاكله، وكان ينكر عليهم مذهبهم هذا ما بقى من الصحابة كعبد الله بن عمر، وأبن عباس، وانس، وأبي هريرة، وغيرهم.
ثم ظهر بعد هؤلاء وفي زمن الحسن البصري بالبصرة، خلاف واصل ابن عطاء في القدر، وفي القول بالمنزلة بين المنزلتين، ومجادلته للحسن البصري في ذلك، واعتزاله مجلسه، ومن ذلك الوقت ظهرت فرقة المعتزلة.
ثم كان من أصحاب الديانات المختلفة كاليهودية والنصرانية، والمجوسية، والصائبة.. الخ. من تزيا بزي الإسلام وأبطن الكيد له، حنينا إلى ملتهم الأولى، كعبد الله بن سبأ اليهودي، فأوضعوا خلال المسلمين يبغونهم الفتنة، ويرجون لهم الفرقة، فأفلحوا فيما قصدوا إليه من تحزب المسلمين وتفرقهم.
وفي خلال ذلك غلا بعض الطوائف التي ولدها الخلاف، فابتدعوا أقوالا خرجت بهم عن دائرة الإسلام كالقائلين بالحلول والتناسخ من السبئية وكالباطنية الذين لا يعدون من فرق الإسلام، وإنما هم في الحقيقة على دين المجوس.
لم يزل الخلاف يتشعب والآراء تتفرق حتى تفرق أهل الإسلام وأرباب المقالات، إلى ثلاث وسبعين فرقة كما قال صاحب المواقف(1)، وكما عدهم وبينهم الأمام الكبير، أبو المظفر الاسفراييني في كتابه، ((التبصير في الدين))(2) وليس هذا موضع ذكرها واستقصائها.
والذي اشتهر من هذه الفرق خمس: أهل السنة، والمعتزلة، والمرجئة، والشيعة، والخوارج، وما وراء ذلك من الفرق كالجبرية، والباطنية، والمشبهة، وغيرها، فمعظمها مشتق من هذه الفرق الخمس الرئيسية.
نحن نعلم هذا التفرق الذي أصاب المسلمين في وحدتهم الدينية والسياسية، ونعلم أيضا أن الناس كانوا في عصر النبي r وبعده يقرأون القرآن أو يسمعونه فيغنون بتفهم روحه، فإن عنى علماؤهم بشئ وراء ذلك، فما يوضح الآية من سبب النزول، واستشهاد بأبيات من أشعار العرب تفسر لفظا غريبا، أو أسلوبا غامضا، ولكنا لا نعلم في هذا العصر الأول، انحياز الصحابة إلى مذاهب دينية وآراء في الملل والنحل، فلما وقع هذا التفرق تنظر إلى القرآن من خلال عقيدتها، وتفسره بما يتلائم مع مذهبها، فالمعتزلي يطبق القرآن على مذهبه في الاختيار، والصفات، والتحسين، والتقبيح العقليين.. ويؤول ما لا يتفق ومذهبه، وكذلك يفعل الشيعي، وكذلك يفعل كل صاحب مذهب حتى يسلم له مذهبه.
غير أننا لم نحط علما بكل هذه النظرات المذهبية في القرآن، ولم يقع تحت أيدينا من كتب التفسير المذهبية إلا القليل النادر بالنسبة لما حرمت منه المكتبة الإسلامية، على أن هذا القليل ليس إلا لبعض الفرق دون بعض، وهناك تفسيرات وتأويلات لبعض من آيات القرآن لبعض من الفرق، ولكنها متفرقة مشتتة بين صحائف كتب التفسير خاصة وكتب العلم عامة، وهناك فرق أخرى لم نظفر لها بتفسير كامل ولا بشئ من التفسير، ولهذا أرى أن أتكلم عن التفسير المذهبي لا لكل الفرق، بل للفرق التي ألفت وخلفت لنا كتبا في التفسير، ووقعت تحت أيدينا، فاستطعنا بعد القراءة فيها والنظر إليها أن نحكم عليها بما يتناسب مع المنهج الذي انتهجه فيها مؤلفوها، والطريق الذي سلكوه في شرحهم لكتاب الله تعالى.
وسبق لنا أن تكلمنا عن التفسير بالرأي الجائز وأهم ما ألف فيه من كتب، وذلك هو تفسير أهل السنة والجماعة، وتلك هي أشهر تفاسيرهم التي خلفوهم للناس، فلا نعود لذلك، بل نشرع في الكلام عن موقف غيرهم من الفرق، بالنسبة لكتاب الله تعالى، وعن أهم ما خلفوه لنا من كتب في التفسير ، والله يتولانا ويسدد خطانا، إنه سميع مجيب.
* * *

المعتزلة .. وموقفهم من تفسير القرآن الكريم
· كلمة إجمالية عن المعتزلة وأصولهم المذهبية – نشأة المعتزلة:
نشأت هذه الفرقة في العصر الأموي ولكنها شغلت الفكر الإسلامي في العصر العباسي ردحا طويلا من الزمان، وأصل هذه الفرقة هو واصل ابن عطاء الملقب بالغزال، المولود سنة 80 هـ (ثمانين) والمتوفى سنة 131هـ (أحدى وثلاثين ومائة)، في خلافة هشام بن عبد الملك، وذلك أنه دخل على الحسن البصري رجل فقال: يا إمام الدين، ظهر في زماننا جماعة يكفرون أصحاب الكبيرة ـ يريد وعيدية الخوارج ـ وجماعة أخرى يرجئون الكبائر ويقولون: لا تضر مع الإيمان معصية، كما لا تنفع مع الكفر طاعة، فكيف تحكم لنا أن نعتقد في ذلك؟ فتفكر الحسن، وقبل أن يجيب قال واصل: أنا لا أقول أن صاحب الكبيرة مؤمن مطلق ولا كافر مطلق، ثم قام إلى اسطوانة من اسطوانات المسجد، وأخذ يقرر على جماعة من أصحاب الحسن ما أجاب به، من أن مرتكب الكبيرة ليس بمؤمن ولا كافر، ويثبت له المنزلة بين المنزلتين، قائلا: أن المؤمن اسم مدح، والفاسق لا يستحق المدح فلا يكون مؤمنا، وليس بكافر أيضا، لإقراره بالشهادتين، ولوجود سائر أعمال الخير فيه، فإذا مات بلا توبة خلد في النار، إذ ليس في الآخرة إلا فريقان، فريق في الجنة وفريق في السعير، لكن يخفف عنه، وتكون دركته فوق دركات الكفار، فقال الحسن: اعتزل عنا واصل ، فلذلك سمى هو وأصحابه معتزلة.
ويلقب المعتزلة بالقدرية تارة، والمعطلة تارة أخرى، أما تلقيبهم بالقدرية، فلأنهم يسندون أفعال العباد إلى قدرتهم، وينكرون القدر فيها، وأما تلقيبهم بالمعطلة فلأنهم يقولون بنفي صفات المعاني فيقولون: الله عالم بذاته قادر بذاته .. وهكذا.
فأنت ترى مما تقدم أن الاعتزال نشأ في البصرة ولكن سرعان ما انتشر في العراق واعتنقه من خلفاء بني أمية يزيد بن الوليد ومروان بن محمد وفي العصر العباسي استفحل أمر المعتزلة واحتلت فكرهم وعقائدهم من عقول الناس وجدل العلماء مكانا عظيما، وما لبث أن تكونت للاعتزال مدرستان كبيرتان: مدرسة البصرة، وعلى رأسها واصل بن عطاء ومدرسة بغداد وعلى رأسها بشر بن المعتمر وكان بين معتزلي البصرة ومعتزلي بغداد جدال وخلاف في كثير من المسائل.
ولا أطيل بذكر ما كان بين المدرستين من مسائل خلافية، فإن هذه العجالة لا تتحمل الإطالة والتفصيل، ويكفي أن أجمل القول في ذكر أصول المعتزلة، وإن أشير إلى تعدد فرقهم ومن أراد التفصيل فليرجع إلى الكتب التي الفت في تاريخ الفرق، وهي كثيرة.
* * *
· أصول المعتزلة:
أما أصول المعتزلة فهي خمسة: التوحيد، والعدل، والوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذه الأصول الخمسة يجمع الكل عليها ومن لم يقل بها جميعا فليس معتزليا بالمعنى الصحيح، قال أبو الحسن الخياط أحد زعماء المعتزلة في القرن الثالث الهجري: ((وليس يستحق أحد منهم اسم الاعتزال حتى يجمع القول بالأصول الخمسة: التوحيد والعدل، والوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا كملت هذه الخصال فهو معتزلي)).
أما التوحيد: فهو لب مذهبهم، ورأس نحلتهم وقد بنوا على هذا الأصل: استحالة رؤية الله سبحانه وتعالى يوم القيامة، وان الصفات ليست شيئا غير الذات وإن القرآن مخلوق لله تعالى.
وأما العدل: فقد بنوا عليه: أن الله تعالى لم يشأ جميع الكائنات، ولا خلقها ولا هو قادر عليها كلها، بل عندهم أن أفعال العباد لم يخلقها الله تعالى، لا خيرها ولا شرها، ولم يرد إلا ما أمر به شرعا وما سوى ذلك فأنه يكون بغير مشيئته.
وأما الوعد والوعيد: فمضمونه أن الله يجازي من أحسن بالإحسان، ومن أساء بالسوء لا يغفر لمرتكب الكبيرة ما لم يتب، ولا يقبل في أهل الكبائر شفاعة، ولا يخرج أحدا منهم من النار، وأوضح من هذا أنهم يقولون: أنه يجب على الله أن يثيب المطيع ويعقب مرتكب الكبيرة فصاحب الكبيرة إذا مات ولم يتب لا يجوز أن يعفو الله عنه، لأنه أوعد بالعقاب على الكبائر واخبره به، فلو لم يعاقب لزم الخلف في وعيده، وهم يعنون بذلك أن الثواب على الطاعات والعقاب على المعاصي قانون حتمي التزم الله به، كما قالوا: أن مرتكب الكبيرة مخلد في النار ولو صدق بوحدانية الله وآمن برسله، لقوله تعالى: في الآية (81) من سورة البقرة: } بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار، هم فيها خالدون {...
وأما المنزلة بين المنزلتين: فقد سبق أن بيناها في مناظرة واصل بن عطاء للحسن البصري.
وأما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهو مبدأ مقرر عندهم وواجب على المسلمين لنشر الدعوة الإسلامية وهداية الضالين وإرشاد الغاوين، ولكنهم بالغوا في هذا الأصل وخالفوا ما عليه الجمهور فقالوا: أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يكون بالقلب أن كفى، وباللسان إن لم يكف القلب، وباليد إن لم يغنيا، وبالسيف إن لم تكف اليد، لقوله تعالى في الآية (9) من سورة الحجرات: } وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما، فان بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله {.. وهم في ذلك لا يفرقون بين صاحب السلطان وغيره، كما أنهم لم يفرقوا بين الأصول الدينية المجمع عليها وعقائدهم الاعتزالية.
وهناك مبادئ أخرى للمعتزلة لا يشتركون فيها بل هي مبادئ خاصة لكل فرقة من فرقهم المتعددة، التي بلغت العشرين أو تزيد ولا أطيل بذكر هذه الفرق وبيان خصائص كل فرقة، وأحيلك على المواقف أو التبصير في الدين، أو الفرق بين الفرق للبغدادي، أو الملل والنحل للشهرستاني، أو الفصل لابن حزم، لتتعرف منها هذه الفرق وخصائصها، إذ ليس هذا موضع التفصيل.
وبعد.. فقد عرفنا نشأة المعتزلة ، وعرفنا أصولهم التي اجمعوا عليها، وما علينا بعد ذلك إلا أن نتكلم عن موقفهم الذي وقفوه من تفسير القرآن، ثم بعد ذلك نتكلم عن أهم من عرفناه من مفسري المعتزلة، وعن كتبهم التي ألفوها في التفسير، ونسأل الله التوفيق والسداد.
* * *
موقف المعتزلة من تفسير القرآن الكريم
· إقامة تفسيرهم على أصولهم الخمسة:
أقام المعتزلة مذهبهم على الأصول الخمسة التي ذكرناها آنفا، ومن المعلوم أن هذه الأصول لا تتفق ومذهب أهل السنة والجماعة، الذين يعتبرون أهم خصومهم، لهذا كان من الضروري لهذه الفرقة ـ فرقة المعتزلة ـ في سبيل مكافحة خصومها، أن تقيم مذهبها وتدعم تعاليمها على أسس دينية من القرآن، وكان لابد لها أيضا أن ترد الحجج القرآنية لهؤلاء الخصوم وتضعف من قوتها، وسبيل ذلك كله هو النظر إلى القرآن أولا من خلال عقيدتهم، ثم إخضاعهم عبارات القرآن لآرائهم التي يقولون بها، وتفسيرهم لها تفسيرا يتفق مع نحلتهم وعقيدتهم.
ولا شك أن مثل هذا التفسير الذي يخضع للعقيدة، يحتاج إلى مهارة كبيرة، واعتماد على العقل أكثر من الاعتماد على النقل، حتى يستطيع المفسر الذي هذا حاله، أن يلوي العبارة إلى جانبه، ويصرف ما يعارضه عن معارضته له وتصادمه معه.
والذي يقرأ تفسير المعتزلة، يجد أنهم بنوا تفسيرهم على أسسهم من التنزيه المطلق والعدل وحرية الإرادة، وفعل الأصلح، ونحو ذلك ووضعوا أسسا للآيات التي ظاهرها التعارض فحكموا العقل، ليكون الفيصل بين المتشابهات وقد كان من قبلهم يكتفون بمجرد النقل عن الصحابة أو التابعين، فإذا جاءوا إلى المتشابهات سكتوا وفوضوا العلم لله.
* * *
· إنكار المعتزلة لما يعارضهم من الأحاديث الصحيحة:
ثم إن هذا السلطان العقلي المطلق، قد جر المعتزلة إلى إنكار ما صح من الأحاديث التي تناقض أسسهم وقواعدهم المذهبية، كما أنه نقل التفسير الذي كان يعتمد أولا وقبل كل شئ على الشعور الحي، والإحساس الدقيق، والبساطة في الفهم وعدم التكلف والتعمق، إلى مجموعة من القضايا العقلية، والبراهين المنطقية، مما يشهد للمعتزلة ـ رغم اعتزالهم ـ بقوة العقل وجودة التفكير.
ومع أن هذا السلطان العقلي المطلق، كان له الأثر الأكبر في تفسير المعتزلة للقرآن، حتى اضطرهم في بعض الأحيان إلى رد ما يعارضهم من الأحاديث الصحيحة، فإنا لا نستطيع أن نقول أن المعتزلة كانوا يقصدون الخروج على الحديث أو عدم الاعتراف بالتفسير المأثور، وذلك لأن حالهم بإزاء التفسير المأثور وتصديقهم له، يظهر بأجلى وضوح من حكم النظام على استرسال المفسرين من معاصريه.
وكان النظام معتبرا في مدرسة المعتزلة من الرؤوس الحرة الواسعة الحرية وقد ذكر لنا تلميذه الجاحظ قوله الذي قاله في شأن هؤلاء المفسرين وهذا نصه: قال الجاحظ كن أبو إسحاق يقول: لا تسترسلوا إلى كثير من المفسرين وإن نصبوا أنفسهم للعامة وأجابوا في كل مسألة فإن كثيرا منهم يقول بغير رواية على غير أساس وكلما كان المفسر اغرب عندهم كان أحب إليهم، وليكن عندكم عكرمة والكلبي، والسدي، والضحاك، ومقاتل بن سليمان، وأبو بكر الأصم، في سبيل واحدة وكيف أثق تفسيرهم واسكن إلى صوابهم وقد قالوا في قوله عز وجل: } وأن المساجد لله {.(1)} أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت {(1) .. أنه ليس يعني الجمال والنوق، وإنما يعني السحاب ـ وإذا سئلوا عن قوله: } وطلح منضود {(2) .. قالوا الطلح هو الموز ـ وجعلوا الدليل على أن شهر رمضان قد كان فرضا على جميع الأمم وإن الناس غيروه قوله تعالى: } كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم {(3). وقالوا في قوله تعالى : } رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا { (4)} ويل للمطففين {.(5)} قل أعوذ برب الفلق {.. قالوا: الفلق واد في جهنم ثم قعدوا يصفونه وقال آخرون: الفلق المقطرة بلغة اليمن .. إلى آخر ما ذكره من تفسيراتهم الغريبة(6).. الويل : واد في جهنم ثم قعدوا يصفون ذلك الوادي ومعنى الويل في كلام العرب معروف، وكيف كان في الجاهلية قبل الإسلام، وهو من أشهر كلامهم ـ وسئلوا عن قوله تعالى : قالوا: أنه حشره بلا حجه ـ وقالوا في قوله تعالى: . إن الله عز وجل لم يعن بهذا الكلام مساجدنا التي نصلي فيها، بل إنما عنى الجباه وكل ما سجد الناس عليه من يد وجبهة وانف وثفنة ـ وقالوا في قوله تعالى:
هذا وان الزمخشري ـ وهو أهم من عرفنا من مفسري المعتزلة ـ نجده كثيرا ما يذكر ما جاء عن الرسول r أو عن السلف من التفسير ويعتمد على ما يذكر من ذلك في تفسيره.
فمثلا عن تفسيره لقوله تعالى في الآيتين (41،42) من سورة الأحزاب: } يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيراً، وسبحوه بكرة وأصيلا {.. يقول ما نصه: ((اذكروا الله)) اثنوا عليه بضروب الثناء، من التقديس والتحميد والتهليل والتكبير وما هو أهله، وأكثروا ذلك ((بكرة وأصيلا)) أي كافة الأوقات، قال رسول الله r : ((ذكر الله على فم كل مسلم)) وروى: ((في قلب كل مسلم)) وعن قتادة : ((قولوا سبحان الله والحمد لله، ولا اله إلا الله، والله اكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم)) وعن مجاهد: ((هذه كلمات يقولها الطاهر والجنب والغفلان)) أعني اذكروا وسبحوا موجهان إلى البكرة والأصيل، كقولك صم وصل يوم الجمعة ..الخ))(7)
* * *

· ادعاؤهم أن كل محاولاتهم في التفسير بمرادة لله:
ثم أن المعتزلة ـ بناء على رأيهم في الاجتهاد، من أن الحكم ما أدى إليه اجتهاد كل مجتهد، فإذا اجتهدوا في حادثة فالحكم عند الله تعالى في حق كل واحد مجتهدة(1) ـ رفضوا أن يكون للآية التي تحتمل أوجها تفسيرا واحدا لا خطأ فيه، وحكموا على جميع محاولاتهم التي حاولوها في حل المسائل الموجودة في القرآن بأنها مرادة لله تعالى، وغاية ما قطعوا به هو عدم إمكان التفسير المخالف لمبادئهم وآرائهم.
وبدهي أن هذا الذي ذهب إليه المعتزلة يخالف مذهب أهل السنة من أن لكل آية من القرآن معنى واحد مرادا لله تعالى، وما عداه من المعاني المحتملة فهي محاولات واجتهادات، يراد منها الوصول إلى مراد الله بدون قطع، غاية الأمر أن المفسر يقول باجتهاده والمجتهد قد يخطئ وقد يصيب وهو مأجور في الحالتين وان كان الأجر على تفاوت.
· المبدأ اللغوي في التفسير وأهميته لدى المعتزلة:
كذلك نجد المعتزلة قد حرصوا كل الحرص على الطريقة اللغوية التي تعتبر عندهم المبدأ الأعلى لتفسير القرآن، وهذا المبدأ اللغوي، يظهر أثره واضحا في تفسيرهم للعبارات القرآنية التي لا يليق ظاهرها عندهم بمقام الألوهية، أو العبارات التي تحتوي على التشبيه، أو العبارات التي تصادم بعض أصولهم ، فنراهم يحاولون أولا أبطال المعنى الذي يرونه مشتبها في اللفظ القرآني، ثم يثبتون لهذا اللفظ معنى موجودا في اللغة يزيل هذا الاشتباه ويتفق مع مذهبهم ويستشهدون على ما يذهبون إليه من المعاني التي يحملون ألفاظ القرآن عليها بأدلة من اللغة والشعر العربي القديم.
فمثلا الآيات التي تدل على رؤية الله تعالى كقوله سبحانه في الآيتين (22،23) من سورة القيامة : } وجوه يؤمئذ ناضرة، إلى ربها ناظرة {.. وقوله تعالى في الآية (23) من سورة المطففين: } على الأرائك ينظرون { نجد المعتزلة ينظرون إليها بعين غير العين التي ينظر بها أهل السنة، ويحاولون بكل ما يستطيعون أن يطبقوا مبدأهم اللغوي حتى يتخلصوا من الورطة التي أوقعهم فيها ظاهر اللفظ الكريم، فإذا بهم يقولون: إن النظر إلى الله معناه الرجاء والتوقع للنعمة والكرامة، واستدلوا على ذلك بأن النظر إلى الشئ في العربية ليس مختصا بالرؤية المادية، واستشهدوا على ذلك بقول الشاعر:
وإذ نظرت إليك من ملك والبحر دونك زدتني نعماً.
ومثلا عندما يقرأ المعتزلي قوله تعالى في الآية (31) من سورة الفرقان: } وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين {.. يجد أن مذهبه الذي يقول بوجوب الصلاح والأصلح على الله لا يتفق وهذا الظاهر من معنى الجعل، ولكن سرعان ما يتخلص من هذه الضائقة العالم المعتزلي الكبير أبو على الجبائي فيفسر ((جعل)) بمعنى ((بين)) لا بمعنى خلق ويستدل على ذلك بقول الشاعر:
جعلنا لهم نهج الطريق فأصبحوا على ثبت من أمرهم حين يمموا
r قد سحر، ولم يقفوا طويلا أمام ما يعارضهم من سورة الفلق، بل تخلصوا بتأويلات ثلاث ذكرها الزمخشري في كشافه (جزء 2 ص 568)
كذلك تمرد بعض أعلام المعتزلة كالنظام على الاعتقاد بوجود الجن، وثار بعضهم كالزمخشري ضد من يقول بأن الجن لها قوة التأثير في الإنسان مع الاعتراف منه بوجودها في نفسها، فأولوا ما يصادمهم من الآيات القرآنية ، وأنكروا أو تأولوا ما صح من الأحاديث النبوية، كالحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري، وفيه: إن شيطانا من الجن عرض للنبي r وهو في الصلاة يريد أن يشغله عنها فأمكنه الله منه، وكالحديث الصحيح الثابت عن رسول الله r وهو ((ما من مولود يولد إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل صارخا من مس الشيطان إياه إلا مريم وابنها))(1).
كذلك تمرد المعتزلة على الاعتقاد بكرامات الأولياء، واعتمدوا في تمردهم هذا على قول الله تعالى في الآيتين (26،27) من سورة الجن: } عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا، إلا من ارتضى من رسول {.. نرى الزمخشري يستنتج من هذه الآية: ((أنه تعالى لا يطلع على الغيب إلا المترضي، الذي هو مصطفى للنبوة خاصة، لا كل مرتضي وفي هذا إبطال للكرامات، لأن الذين تضاف إليهم وان كانوا أولياء مرتضين فليسوا برسل، وقد خص الله الرسل من بين المرتضين بالاطلاع على الغيب وإبطال الكهانة والتنجيم، لأن أصحابهما ابعد شئ عن الارتضاء وادخله في السخط))(2).
وبعد فإن المعتزلة لم يقفوا هذا الموقف الذي لا يتفق مع معتقدات أهل السنة ولم يعطوا العقل هذا السلطان الواسع في التفسير، إلا من أجل أن يبعدوا ـ كما يزعمون ـ كل الأساطير الخرافية عن محيط الحقائق الدينية، وليربطوا بين القرآن وبين عقيدتهم التي قامت على التوحيد الخالص من كل شائبة.
ولكن هل وقف أهل السنة حيال هذه المحاولات الاعتزالية في فهم نصوص القرآن الكريم موقف التسليم لها والرضا بها؟ أو أغضبهم هذا التصرف من خصومهم المعتزلة؟ الحق أن هذا التصرف من المعتزلة أثار عليهم خصومهم أهل السنة، واستعداهم عليهم، فرموهم بالعبارات اللاذعة، واتهموهم بتحريف النصوص عن مواضعها، تمشيا مع الهوى ميلا مع العقيدة وقد مر بك آنفا مقالة ابن قتيبة وفيها يشدد عليهم النكير من اجل مسلكهم اللغوي في التفسير.
* * *
· حكم الإمام أبي الحسن الأشعري على تفسير المعتزلة:
وهذا هو الإمام أبو الحسن الأشعري، يحكم على تفسير المعتزلة بأنه زيغ وضلال، وذلك حيث يقول في مقدمة تفسيره المسمى بالمختزن والذي لم يقع لنا ((أما بعد، فإن أهل الزيغ والتضليل تأولوا القرآن على آرائهم، وفسروه على أهوائهم: تفسيرا لم ينزل الله به سلطانا، ولا أوضح به برهانا، ولا رووه عن رسول رب العالمين، ولا عن أهل بيته الطيبين، ولا عن السلف المتقدمين، من الصحابة والتابعين، افتراءا على الله ، قد ضلوا وما كانوا مهتدين.
وإنما اخذوا تفسيرهم عن أبي الهذيل بياع العلف ومتبعيه وعن إبراهيم نظام الحرز ومقلديه، وعن الفوطي وناصريه، وعن المنسوب إلى قرية جبي ومنتحليه، وعن الاشج جعفر بن حرب ومجتبييه، وعن جعفر بن مبشر القصبي ومتعصبيه، وعن الاسكافي الجاهل ومعظميه، وعن الفروي المنسوب إلى مدينة بلخ وذويه، فأنهم قادة الضلال من المعتزلة الجهال، الذين قلدوهم في دينهم، وجعلوهم معولهم الذي عليه يعولون، وركنهم الذي إليه يستندون.
ورأيت الجبائي ألف في تفسير القرآن كتابا، أوله على خلاف ما انزل الله عز وجل، وعلى لغة أهل قريته المعروفة بجبي، وليس من أهل اللسان الذي نزل به القرآن، وما روي في كتابه حرفا عن احد من المفسرين، وإنما اعتمد على ما وسوس به صدره وشيطانه ، ولولا أنه استغوى بكتابه كثيرا من العوام، واستنزل به عن الحق كثيرا من الطغام، لم يكن لتشاغلي به وجه))(1).
· حكم ابن تيمية على تفسير المعتزلة:
كذلك حكم ابن تيمية على تفسيرهم فقال: ((إن مثل هؤلاء اعتقدوا رأيا ثم حملوا ألفاظ القرآن عليه، وليس لهم سلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا من أئمة المسلمين، لا في رأيهم ولا في تفسيرهم، وما من تفسير من تفاسيرهم الباطلة إلا وبطلانه يظهر من وجوه كثيرة، وذلك من جهتين: تار من العلم بفساد قولهم، وتارة من العلم بفساد ما فسروا به القرآن إما دليلا على قولهم، أو جوابا على المعارض لهم، ومن هؤلاء من يكون حسن العبارة فصيحا ويدس البدع في كلامه وأكثر الناس لا يعلمون، كصاحب الكشاف، ونحوه، حتى أنه يروج على خلق كثير ممن لا يعتقد الباطل من تفاسيرهم الباطلة ما شاء الله، وقد رأيت من العلماء المفسرين وغيرهم من يذكر في كتابه وكلامه من تفسيرهم ما يوافق أصولهم التي يعلم أو يعتقد فسادها ولا يهتدي لذلك))(1).
* * *
· حكم ابن القيم على تفسير المعتزلة:
كذلك نجد العلامة ابن القيم يحكم على تفسير المعتزلة حكما قاسيا فيقول: ((أنه زبالة الأذهان، ونخالة الأفكار، وعفار الآراء، ووساوس الصدور، فملأوا به الأوراق سواداً، والقلوب شكوكا، والعالم فسادا، وكل من له مسكة من عقل يعلم أن فساد العالم إنما نشأ من تقديم الرأي على الوحي، والهوى على العقل))(2).
* * *

أهم كتب التفسير الإعتزالي
صنف كثير من شيوخ المعتزلة تفاسير للقرآن الكريم على أصول مذهبهم، ولم تكن هذه التفاسير أكثر حظا من غيرها من كتب التفسير المختلفة، حيث امتدت إلى كثير منها يد الزمان، فضاعت بتقادم العهد عليها، وحرمت المكتبة الإسلامية العامة من معظم هذا التراث العلمي الذي لو بقى إلى يومنا هذا لألقى لنا ضوءا واضحا على مدى التفكير التفسيري، لشيوخ هذا المذهب الاعتزالي، ولكشف لنا عن حقيقة ما ينسب لبعض شيوخهم من تفسيرات واسعة النطاق، نسمع بها من علمائنا المتقدمين، ونقف منها موقف الحائر بين الشك واليقين، لما يذكر عنها من الاستفاضة والتضخم إلى حد يكاد يكون متخيلا أو مبالغا فيه.
نتصفح طبقات المفسرين للسيوطي، وطبقات المفسرين لتلميذه الداودي، وغيرهما من الكتب التي لها عناية بهذا الشأن، فنجد أن من أشهر من صنف في التفسير من المعتزلة: أبو بكر، عبد الرحمن بن كيسان الأصم المتوفى سنة 240 هـ (أربعين ومائتين من الهجرة) أقدم شيوخ المعتزلة، وشيخ إبراهيم بن إسماعيل بن علية الذي كان يناظر الشافعي، فقد ذكر ابن النديم في الفهرست:
أنه ألف تفسيرا للقرآن الكريم(1)، ولكنا لا نعلم عن هذا التفسير خبرا، حيث أنه فقد بمرور الزمن وتقادم العهد عليه.
ومحمد بن عبد الوهاب بن سلام (أبو على الجبائي) المتوفى سنة 303هـ (ثلاث وثلاثمائة من الهجرة) واحد شيوخ المعتزلة الذين كانت لهم شهرة واسعة في الفلسفة والكلام، فقد ذكر السيوطي في طبقات المفسرين(2): أنه ألف في التفسير وذكر ذلك ابن النديم في الفهرست أيضا ولكنا لا نعلم شيئا عن هذا التفسير أكثر مما ذكرناه آنفا عن أبي الحسن الأشعري(3).
وأبو القاسم، عبدالله بن احمد البلخي الحنفي، المعروف بالكعبي المعتزلي، المتوفى سنة 319هـ (تسع عشرة وثلاثمائة من الهجرة) فقد ذكر صاحب كشف الظنون: أنه ألف تفسيرا كبيرا يقع في أثنى عشر مجلدا وقال: أنه لم يسبق إليه(4) ولكن لنا هذا التفسير كغيره.
وأبو هاشم عبد السلام بن أبي على الجبائي المتوفى سنة 31هـ (أحدى وعشرين وثلاثمائة من الهجرة)، ذك
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
صانع المعروف
صانع المعروف


عدد المساهمات : 179
نقاط : 23882
تاريخ التسجيل : 25/06/2011

الكتاب الاسطورة مناهج المفسرين  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الكتاب الاسطورة مناهج المفسرين    الكتاب الاسطورة مناهج المفسرين  I_icon_minitimeالسبت أغسطس 13, 2011 2:24 pm

اهتمام الزمخشري بالناحية البلاغية للقرآن:
عندما يلقى الإنسان نظرة فاحصة على العمل التفسيري الذي قام به العلامة الزمخشري في كشافه، يظهر له من أول وهلة، إن المبدأ الغالب عليه في جهوده التفسيرية، كان في تبيين ما في القرآن من الثروة البلاغية التي كان لها كبير الأثر في عجز العرب عن معارضته والإتيان بأقصر سورة من مثله، والذي يقرأ ما أورده الزمخشري عند تفسيره لكثير من الآيات من ضروب الاستعارات، والمجازات، والأشكال البلاغية الأخرى، يرى أن الزمخشري كان يحرص كل الحرص على أن يبرز في حلة بديعة جمال أسلوبه وكمال نظمه، إنا لنكاد نقطع ـ إذا استعرضنا كتب التفسير وتأملنا مبلغ عنياتها باستخراج ما يحتويه القرآن من ثروة بلاغية في المعاني والبيان ـ بأنه لا يوجد تفسير أوسع مجالا في جهوده في هذا الصدد من تفسير الزمخشري.
ولقد كانت لعناية الزمخشري بهذه الناحية في تفسيره من الأثر بين المفسرين وبين مواطنيه من المشارقة ما هو واضح بين.
أما أثره بين المفسرين فإن كل من جاء بعده منهم ـ حتى من أهل السنة ـ استفادوا من تفسيره فوائد كثيرة كانوا لا يلتفتون إليها لولاه، فأوردوا في تفسيرهم ما ساقه الزمخشري في كشافه من ضروب الاستعارات، والمجازات والأشكال البلاغية الأخرى، واعتمدوا ما نبه عليه الزمخشري من نكات بلاغية، تكشف عما دق من براعة نظم القرآن وحسن أسلوبه.
وليس عجبا أن يعتمد خصوم الزمخشري كغيرهم على كتاب الكشاف، وينظروا إليه كمرجع مهم من مراجع التفسير في هذه الناحية، بعد ما قدروا هذه الناحية البلاغية في تفسير القرآن، وبعدما علموا أن الزمخشري هو سلطان هذه الطريقة غير مدافع.
وأما أثره بين مواطنيه من المشارقة، فأنهم أخذوا عنه هذا الفن البلاغي وبرعوا فيه، حتى سبقوا من عداهم من المغاربة، وقد بين ابن خلدون في مقدمته ـ عند الكلام عن علم البيان ـ ما لتفسير الزمخشري من الأثر في براعة المشارقة في هذا الفن فقال:
((.. وبالجملة، فالمشارقة على هذا الفن أقوم من المغاربة، وسببه ـ والله اعلم ـ أنه كمالي في العلوم اللسانية، والصنائع الكمالية توجد في العمران والمشرق أوفر عمرانا من المغرب كما ذكرنا، أو نقول لعناية العجم ـ وهم معظم أهل المشرق ـ بتفسير الزمخشري وهو كله مبني على هذا الفن وهو أصله))(1).
ثم إنا نستعرض هذه الروح البلاغية التي تسود في تفسير الزمخشري فنشهدها واضحة من أول الأمر عندما أتكلم عن قوله تعالى في الآية (2) من سورة البقرة: } هدى للمتقين { .. فبعد أن ذكر كل الاحتمالات التي تجوز في محل هذه الجملة من الإعراب نبه على أن الواجب على مفسر كلام الله تعالى أن يلتفت للمعاني ويحافظ عليها، ويجعل الألفاظ تبعا لها، فقال ما نصه : ((..والذي هو ارسخ عرقا في البلاغة أن يضرب عن هذه المحال صفحا وأن يقال: إن قوله : } ألم { جملة برأسها أو طائفة من حروف المعجم مستقلة بنفسها } وذلك الكتاب { جملة ثانية و } لا ريب فيه { ثالثة و } هدى للمتقين { .. رابعة، وقد أصيب بترتيبها مفصل البلاغة، وموجب حسن النظم حيث جئ بها متناسقة هكذا من غير حرف نسق، وذلك لمجيئها متآخية آخذا بعضها بعنق بعض، فالثانية متحدة بالأولى معتنقة لها ... وهلم جرا إلى الثالثة والرابعة، بيان ذلك: أنه نبه أولا على أنه الكلام المتحدي به ثم اشري إليه بأنه الكتاب المبعوث بغاية الكمال فكان تقريرا لجهة التحدي وشدا من أعضاده، ثم نفى عنه أنه يتشبث به طرف من الريب، فكان شهادة وتسجيلا بكماله، لأنه لا كمال أكمل مما للحق واليقين، ولا نقص أنقص مما للباطل والشبهة. وقيل لبعض العلماء: فيم لذتك؟ فقال: في حجة تتبختر اتضاحا، وفي شبهة تتضاءل افتضاحا، ثم اخبر عنه بأنه هدى للمتقين، فقرر بذلك كونه يقينا لا يحوم الشك حوله، وحقا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ونظمت هذا النظم السري، ثم لم تخل كل واحدة من الأربع بعد أن رتبت هذا الترتيب الأنيق، ونظمت هذا النظم السري، من نكتة ذات جزالة، ففي الأولى: الحذف، والرمز إلى الغرض بألطف وجه وأرشفة، وفي الثانية: ما في التعريف من الفخامة، وفي الثالثة: ما في تقديم الريب على الظرف، وفي الرابعة: الحذف، وضع المصدر الذي هو هدي موضع الوصف الذي هو هاد، وإيراده منكرا، والإيجاز في ذكر المتقين، زادنا الله اطلاعا على أسرار كلامه، وتبينا لنكت تنزيله، وتوفيقا للعمل بما فيه)).

* * *
· تذرعه بالمعاني اللغوية لنصرة مذهبه الاعتزالي:
كذلك نرى الزمخشري ـ كغيره من المعتزلة ـ إذا بلفظ يشتبه عليه ظاهره ولا يتفق مع مذهبه، يحاول بكل جهوده أن يبطل هذا المعنى الظاهر، وأن يثبت للفظ معنى آخر موجودا في اللغة.
فمثلا نراه عندما تعرض لتفسير قوله تعالى في الآيتين (23،22) من سورة القيامة : } وجوه يومئذ ناضرة. إلى ربها ناظرة {.. يتخلص من المعنى الظاهر لكلمة ناظرة، لأنه لا يتفق مع مذهبه الذي لا يقول برؤية الله تعالى، ونراه يثبت له معنى آخر هو التوقع والرجاء، ويستشهد على ذلك بالشعر العربي فيقول ما نصه: } إلى ربها ناظرة {.. تنظر إلى ربها خاصة لا تنظر إلى غيره، وهذا معنى تقديم المفعول، ألا ترى إلى قوله: } إلى ربك يومئذ المستقر {.(1)} إلى ربك يومئذ المساق { (2)} إلى الله تصير الأمور{.(3)} وإلى الله المصير {.(4)} وإليه ترجعون {.(5)} عليه توكلت وإليه أنيب {.(6). كيف دل فيها التقديم على معنى الاختصاص، ومعلوم أنهم ينظرون إلى أشياء لا يحيط بها الحصر، ولا تدخل تحت العدد، وفي محشر يجتمع فيه الخلائق كلهم، فإن المؤمنين نظارة ذلك اليوم، لأنهم الآمنون الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فاختصاصه بنظرهم إليه لو كان منظورا إليه محال، فوجب حمله على معنى يصح معه الاختصاص، والذي يصح معه، أن يكون من قول الناس: أنا إلى فلان ناظر ما يصنع بي، تريد معنى التوقع والرجاء، ومنه قول القائل:. . . .. .
وإذا نظرت إليك من ملك والبحر دونك زدتني نعما
وسمعت سروية(7) مستجدية بمكة وقت الظهر، حين يغلق الناس أبوابهم ويأوون إلى مقائلهم، تقول: ((عيينتي نويظرة إلى الله وإليكم)) والمعنى: أنهم لا يتوقون النعمة والكرامة إلا من ربهم، كما كانوا في الدنيا لا يخشون ولا يرجون إلا إياه))(Cool.
* * *
· اعتماد على الفروض المجازية ، وتذرعه بالتمثيل والتخييل فيما يستبعد ظاهره:
كذلك نرى الزمخشري يعتمد في تفسيره على الفروض المجازية في الكلام الذي يبدو في حقيقته بعيدا وغريبا.
فمثلا عند قوله تعالى في الآية (72) من سورة الأحزاب: } إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال {.. الآية ، يقول ما نصه: ((وهو يريد بالأمانة الطاعة، فعظم أمرها، وفخم شأنها وفيه وجهان:
أحدهما ـ إن هذه الأجرام العظام من السموات والأرض والجبال قد انقادت لأمر الله عز وعلا انقياد مثلها، وهو ما يتأتى من الجمادات، وأطاعت له الطاعة التي تصح منها وتليق بها، حيث لم تمتنع على مشيئته وأرادته إيجادا، وتكوينا، وتسوية على هيئات مختلفة وأشكال متنوعة، كما قال: } قالتا أتينا طائعين {(1).. وأما الإنسان فلم تكن حاله فيما يصح منه من الطاعات ويليق به من الانقياد لأوامر الله ونواهيه ـ وهو حيوان عاقل صالح للتكليف ـ مثل حال تلك الجمادات فيما يصح منها ويليق بها من الانقياد وعدم الامتناع. والمراد بالأمانة الطاعة لأنها لازمة الوجود، كما إن الأمانة لازمة الأداء، وعرضها على الجمادات وإباؤها وإشفاقها مجاز، وأما حمل الأمانة فمن قولك فلان حامل للأمانة ومحتمل لها، تريد أنه لا يؤديها إلى صاحبها حتى تزول عن ذمته ويخرج عن عهدتها، لأن الأمانة كأنها راكبة للمؤتمن عليها وهو حاملها ألا تراهم يقولون: ركبته الديون، ولي عليه حق.. فإذا أداها لم تكن راكبة له ولا هو حاملا لها، ونحوه قولهم: لا يملك مولى لمولى نصرا، يريدون أنه يبذل النصرة له ويسامحه بها ولا يمسكها الخاذل، ومنه قول القائل:
أخوك الذي لا تملك الحس(2) نفسه............ وترفض عند المحفظات الكتائف
أي لا يمسك الرقة والعطف إمساك المالك الضنين ما في يده، بل يبذل ذلك ويسمح به، ومنه وقولهم: ابغض حق أخيك، لأنه إذا أحبه لم يخرجه إلى أخيه ولم يؤده، وإذا ابغضه أخرجه وأداه، فمعنى: } فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان {.. فأبين إلا أن يؤدينها وأبى الإنسان إلا أن يكون محتملا لها لا يؤديها، ثم وصفه بالظلم لكونه تاركا لأداء الأمانة وبالجهل لإخطائه ما يسعده مع تمكنه منه وهو أداؤه.
والثاني ـ إن ما كلفه الإنسان بلغ من عظمه وثقل محمله أنه عرض على أعظم ما خلق الله من الأجرام وأقواه وأشده أن يتحمله ويستقل به، فأبى حمله والاستقلال به، وأشفق منه، وحمله الإنسان على ضعفه ورخاوة قوته } أنه كان ظلوما جهولا { حيث حمل الأمانة ثم لم يف بها، وضمنها ثم خاس بضمانه فيها: ونحو هذا الكلام كثير في لسان العرب وما جاء القرآن إلا على طرقهم وأساليبهم، من ذلك قولهم ((لو قيل للشحم أين تذهب لقال: أسوي العوج)) وكم لهم من أمثال على السنة البهائم والجمادات، وتصور مقاولة الشحم محال ولكن الغرض أن السمن في الحيوان مما يسحن قبيحه، كما إن العجف مما يقبح حسنه، فصور أثر السمن فيه تصويرا هو أوقع في نفس السامع وهي به آنس وله اقبل وعلى حقيقته أوقف وكذلك تصوير عظم الأمانة وصعوبة أمرها وثقل محملها والوفاء بها.
وهنا تقوم أمام الزمخشري صعوبات ومشاكل يصورها لنا في سؤاله: ((فإن قلت: قد علم وجه التمثيل في قولهم للذي لا يثبت على رأي واحد: أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى، لأنه مثلت حاله في تميله وترجحه بين الرأيين، وتركه المضي على أحدهما، بحال من يتردد في ذهابه فلا يجمع رجليه للمضي في وجهة وفي كل واحد من الممثل والممثل به شئ مستقيم داخل تحت الصحة والمعرفة، وليس كذلك ما في هذه الآية، فإن عرض الأمانة على الجماد، وإباءه وإشفاقه محال في نفسه غير مستقيم، فكيف صح بناء التمثيل على المحل؟ وما مثال هذا إلا أن تشبه شيئا والمشبه به غير معقول)).
ولكن الزمخشري لا يقف طويلا أمام هذه الصعوبات، بل نراه يتخلص منها بكل دقة وبراعة حيث يقول: ((قلت الممثل به في الآية، وفي قولهم لو قيل للشحم أين تذهب، وفي نظائره، مفروض ، والمفروضات تخيل في الذهن كما المحققات مثلت حال التكليف في صعوبته وثقل محمله بحاله المفروضة لو عرضت على السموات والأرض والجبال لأبين أن يحملنها وأشفقن منها))(1).
ثم إن هذه الطريقة التي يعتمد عليها الزمخشري في تفسيره اعني طريقة الفروض المجازية وحمل الكلام الذي يبدو غريبا في ظاهره على أنه من قبيل التعبيرات التمثيلية أو التخييلية قد أثارت حفيظة خصمه السني ابن المنير الاسكندري عليه، فاتهمه بأشنع التهم في كثير من المواضع التي تحمل هذا الطابع، ونسبه فيها إلى قلة الأدب وعدم الذوق.
فمثلا عندما يعرض الزمخشري لقوله تعالى في الآية: (21) من سورة الحشر } لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله، وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون {.. نراه يقول "هذا تمثيل وتخييل كما مر في قوله تعالى: } إنا عرضنا الأمانة { .. وقد دل عليه قوله : } وتلك الأمثال نضربها للناس {.. والغرض توبيخ الإنسان على قسوة قلبه وقلة تخشعه عند تلاوة القرآن وتدبر قوارعه وزواجره))(2)
ولكن هذا قد اغضب ابن المنير على الزمخشري فقال معقبا عليه ((وهذا مما تقدم إنكاري عليه فيه، أفلا كان يتأدب بأدب الآية، حيث سمي الله هذا مثلا، ولم يقل: تلك الخيالات نضربها للناس؟ ألهمنا الله حسن الأدب معه، والله الموفق))(1).
ولكن الزمخشري ولع بهذه الطريقة، فمشى عليها من أول تفسيره إلى آخره ولم يقبل المعاني الظاهرة التي يجوزها أهل السنة بل ويرونها أقرب إلى الصواب من غيرها، وهو في كل ما يذكر من المعاني لا يعدم مثلا عربيا سائرا، أو بيتا من الشعر القديم يشهد لما يقوله، كما أنه لا ينفك عن التنديد بأهل السنة الذين يقبلون هذه المعاني الظاهرة ويقولون بها، وكثيرا ما ينسبهم من اجل ذلك إلى أنهم من أهل الأوهام والخرافات(3) وإليك بعض الأمثلة لتقف على مقدار تمسكه بهذه الطريقة:
ففي سورة البقرة عند قوله تعالى في الآية (255): } وسع كرسيه السموات والأرض { .. يذكر الزمخشري أربعة أوجه في معنى الكرسي، يقول في الوجه الأول منها: إن كرسيه لم يضق عن السموات والأرض لبسطته وسعته، وما هو إلا تصوير لعظمته وتخييل فقط ولا كرسي ثمة، ولا قعود ولا قاعد كقوله: } وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه {(3).. من غير تصور قبضة وطي ويمين وإنما هو تخييل لعظمة شأنه وتمثيل حسن ألا ترى إلى قوله : } وما قدروا الله حق قدره {..
وبطبيعة الحال لم يرتض ابن المنير هذا الكلام فتعقبه بقوله: ((قوله في الوجه الأول: إن ذلك تخييل للعظمة، سوء أدب في الإطلاق، وبعد في الإصرار فإن التخييل إنما يستعمل في الأباطيل وما ليست له حقيقة صدق، فإن يكن معنى ما قاله صحيحا، فقد أخطأ في التعبير عنه بعبارة موهمة، لا مدخل لها في الأدب الشرعي، وسيأتي له أمثالها مما يوجب الأدب أن يجتنب)).
وفي سورة الأعراف عند قوله تعالى في الآيتين (173،172): } وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم الست بربكم، قالوا بلى شهدنا، أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين، أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم، أفتهلكنا بما فعل المبطلون { يقول ما نصه: وقوله: } الست بربكم، قالوا بلى شهدنا { من باب التمثيل ومعنى ذلك أنه نصب لهم الأدلة على ربوبيته ووحدانيته، وشهدت بها عقولهم وبصائرهم التي ركبها فيهم، وجعلها مميزة بين الضلالة والهدى، فكأنه أشهدهم على أنفسهم وقررهم، وقال لهم : } الست بربكم {؟ وكأنهم قالوا: بلى أنت ربنا، شهدنا على أنفسنا، وأقررنا بوحدانيتك، وباب التمثيل واسع في كلام الله تعالى ورسوله عليه السلام وفي كلام العرب ونظيره قوله تعالى: } إنما قولنا لشئ إذا أردناه أن نقول له كن فيكون {(1) } فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها، قالتا أتينا طائعين { (2).. وقوله:
إذا قالت الأنساع للبطن الحق ............ قالت له ريح الصبا قرقار
ومعلوم أنه لا قبول، وإنما هو تمثيل وتصوير للمعنى))(3).
ولكن ابن المنير السني لم يرض هذا من الزمخشري بطبيعة الحال، ولذا تعقبه بقوله: ((إطلاق التمثيل أحسن، وقد ورد الشرع به، وأما إطلاقه التخييل على كلام الله تعالى فمردود ولم يرد به سمع وقد كثر إنكارنا عليه لهذه اللفظة، ثم إن القاعدة مستقرة على أن الظاهر ما لم يخالف المعقول يجب إقراره على ما هو عليه فكذلك اقره الأكثرون على ظاهره وحقيقته ولم يجعلوه مثالا وأما كيفية الإخراج والمخاطبة فالله اعلم بذلك))(4).
ويتصل بهذه الآية السابقة قوله تعالى في الآية: (Cool من سورة الحديد } ومالكم لا تؤمنون بالله والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم وقد اخذ ميثاقكم إن كنتم مؤمنين {.. فالزمخشري يميل في تفسير الميثاق هنا إلى المعنى الذي حمل عليه اخذ العهد في آية الأعراف فيقول: والمعنى: وأي عذر لكم في ترك الإيمان والرسول يدعوكم إليه، وينبهكم عليه، ويتلو عليكم الكتاب الناطق بالبراهين والحجج، وقبل ذلك قد اخذ الله ميثاقكم بالإيمان حيث ركب فيكم العقول، ونصب لكم الأدلة ومنكم من النظر وأزاح عللكم فإذا لم تبق لكم علة بعد أدلة العقول وتنبيه الرسول فما لكم لا تؤمنون))(5).
ولكن ابن المنير السني، يريد أن يحمل اخذ الميثاق الذي في سورة الحديد، على المعنى الذي ارتضاه للفظ العهد في سورة الأعراف، ولهذا نراه يرد على الزمخشري ويشدد عليه النكير فيقول: وما عليه أن يحمل اخذ الميثاق على ما بينه الله في آية غير هذه، إذ يقول تعالى: } وإذا خذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم الست بربكم، قالوا بلى { ولقد يريبني منه إنكاره لكثير من مثل هذه الظواهر والعدول بها عن حقائقها مع إمكانها عقلا ووقوعها بالسمع قطعا، إلى ما يتوهمه من تمثيل بسميه تخييلا، فالقاعدة التي تعتمد عليها كي لا يضرك ما يومئ إليه: إن كل ما جوزه العقل وورد بوقوعه السمع، وجب حمله على ظاهره ، والله الموفق(1).
ومسألة التمثيل والتخييل يستعملها الزمخشري بحرية أوسع فيما ورد من الأحاديث التي يبدوا ظاهرها مستغربا، وأسوق إليك مثالا آتى به الزمخشري عند تفسيره لقوله تعالى في الآية (36) من سورة آل عمران : } واني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم {.. قال رحمه الله ((ما يروون من الحديث ((ما من مولود إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل صارخا من مس الشيطان إياه إلا مريم وابنها)) فالله اعلم بصحته، فإن صح فمعناه أن كل مولود يطمع الشيطان في إغوائه إلا مريم وابنها، فأنهما كانا معصومين، وكذلك كل من كان في صفتهما، كقوله تعالى: } .. لأغوينهم أجمعين، إلا عبادك منهم المخلصين { (2).. واستهلاله صارخا من مسه ، تخييل وتصوير لطمعه فيه كأنه يمسه ويضرب بيده عليه ويقول: هذا ممن اغويه، ونحوه من التخييل قول ابن الرومي:
لما تؤذن الدنيا به من صروفها .......... يكون بكاء الطفل ساعة يولد
وأما حقيقة المس والنخس كما يتوهم أهل الحشو فكلا ولو سلط أبليس على الناس بنخسهم لامتلأت الدنيا صراخا وعياطا مما يبلونا به من نخسه))(3).
وبالضرورة لم يرتض ابن المنير هذا الصنيع من خصمه المعتزلي، فنراه يتورك عليه بقوله: ((أما الحديث فمذكور في الصحاح متفق على صحته، فلا محيص له إذن عن تعطيل كلامه عليه السلام بتحميله ما لا يحتمله جنوحا إلى اعتزال منتزع في فلسفة منتزعة، في الحاد ظلمات بعضها فوق بعض، وقد قدمت عند قوله تعالى: } لا يقومون لا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس { (4).. ما فيه كفاية وما ارى الشيطان الا طعن في خواصر القدرية حتى بقرها ، وذكر في قلوبهم حتى حمل الزمخشري وأمثاله أن يقول في كتاب الله تعالى وكلام رسوله عليه السلام بما يتخيل، كما قال في هذا الحديث ثم تنظيره بتخييل ابن الرومي في شعره جرأة وسوء أدب، ولو كان معنى ما قاله صحيحا لكانت هذه العبارة واجبا أن تجتنب ولو كان الصراخ غير واقع من المولود لأمكن على بعد أن يكون تمثيلا، أما وهو واقع مشاهد فلا وجه لحمله على التخييل إلا الاعتقاد الضئيل وارتكاب الهوى الوبيل)).
· مبدأ الزمخشري في التفسير عندما يصادم النص القرآني مذهبه:
والمبدأ الذي يسير عليه الزمخشري في تفسيره ويعتمد عليه عندما تصادمه آية تخالف مذهبه وعقيدته، هو حمل الآيات المتشابهة على الآيات المحكمة، وهذا المبدأ قد وجده الزمخشري في قوله تعالى في الآية (7) من سورة آل عمران: } هو الذي انزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات {.. (فالمحكمات) هي التي أحكمت عباراتها، بأن حفظت من الاحتمال والاشتباه، (والمتشابهات) هي المتشبهات المحتملات، (وأم الكتاب) هي أصله الذي يحمل عليه المتشابه ويرد إليه ويفسر به(1).
على هذا التفسير جرى الزمخشري في كشافه عندما نعرض لهذه الآية، وهو تفسير لا غبار عليه، كما إن هذا المبدأ: اعني مبدأ حمل الآيات المتشابهات على الآيات المحكمات، مبدأ سليم يقول به غير الزمخشري أيضا من علماء أهل السنة، ولكن الذي لا نسلمه للزمخشري هو تطبيقه لهذا المبدأ على الآيات التي تصادمه، فإذا مر بآية تعارض مذهبه، وآية أخرى في موضوعها تشهد له بظاهرها، نراه يدعي الاشتباه في الأولى، والإحكام في الثانية، ثم يحمل الأولى على الثانية وبهذا يرضى هواه المذهبي وعقيدته الاعتزالية.
وقد مثل الزمخشري لحمل المتشابه على المحكم ورده إليه بقوله تعالى في الآية (103) من سورة الأنعام } لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار {. وقوله في الآيتين (23،22) من سورة القيامة: } وجوه يومئذ ناضرة، إلى ربها ناظرة {.. فهو يرى أن الآية الأولى محكمة والآية الثانية متشابهة، وعليه فتجب أن تكون الآية الثانية متفقة مع الآية الأولى ولا سبيل إلى ذلك إلا بحملها عليها وردها إليها.
ومثل أيضا بقوله تعالى في الآية (28) من سورة الأعراف: } وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها، قل إن الله لا يأمر بالفحشاء، أتقولون على الله ما لا تعلمون {.. وقوله في الآية (16) من سورة الإسراء: } وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا {.. فهو يرى أن الآية الأولى محكمة، والآية الثانية متشابهة، فلابد من حمل الثانية على الأولى ليتفق المعنى ويتحدد المراد.
ثم لا ينتهي الزمخشري من تطبيقه لهذا المبدأ حتى يتساءل عن ا لسبب الذي من أجله لم يكن القرآن كله محكما، وعن السر الذي من اجله جعل الله في القرآن آيات محتملات متشابهات؟ ولكن الزمخشري يجيب بنفسه على ما تساءل عنه فيقول: ((لو كان كله محكما لتعلق الناس به لسهولة مأخذه ولأعرضوا عما يحتاجون فيه إلى الفحص والتأمل من النظر والاستدلال ولو فعلوا ذلك لعطلوا الطريق الذي لا يتوصل إلى معرفة الله وتوحيده إلا به ولما في المتشابه من الابتلاء والتمييز بين الثابت على الحق والمتزلزل فيه، ولما في تقادح العلماء وإتعابهم القرائح في استخراج معانيه ورده إلى المحكم من الفوائد الجليلة، والعلوم الجمة، ونيل الدرجات عند الله ولأن المؤمن المعتقد أن لا مناقضة في كلام الله ولا اختلاف وإذا رأى به ما يتناقض في ظاهره وأهمه طلب ما يوفق بينه ويجريه على سنن واحد ففكر وراجع نفسه وغيره، ففتح الله عليه، وتبين مطابقة المتشابه المحكم ازداد طمأنينة إلى معتقده وقوة في إيقانه))(1).
وهذا الجواب في منتهى القوة والسداد وابن المنير السني يمر على كل هذا الكلام فلا يرى فيه أدنى ناحية من نواحي الاعتزال لكنه يغضب على الزمخشري فقط من اجل أنه عد قوله تعالى: } وجوه يومئذ ناضرة، إلى ربها ناضرة {... من قبيل المتشابه الذي يجب حمله على آية الأنعام: } لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار {.. فيقول معقبا عليه: قال محمود: ((المحكمات التي أحكمت عباراتها الخ)) قال احمد: هذا كما قدمته عنه من تكلفه لتنزيل الآي على وفق ما يعتقده وأعوذ بالله من جعل القرآن تبعا للرأي، وذلك إن معتقده إحالة رؤية الله تعالى، بناء على زعم القدرية من أن الرؤية تستلزم الجسمية والجهة، فإذا ورد عليهم النص القاطع الدال على وقوع الرؤية كقوله: } إلى ربها ناظرة {.. مالوا إلى جعله من المتشابه حتى يردوه بزعمهم إلى الآية التي يدعون أن ظاهرها يوافق رأيهم، ولآية قوله تعالى: } لا تدركه الأبصار { ثم جمع ابن المنير بين الآيتين بما يتفق مع مذهبه السني.. ثم قال.. وأما الآيتان الأخريان اللتان أحداهما قوله تعالى: } أمرنا مترفيها ففسقوا فيها {.. فلا ينازع الزمخشري في تمثيل المحكم والمتشابه بهما))(2).
* * *

· انتصار الزمخشري لعقائد المعتزلة:
هذا وان الزمخشري ليتنصر لمذهبه الاعتزالي ويؤيده بكل ما يملك من قوة الحجة وسلطان الدليل، وإنا لنلمس هذا التعصب الظاهر في كثير مما أسلفنا من النصوص وفي غيرها مما نسوقه لك من الأمثلة وهو يحرص كل الحرص على أن يأخذ من الآيات القرآنية ما يشهد لمذهبه وعلى أن يتأول ما كان منها معارضا له.
* * *
· انتصاره لرأي المعتزلة في أصحاب الكبائر:
فمثلا عند تفسيره لقوله تعالى في الآية (93) من سورة النساء: } ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جنهم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه واعد له عذابا عظيما {.. نجده يجعل لهذه الآية أهمية كبيرة في نصرة مذهبه ويتيه بها على خصومه من أهل السنة ويندد بهم حيث يقولون بجواز مغفرة الذنب وان لم يتب منه صاحبه وبأن صاحب الكبيرة لا يخلد في النار، فيقول مستغلا لهذه الفرصة المواتية للاستهزاء من خصومه السنيين ((هذه الآية فيها من التهديد والإيعاد والإبراق والإرعاد، أمر عظيم وخطب غليظ ومن ثم روى عن ابن عباس ما روى من أن توبة قاتل المؤمن عمدا غير مقبولة، وعن سفيان: كان أهل العلم إذا سئلوا، قالوا: لا توبة له، وذلك محمول منهم على الاقتداء بسنة الله في التغليظ والتشديد، وإلا فكل ذنب ممحو بالتوبة، وناهيك بمحو الشرك دليلا، وفي الحديث: ((لزوال الدنيا أهون على الله من قتل امرئ مسلم)) وفيه ((لو أن رجلا قتل بالمشرق وآخر رضى بالمغرب لأشرك في دمه)) وفيه: من أعان على قتل مؤمن بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه: آيس من رحمة الله)) والعجب من قوم يقرأون هذه الآية ويرون ما فيها ويسمعون هذه الأحاديث العظيمة وقول ابن عباس بمنع التوبة، ثم لا تدعهم أشعبيتهم وطماعيتهم الفارغة وإتباعهم هواهم، وما يخيل إليهم مناهم أن يطمعوا في العفو عن قاتل المؤمن بغير توبة: } أفلا يتدبرون القرآن ام على قلوب أقفالها { (1).. ثم ذكر الله سبحانه وتعالى التوبة في قتل الخطأ ـ لما عسى يقع من نوع تفريط فيما يجب من الاحتياط والتحفظ ـ فيه حسم للأطماع وأي حسم ولكن لا حياة لمن تنادى فإن قلت: هل فيها دليل على خلود من لم يتب من أهل الكبائر؟ قلت: ما أبين الدليل ، وهو تناول قوله: ((ومن يقتل)) أي قاتل كان من مسلم أو كافر، تائب أو غير تائب، إلا أن التائب أخرجه الدليل فمن ادعى أخراج المسلم غير التائب فليأت بدليل مثله))(1).
وفي سورة الأنعام عند تفسيره لقوله تعالى في الآية (158): } يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا أيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً {.. نجد الزمخشري يمسك بهذه الآية، ويستدل بها على صحة عقيدته في أن الكافر والعاصي سواء في الخلود في النار فيقول (( والمعنى إن أشراط الساعة إذا جاءت ـ وهي آيات ملجئة مضطرة ـ ذهب أوان التكليف عندها، فلم ينفع الإيمان حينئذ نفسا غير مقدمة إيمانها من قبل ظهور الآيات أو مقدمة الإيمان غير كاسبه في إيمانها خيرا فلم يفرق ـ كما يرى ـ بين النفس الكافرة إذا آمنت في غير وقت الإيمان، وبين النفس التي آمنت في وقته ولم تكسب خيرا، ليعلم أن قوله: } الذين آمنوا وعملوا الصالحات {.. جمع بين قرينتين لا ينبغي أن تنفك أحداهما عن الأخرى حتى يفوز صاحبهما ويسعد وإلا فالشقوة والهلاك))(2).
* * *
· انتصاره لمذهب المعتزلة في الحسن والقبح العقليين:
ولم كان الزمخشري يقول بمبدأ المعتزلة في التحسين والتقبيح العقليين، كان لابد له أن يتخلص من ظاهر هذين النصين المنافيين لمذهبه وهما: قوله تعالى في الآية (165) من سورة النساء: } رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل {.. وقوله في الآية (15 من سورة الإسراء: }..وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا {.. فنراه في الآية الأولى يستشعر معارضة ظاهر الآية لهذا المبدأ فيسأل هذا السؤال: ((كيف يكون للناس على الله حجة قبل الرسل وهم محجوجون بما نصبه الله من الأدلة التي النظر فيها موصل إلى المعرفة، والرسل في أنفسهم لم يتوصلوا إلى المعرفة إلا بالنظر في تلك الأدلة ولا عرف أنهم رسل الله إلا بالنظر فيها؟ ثم يجيب هو عن هذا السؤال فيقول: ((قلت)) الرسل منبهون عن الغفلة، وباعثون على النظر كما ترى علماء أهل العدل والتوحيد مع تبليغ ما حملوه من تفصيل أمور الدين وبيان أحوال التكليف وتعليم الشرائع فكان إرسالهم إزاحة للعلة، وتتميما لإلزام الحجة لئلا يقولوا: لولا أرسلت إلينا رسولا فيوقظنا من سنة الغفلة، وينبهنا لما وجب الانتباه له)).
وعندما تكلم عن الآية الثانية نراه يستشعر مثل ما استشعر في الآية الأولى ويسأل ويجيب بمثل ما سأل عنه وأجاب به في الآية الأولى فيقول ((فإن قلت)) الحجة لازمة لهم قبل بعثة الرسل، لأن معهم أدلة العقل التي بها يعرف الله، وقد اغفلوا النظر وهم متمكنون منه، واستيجابهم العذاب لإغفالهم النظر فيما معهم، وكفرهم لذلك، لا لإغفال الشرائع التي لا سبيل إليها إلا بالتوقيف والعمل بها لا يصح إلا بعد الإيمان، ((قلت)) بعثة الرسل من جملة التنبيه على النظر والإيقاظ من رقدة الغفلة، لئلا يقولوا كنا غافلين فلولا بعثت إلينا رسولا ينبهنا على النظر في أدلة العقل))(1).
* * *
· انتصاره لمعتقد المعتزلة في السحر:
ثم إن الزمخشري ـ كغيره من المعتزلة ـ لا يقول بالسحر ولا يعتقد في السحرة، ولهذا نجده عندما يفسر سورة الفلق التي تشهد لأهل السنة ولا تشهد له، لا تخونه مهارته، ولا تعوزه الحيلة التي يخرج بها في تفسيره من هذه الورطة الصريحة، كما نجده يشدد النكير ويغرق في الاستهزاء والسخرية بأهل السنة القائلين بحقيقة السحر، وذلك حيث يقول } النفاثات { النساء أو النفوس، أو الجماعات السواحر، اللاتي يعقدن عقدا في الخيوط، وينفثن عليها ويرقين، والنفث: النفخ من ريق، ولا تأثير لذلك، اللهم إلا إذا كان ثم إطعام شئ ضار، أو سقيه أو إشمامه، أو مباشرة المسحور به على بعض الوجوه، ولكن الله عز وجل، قد يفعل عند ذلك فعلا على سبيل الامتحان الذي يتميز به الثبت على الحق من الحشوية والجهلة من العوام فينسبه الحشو والرعاع إليهن وإلى نفثهن، والثابتون بالقول الثابت لا يلتفتون إلى ذلك ولا يعبأون به. ((فإن قلت)) فما معنى الاستعاذة من شرهن؟ ((قلت)) فيها ثلاثة أوجه:
احدها: أن يستعاذ من عملهن الذي هو صنعة السحر ومن إثمهن في ذلك.
والثاني: أن يستعاذ من فتنتهن الناس بسحرهن وما يخدعنهم به من باطلهن.
والثالث: أن يستعاذ مما يصيب الله به من الشر عن نفثهن.
ويجوز أن يراد بهن النساء الكيادات من قوله } إن كيدكن عظيم {. تشبيها لكيدهن بالسحر والنفث في العقد أو اللاتي يفتن الرجال بتعرضهن لهم وعرضهن محاسنهن، كأنهن يسحرنهم بذلك)).
وفي الحق أن هذه محاولة عقلية عنيفة من الزمخشري يريد من ورائها أن يحول الحقائق التي ورد بوقوعها الكتاب والسنة، إلى ما يتناسب مع هواه وعقيدته، ولقد دهش ابن المنير من هذه المحاولة وحكم على الزمخشري بأنه ((استفزه الهوى حتى أنكر ما عرف، وما به إلا أن يتبع اعتزاله ويغطي بكفه وجه الغزالة))(1).
* * *
· انتصاره لمذهب المعتزلة في حرية الإرادة وخلق الأفعال:
ولقد تأثر الزمخشري برأيه الاعتزالي في حرية الإرادة خلق الأفعال، ولكنه وجد ما يصادمه من الآيات الصريحة في أن أفعال العباد كلها مخلوقة لله تعالى، فأراد أن يتفادى هذا التصادم ويعمل على الخروج من هذه الورطة الكبرى، فساعده على ما أراد، هذا المعنى الذي تمسك به المعتزلة ونفعهم في كثير من المواضع، وهو ((اللطف)) من الله فباللطف منه تعالى يسهل عمل الخير على الإنسان وبسلبه يصعب عليه عمل الخير.
هذا ((اللطف)) وما يتصل به من ((التوفيق)) ساعد الزمخشري على الخروج من الضائقة التي صادفته عندما تناول بالتفسير تلك الآيات القرآنية الصريحة في أن الله يخلق أفعال العباد خيرها وشرها، والتي يعتبرها أهل السنة سلاحا قويا لهم ضد هذه النظرية الاعتزالية.
ففي سورة آل عمران عند قوله تعالى في الآية (Cool: } ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا {.. نجد الزمخشري يستشعر من هذه الآية أن قلوب العباد بيد الله يقلبها كيف شاء، فمن أراد ضلاله أضله، ولكنه يفر من هذا الظاهر فيقول: } لا تزغ قلوبنا { لا تبلنا ببلايا تزيغ فيها قلوبنا } بعد إذ هديتنا {.. وأرشدتنا لدينك أو لا تمنعنا ألطافك بعد إذ لطفت بنا))(2.).
وفي سورة المائدة عند قوله تعالى في الآية (41): } ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا، أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم، لهم في الدنيا خزي، ولهم في الآخرة عذاب عظيم {.. نجد الزمخشري لا يجزع من هذا الظاهر الذي يتشبث به أهل السنة ويتيهون به على خصومهم، بل نراه يفسرها حسب هواه، ووفق مبدئه فيقول: } ومن يرد الله فتنته {.. تركه مفتونا وخذلانا } فلن تملك له من الله شيئا {.. فلن تستطيع له من لطف الله وتوفيقه شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يمنحهم من ألطافه ما يطهر به قلوبهم، لأنهم ليسوا من أهلها لعلمه أنها لا تنفع فيهم ولا تنجع: } إن الذين لا يؤمنون بآيات الله لا يهديهم الله {.(1)} كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم {(2)..
وهكذا نجد الزمخشري بواسطة هذه التأويلات يخضع لمبدئه الاعتزالي في الجبر والاختيار مثل هذه المواضع القرآنية التي لم تكن طيعة له، ولكن ابن المنير السكندري لم ترقه هذه التأويلات , ولم يسلم بها لخصمه فأخذ يناقشه في معنى اللطف مناقشة حادة ساخرة، فعندما تكلم الزمخشري عن قوله تعالى في الآية (272) من سورة البقرة: } ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء {.. وتذرع بلفظ ((اللطف)) تعقبه ابن المنير فقال: ((المعتقد الصحيح أن الله هو الذي خلق الهدى لمن شاء هداه، وذلك هو اللطف لا كما يزعم الزمخشري أن الهدى ليس خلق الله وإنما العبد يخلقه لنفسه، وإن أطلق الله تعالى إضافة الهدى إليه كما في هذه الآية فهو مؤول على زعم الزمخشري بلطف الله الحامل للعبد على أن يخلق هداه، إن هذا إلا اختلاق. وهذه النزعة من توابع معتقدهم السئ في خلق الأفعال، وليس علينا هداهم، ولكن الله يهدي من يشاء، وهو المسئول ألا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا))(3).
وعندما تكلم الزمخشري عن قوله تعالى في الآية (39) من سورة الأنعام } من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم {.. وقال: } من يشأ الله يضلله {.. أي يخذله ويخله وضلاله لم يلطف به لأنه يلطف به لأن اللطف يجدي عليه، عندما قال ذلك تعقبه ابن المنير فقال: ((وهذا من تحريفاته للهداية والضلالة إتباعا لمعتقده الفاسد في أن الله تعالى لا يخلق الهدي ولا الضلال، وأنهما من جملة مخلوقات العباد، وكم تحرق عليه هذه العقيدة فيروم أن يرقعها وقد اتسع الخرق على الراقع))(4).
وعندما تكلم الزمخشري عن قوله تعالى في الآية (43) من سورة الأعراف } وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله {.. وتأول الهداية هنا بمعنى اللطف والتوفيق كعادته، تعقبه ابن المنير ورد عليه ردا في غاية التهكم والسخرية فقال: ((وهذه الآية ـ يعني قوله تعالى: } وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله { ـ تكفح وجوه القدرية بالرد فأنها شاهدة شهادة تامة ومؤكدة باللام على أن المهتدي من خلق الله له الهدي، وإن غير ذلك محال أن يكون فلا يهتدي إلا من هدى الله ولو لم يهده لم يهتد وأما القدرية فيزعمون أن كل مهتد خلق لنفسه الهدي فهو إذا مهتد وإن لم يهده الله إذ هدى الله للعبد خلق الهدي له، وفي زعمهم أن الله تعالى لم يخلق لأحد من المهتدين الهدي ولا يتوقف ذلك على خلقه تعالى الله عما يقولون ولما فطن الزمخشري لذلك جرى على عادته في تحريف الهدي من الله تعالى إلى اللطف الذي بسببه يخلق العبد الاهتداء لنفسه فأنصف من نفسك، واعرض قول القائل: المهتدي من اهتدى بنفسه من غير أن يهديه الله ـ أي يخلق له الهدي ـ على قوله تعالى حكاية عن قول الموحدين في دار الحق } وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله {.. وانظر تباين هذين القولين، اعني قول المعتزلي في الدنيا وقول الموحد في الآخرة في مقعد صدق، واختر لنفسك أي الفريقين تقتدي به، وما أراك ـ والخطاب لكل عاقل ت تعدل بهذا القول المحكي عن أولياء الله في دار السلام منوها به في الكتاب العزيز قول قدري ضال تذبذب مع هواه وتعصبه في دار الغرور والزوال نسأل الله حسن المآب والمآل))(1).
********

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
صانع المعروف
صانع المعروف


عدد المساهمات : 179
نقاط : 23882
تاريخ التسجيل : 25/06/2011

الكتاب الاسطورة مناهج المفسرين  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الكتاب الاسطورة مناهج المفسرين    الكتاب الاسطورة مناهج المفسرين  I_icon_minitimeالسبت أغسطس 13, 2011 2:26 pm

مناهج المفسرين
من كتاب

التفسير والمفسرون


المقرر الرابع




تأليف
الدكتور : محمد الذهبي


بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة

الحمد لله الذي شرح صدورنا للإسلام وأنار قلوبنا بالإيمان وأكرمنا بالقرآن، نحمده أبلغ حمد وأكمله وأزكاه وأشمله ونصلي ونسلم على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، ومن تبع هداه الى يوم الدين وبعد:
فهذا هو الجزء الرابع من كتاب (مناهج المفسرين) المنتقى من كتاب "التفسيروالمفسرون" للدكتور محمد الذهبي تقدمه إدارة الدراسات الإسلامية لطلاب وطالبات معهد الدراسات الإسلامية الفصل الرابع.
وقد حرصت الادارة على ان يكون المنهج المقرر منهما علميا ضافيا ، يكسب دارسيه العمق العلمي والوضوح الفكري ، لذا ارتأت الادارة ان يكون مقرر هذا الفصل خاصا بموقف بعض الفرق الضالة من تفسير كتاب الله تعالى ومسلكها في تأويل القرآن الكريم وصرف مدلولات نصوص القرآن الكريم عن ظاهرها المراد منها الى معاني ومدلولات تتفق وروح عقائدهم المنحرفة . كما تناول هذا المقرر، أيضا ، المبحث الخاص بالتفسير في العصر الحديث ، وألوانه المختلفة كالتفسير العلمي ، والتفسير الالحادي ، والتفسير الأدبي والاجتماعي ، وغير ذلك من اتجاهات التفسير في العصر الحاضر وقد سلك الشيخ الذهبي في مباحثه هذه مسلك الباحث المحقق النزيه، الملتزم لموضوعية البحث النائي عن روح التعصب والتدليس والغش .
والادارة اذ تقدم هذا الكتاب لطلابها تدعو الله تعالى ان يوفق قارئيه ودارسيه الى درك الحقائق ونيل المراتب والنظر بعين الحق والانصاف واتباع منهج اهل السنة والجماعة في تفسير كتاب الله تبارك وتعالى .
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد على آله واصحابه اجمعين.
ادارة الدراسات الاسلامية

الامامية الاسماعيلية "الباطنية"
وموقفهم من تفسير القرآن الكريم
· كلمة اجمالية عن الاسماعيلية وعقائدهم وأغراضهم:
قلنا: إن الإسماعيلية من الشيعة الإمامية تنتسب الى اسماعيل بن جعفر الصادق، وقلنا: انهم يلقبون بالباطنية ايضا لقولهم بباطن القرآن دون ظاهره، او لقولهم بالإمام الباطن المستور.
والحق ان هذه الطائفة لا يمكن ان تكون داخلة في عداد طوائف المسلمين. وإنما هي في الأصل جماعة من المجوس رأوا شوكة الإسلام قوية لا تقهر ، وأبصروا عزة المسلمين فتية لا تغلب ولا تكسر ، فأشتعلت بين جوانحهم نار الحقد على الإسلام والمسلمين ، ورأوا أنه لا سبيل لهم الى الغلب على المسلمين بقوة الحديد والنار، ولا طاقة لهم بالوقوف أمام جيشهم الزاخر الجرار، فسلكوا طريق الاحتيال الذي يوصلهم الى مآربهم وأهوائهم ، ليطفئوا نور الله بأفواههم ، وخفي على هؤلاء الملاحدة ان الله متم نوره ولو كره الكافرون .
***
· مؤسسو هذه الطائفة:
ظهرت بوادر هذه الفتنة، ونبتت نواة هذه الطائفة: زمن المأمون ، وبيد جماعة جمع بينهم سجن العراق، هم: عبدالله بن ميمون القداح، وكان مولى جفعر بن محمد الصادق. ومحمد بن الحسين المعروف بذيذان ، وجماعة كانوا يدعون "الجهاربجة" [1] .
اجتمع هؤلاء النفر ، فوضعوا مذهب الباطنية وأسسوا قواعده ، فلما خلصوا من السجن ظهرت دعوتهم ، ثم استفحل أمرها ، واستطار خطرها الى كثير من بلاد المسلمين . وما زالت لها بقية الى يومنا هذا بين كثير ممن يدعون الإسلام [2].
***
· احتيالهم على الوصول الى اغراضهم:
رأى المؤسسون لمبادئ الباطنية أنه لا طاقة لهم بالوقوف في وجه المسلمين صراحة وجهارا، فاحتالوا – كما قلنا – على الوصول الى مآربهم بشتى الحيل ، فاندسوا بين المسلمين باسم الحدب على الإسلام ، وتلفعوا بالتشيع والموالاة لأهل البيت، وتظاهروا بالورع الكاذب ، وجعلوا ذلك كله ستارا لما يريدون ان يبذروه بين المسلمين من بذور الفساد والاضطراب في العقيدة والسياسة.
ومن المحزن ان يدعي هؤلاء الملاحدة الانتماء الى اهل بيت النبوة، ويصلون أنسابهم بأنسابهم عن طريق آباء وأئمة مستورين ، فيلقى هذا الادعاء رواجا وقبولا من اناس ضعفاء اغمار ، غرهم التباكي على آل البيت والتحزن عليهم، فتحركت احقاد دفينة ، وثارت فتن دامية بين المسلمين كان لها أثرها وخطرها.
أسس هؤلاء الباطنية الجمعيات السرية لنشر مذهبهم وهدم مذهب المسلمين ، ورسموا لهذا المذهب خطة دبروها بنوع من المكر والخديعة، فجعلوا هدفهم الأول: الاحتيال على الطغام بتأويل الشرائع الى ما يعود الى قواعدهم من الإباحة والإلحاد، وتدرجوا في وصولهم الى غرضهم هذا بجعلهم الدعوة على مراتب وهي ما يأتي:
· مراتب الدعوة عند الباطنية:
أولا – الذوق: وهو تفرس حال المدعو ، هل هو قابل للدعوة او لا؟ ولذلك منعوا من إلقاء البذر في السبخة . أي دعوة من ليس قابلا لها، ومنعوا التكلم في بيت فيه سراج.. أي في موضع فيه فقيه او متعلم.
ثانيا – التأنيس: باستمالة كل احد من المدعوين بما يميل اليه بهواه وطبعه، من زهد ، وخلاعة ، وغيرهما ، فإن كان يميل الى زهد زينه في عينه وقبح نقيضه، وان كان يميل الى الخلاعة زينها وقبح نقيضها ، ومن رآه الداعي مائلا الى ابي بكر وعمر مدحهما عنده وقال: لهما حظ في تأويل الشريعة، ولهذا استصحب النبي ابا بكر الى الغار، ثم الى المدينة ، وافضى اليه في الغار تأويل الشريعة... وهكذا حتى يحصل له الأنس به.
ثالثا – التشكيك: في اصول الدين وأركان الشريعة: كأن يقول للمدعو.
ما معنى الحروف المقطعة في أوائل السور؟ ولم تقضي الحائض الصوم دون الصلاة ؟ ولم يجب الغسل من المني دون البول؟ ولم اختلفت الصلوات في عدد ركعاتها فكان بعضها ركعتين ، وبعضها ثلاثا ، وبعضها اربعا ؟...
وحيث يشككون بمثل هذا فلا يجيبون ليتعلق قلب من يشككونه بالرجوع اليهم والأخذ عنهم.
رابعا – الرابط: وهو أمران : احدهما: اخذ الميثاق على الشخص بأن لا يفشي لهم سرا، ويستدلون على ذلك بقوله تعالى:}وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً{[3] . .. وقوله : } وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً { [4].. وثانيهما: حوالته على الإمام في حل ما أشكل عليه من الأمور التي القيت اليه، فإنها لا تعلم الا من قبل الإمام .
خامسا – التدليس: وهو دعوى موافقة أكابر الدين والدنيا ليزداد الإقبال على مذهبهم.
سادسا – التأسيس: وهو تمهيد مقدمات يراعون فيها حال المدعو لتقع تعاليمهم منه موقع القبول من نفسه .
سابعا – الخلع: وهو الطمأنينة الى اسقاط الأعمال البدنية.
ثامنا – السلخ: وهو سلخ المدعو من العقائد الاسلامية ، ثم بعد ذلك يأخذون في تأويل الشريعة على ما تشاء اهواؤهم [5] .
فأنت ترى ان الباطنية توسلوا بكل هذه الحيل الى تشكيك المسلمين في عقائدهم ، وكأنهم رأوا ان القرآن ما دام موجودا بين المسلمين ومحفوظا عندهم يرجعون اليه في امور الدين ، ويهتدون بهديه كلما نزلت بهم نازلة، فليس من السهل صرف الناس عنه الا بواسطة تأويله، وصرف الفاظه وآياته عن مدلولاتها الظاهرة، فأخذوا يجدون في تأويل نصوص القرآن كما يحبون . وعلى أي وجه يرونه هدما لتعاليم الإسلام ، الذي اصبح قذي في اعينهم . وشجي في حلوقهم!!..
وحرصا منهم على ان تكون دعواهم في تأويل القرآن مقبولة لدى من يستخفونه .. قالوا: "ان الأئمة هم الذين اودعهم الله سره المكنون ، ودينه المخزون ، وكشف لهم بواطن هذه الظواهر ، واسرار هذه الأمثلة ، وان الرشد والنجاة من الضلال بالرجوع الى القرآن وأهل البيت، ولذلك قال عليه السلام – لما قيل : ومن اين يعرف الحق بعدك ؟ - "الم أترك فيكم القرآن وعترتي؟".. واراد به أعقابه ، فهم الذين يطلعون على معاني القرآن" [6] .
ولكن احتيال الباطنية بتأويل القرآن على هدم الشريعة لم يلق رواجا عند عقلاء المسلمين ، ولم يجد غباوة في عقول علمائهم الذين نصبوا انفسهم لحماية القرآن من أباطيل المضللين ... وكيف يمكن ان يجد رواجا عند هؤلاء أو غباوة من أولئك وقد علموا وتيقنوا بأن الألفاظ اذا صرفت عن مقتضى ظواهرها بغير اعتصام فيه ينقل عن صاحب الشريعة ، ومن غير ضرورة تدعو اليه من دليل العقل ، اقتضى ذلك بطلان الثقة بالألفاظ ، وسقط به منفعة كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم ، فإن ما يسبق منه الى الفهم لا يوثق به ، والباطن لا ضبط له ، بل تتعارض فيه الخواطر ، ويمكن تنزيله على وجوه شتى.
****
· انتاج الباطنية في تفسير القرآن الكريم:
ومع ان هؤلاء الباطنية قد اتخذوا من تأويل القرآن بابا للوصول الى اغراضهم ، فإنا لم نقف لهم على كتب مستقلة في تفسير كتاب الله تعالى ، ولم نسمع ان واحدا منهم كتب تفسيراً جامعاً للقرآن كله، سورة سورة ، وآية آية ، ولعمل السر في ذلك : انهم لم يستطيعوا ان يتمشوا بعقائدهم مع القرآن آية آية ، ولو انهم حاولوا ذلك لاصطدموا بعقبات وصعاب لا يستطيعون تذليلها ، ولا يقدرون على التخلص منها.
وكل الذي وجدناه لهم في تفسير القرآن أو تأويله على الأصح : انما هو نصوص متفرقة في بطون الكتب ، تعطينا الى حد ما صورة واضحة ، وفكرة جلية عن موقف هؤلاء القوم من القرآن الكريم ، ومبلغ تهجمهم على القول فيه بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير.
وأرى ان أقسم موقف الباطنية من القرآن الكريم الى قسمين اثنين:
الأول: موقف الباطنية المتقدمين من القرآن الكريم.
الثاني: موقف الباطنية المتأخرين منه أيضا.
ونريد بالمتقدمين : الذين اسسوا مذهب الباطنية ومن قاربهم في الزمن ، وبالمتأخرين : البابية والبهائية . وسنوضح عند الكلام عن البابية والبهائية السبب الذي من أجله عددناهم من قبيل الباطنية.
****
موقف متقدمي الباطنية من تفسير القرآن الكريم
علمت ان الغرض الاول الذي تقوم عليه دعوة الباطنية وتتركز فيه : هو العمل على هدم الشرائع عموما ، وشريعة الإسلام على الخصوص ؟ فكان لزاما عليهم وقد قاموا يحاربون الاسلام – ان يعملوا معاول الهدم في ركن الإسلام المكين ، وهو القرآن الكريم ، وقد عجموا معاولهم كلها فلم يجدوا معولا أصلب ولا أقوى على تنفيذ غرضهم من معول التأويل والميل بالآيات القرآنية الى غير ما أراد الله.
كتب عبيد الله بن الحسن القيرواني الى سليمان بن الحسن بن سعيد الجناني رسالة طويلة جاء فيها "... وإني اوصيك بتشكيك الناس في القرآن والتوراة والزبور والإنجيل وتدعوهم إلي إبطال الشرائع ، وإلي إبطال المعاد والنشور من القبور وإبطال الملائكة في السماء وإبطال الجن في الأرض ، وأوصيك أن تدعوهم إلى القول بأنه قد كان قبل آدم بشر كثير ، فإن ذلك عون لك على القول بقدم العالم " 1 هـ [7] .
رأي هذا الزعيم الباطني أن التشكيك في القرآن خير معوان لهم على تركيز عقائدهم ، ورأي رأيه أهل الباطن جميعاً فقالوا : " للقرآن ظاهر وباطن ، والمراد منه باطنه دون ظاهره المعلوم من اللغة ، ونسبة الباطن إلي الظاهر كنسبة اللب إلي القشر ، والمتمسك بظاهره معذب بالشقشقة في الكتاب ، وباطنه مؤد إلى ترك العمل بظاهره ، وتمسكوا في ذلك بقوله تعالى في الآية (13) من سورة الحديد
} فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ{ [8] .
فانظر إليهم كيف وضعوا هذه القاعدة لفهم نصوص القرآن الكريم ، ثم اعجب ما شاء الله لك إن تعجب من استدلالهم بهذه الآية الكريمة على قاعدتهم التي قعدوها ؟ ولست أدري ما صلة هذه الآية بتلك القاعدة والآية واردة في شأن من شئون الآخرة ينساق إلى فهمه كل من يمر بالآية بدون كلفة ولا عناء .
***
من تأويلات الباطنية القدامي :
على هذه القاعدة السابقة جرى القوم في شرحهم لكتاب الله تعالى ، فكان من تأويلاتهم ما يأتي :
"الوضوء" عبارة عن موالاة الإمام ، و "التيمم" هو الأخذ من المأذون عند غيبة الإمام الذي هو الحجة ، و"الصلاة " عبارة عن الناطق الذي هو الرسول بدليل قوله تعالى في الآية (45) من سورة العنكبوت } إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ{ .... و " الغسل " تجديد العهد ممن أفشى سراً من أسرارهم من غير قصد ، وإفشاء السر عندهم على هذا النحو هو معنى "الاحتلام". و "الزكاة " عبارة عن تزكية النفس بمعرفة ما هم عليه من الدين . و"الكعبة" النبي . و"الباب" علي. و"الصفا" هو النبي. و"المروة" علي. و"الميقات" الإيناس. و"التلبية" اجابة الدعوة . و"الطواف بالبيت سبعا " موالاة الأئمة السبعة. و"الجنة" راحة الأبدان من التكاليف. و"النار" مشقتها بمزاولة التكاليف [9] .
وتأولوا أنهار الجنة فقالوا: "انهار من لبن" أي معادن العلم.... اللبن العلم الباطن ، يرتفع به أهلها ، ويتغذون به تغذيا تدوم به حياتهم اللطيفة ، فإن غذاء الروح اللطيفة بارتضاع العلم من المعلم ، كما ان حياة الجسم الكثيف بارتضاع اللبن من ثدي الأم . "وأنهار من خمر" هو العلم الظاهر. } وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى { هو علم الباطن المأخوذ من الحجج والأئمة [10] .
كذلك تجد الباطنية يرفضون المعجزات ، ولا يعترفون بها للرسل ، وينكرون نزول ملائكة من السماء بالوحي من الله ، بل وزادوا على ذلك فأنكروا أن يكون في السماء ملك وفي الأرض شيطان ، وانكروا آدم والدجال ، ويأجوج ومأجوج ، ولكنهم وجدوا انفسهم أمام آيات من القرآن تكذب دعواهم هذه ، فتخلصوا منها بمبدئهم الذي ساروا عليه في تفسيرهم وهو انكار الظاهر والأخذ بالباطن ، وأولوا هذه الآيات بم يتفق ومذهبهم ، فتأولوا "الملائكة" على دعاتهم الذين يدعون الى بدعتهم . وتأولوا "الشياطين" على مخالفيهم . وتأولوا كل ما جاء في القرآن من مجعزات الأنبياء عليهم السلام ، فقالوا: "الطوفان" معناه طوفان العلم... أغرق به المتمسكون بالسنة . و"السفينة " حرزه الذي تحصن به من استجاب لدعوته . و"نار ابراهيم" عبارة عنه غضب نمرود عليه لا النار الحقيقية .
و"ذبح اسحاق" معناه أخذ العهد عليه. و"عصا موسى"حجته التي تلقفت ما كانوا يأفكون من الشبه لا الخشب "وانفلاق البحر" افتراق علم موسى فيهم عن اقسام. و"البحر" هو العلم و"الغمام الذي اظلهم" معناه الإمام الذي نصبه موسى لإرشادهم وإفاضة العلم عليهم . و"الجراد والقمل والضفادع" هي سؤالات موسى والتزاماته التي سلطت عليهم .
"والمن والسلوى" علم نزل من السماء لداع من الدعاة هو المراد بالسلوى . و"تسبيح الجبال" معناه تسبيح رجال شداد في الدين راسخين في اليقين. و"الجن الذين ملكهم سليمان بن داوود" باطنية ذلك الزمان . و"الشياطين" هم الظاهرية الذين كلفوا بالأعمال الشاقة . و"عيسى" له أب من حيث الظاهر، وانما أراد بالأب المنفي: الإمام ، إذ لم يكن له امام ، بل استفاد العلم من الله بغير واسطة ، وزعموا – لعنهم الله – ان اباه يوسف النجار. و"كلامه في المهد" اطلاعه في مهد القالب قبل التخلص منه على ما يطلع عليه غيره بعد الوفاة والخلاص من القالب. و"إحياء الموتى من عيسى" معناه الإحياء بحياة العلم عن موت الجهل بالباطن . "إبراؤه الأعمى" عن عمى الضلالة . و"الأبرص" عن برص الكفر ببصيرة الحق المبين. و"ابليس وآدم" عبارة عن أبي بكر وعلى ، إذ أمر أبو بكر بالسجود لعلي والطاعة له فأبى واستكبر . و"الدجال" أبو بكر ، وكان أعورا، اذ لم يبصر إلا بعين الظاهر دون عين الباطن و "يأجوج ومأجوج" هم أهل الظاهر" [11] .
بل بالغوا فقالوا: "إن الأنبياء قوم أحبوا الزعامة ، فساسوا العامة بالنواميس والحيل ، طلبا للزعامة بدعوى النبوة والإمامة" [12] .
هذا .. وان مما زعمته الباطنية : أن من عرف معنى العبادة سقط عنه فرضها وتأولوا في ذلك قوله تعالى في الآية (99) من سورة الحجر:
} وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ { .. وحملوا اليقين على معرفة التأويل .
كذلك استحل الباطنية نكاح البنات والأخوات وجميع المحارم ، بحجة ان الأخ أحق بأخته ، والأب أولى بابنته... وهكذا : ولست أدري على أي وجه تأولوا آية النساء التي حرمت ذلك ، ومنعته منعا باتا !!.
ويقول القيرواني في رسالته التي أرسلها إلى سليمان بن الحسن: "... وينبغي أن تحيط علماً بمخاريق الأنبياء ومناقضاتهم في أقوالهم ، كعيسى ابن مريم ، قال لليهود: لا أرفع شريعة موسى ، ثم رفعها بتحريم الأحد بدلا من السبت ، وأباح العمل في السبت ، وأبدل قبلة موسى بخلاف جهتها .. وبذلك قتلته اليهود لما اختلفت كلمته ، ولا تكن كصاحب الأمة المنكوسة حين سألوه عن الروح فقال : } الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي { [13]} لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ{.. [14]} أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى { ..[15] لأنه كان صاحب الزمان في وقته". قال لقومه : . لما لم يحضره جواب المسألة ، ولا تكن كموسى في دعواه التي لم يكن عليها برهان سوى المخرقة بحسن الحيلة والشعوذة ، ولما لم يجد المحق في زمانه عنده برهاناً قال له:
ثم قال في آخر هذه الرسالة : "... وما العجب من شئ كالعجب من رجل يدعي العقل ، ثم يكون له اخت او بنت حسناء وليس له زوجة في حسنها ، فيحرمها على نفسه وينكحها من اجنبي ، ولو عقل الجاهل لعلم أنه احق بأخته ، وبنته من الأجنبي ، ما وجه ذك إلا أن صاحبهم حرم عليهم الطيبات وخوفهم بغائب لا يعقل ، وهو الإله الذي يزعمونه ، وأخبرهم بكون ما لا يرونه أبداً من البعث من القبور ، والحساب ، والجنة ، والنار، حتى استعبدهم بذلك عاجلا وجعلهم له في حياته ، ولذريته بعد وفاته خولا، واستباح بذلك أموالهم بقوله:
} لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى { .. [16] فكان أمره معهم نقداً وأمرهم معه نسيئة ، وقد استعجل منهم بذل أرواحهم وأموالهم على انتظار موعود لا يكون ، وهل الجنة إلا هذه الدنيا ونعيمها ؟ وهل النار وعذابها إلا ما فيه أصحاب الشرائع من التعب والنصب في الصلاة والصيام والجهاد والحج".
ثم قال لسليمان بن الحسن في هذه الرسالة : "...وانت واخوانك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس ، وفي هذه الدنيا ورثتم نعيمها ولذاتها المحرمة على الجاهلين المتمسكين بشرائع اصحاب النواميس ، فهنيئا لكم ما نلتم من الراحة عن أمرهم" [17] . أ هـ
ومن جملة تأويلاتهم الباطلة التي يتوصلون بها الى هواهم النفسي ، ومأربهم الشخصي ، انهم بعد ان يلقوا على المدعو ما يشككونه به، وتتطلع الى معرفته من جهتهم نفسه ، يقولون له : لا نظهره الا بتقديم خير عليه ، فيطلبون مائة وتسعة عشر درهما من السبيكة الخالصة . ويقولون : هذا تأويل قوله تعالى: } وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً { .. فالحاء والسين والنون والألف اذا جمع عددها بحساب الجمل يكون مبلغه مائة وتسعة عشر".[18]
ومن ذا الذي قال ان القرآن يخضع في تفسيره وفهم معانيه الى حساب الجمل؟ .. اللهم ان هذا لا يصدر إلا عن مخرف أو زنديق يريد أن يضل الناس ويحتال على سلب أموالهم بدعوى يدعيها على كتاب الله !!..
كذلك نجد الباطنية يحرصون على نفي وجود الإله الحق ، والنبي المرسل محمد صلى الله عليه وسلم ، ليتوصلوا بذلك الى رفع التكاليف ، فنراهم يقولون للمتبدئ: "ان الله خلق الناس واختار منهم محمدا صلى الله عليه وسلم ، فيستحسن المبتدئ هذا الكلام ، ثم يقول له: أتدري من محمد ؟ فيقول نعم... محمد رسول الله ، خرج من مكة ، وادعى النبوة ، وأظهر الرسالة ، وعرض المعجزة . فيقول له : ليس هذا الذي تقول إلا كقول هؤلاء الحمير – يعنون به المؤمنين من أهل الإسلام – إنما محمد أنت ، فيستعيذ السامع ويقول: لست انا محمداً ، فيقول له : الله تعالى وصفه في هذا القرآن فقال: }َقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ { .. [19] وهؤلاء الحمير يقولون : من مكة ... فيقول له الغر الغمر : على أي معنى تقول انا محمد ؟ فيقول : خلقك وصورك خلقة محمد ، فالرأس بمنزلة الميم ، واليدان بمنزلة الحاء ، والسرة بمنزلة الميم ، والرجلان بمنزلة الدال ، وكذلك انت على ايضا، عينك هي الين ، والأنف هي اللام ، والفم الياء " [20] .
وبهذا يوهمه انه هو محمد الذي جاء ذكره في القرآن ، أما ما يدعي من وجود رسول اسمه محمد ، فهذا ظاهره غير مراد .
ولأجل ان يوهمه أيضا بأنه لا إله موجود على الحقيقة ، وما جاء في القرآن من ذلك فظواهر غير مرادة ، تجده يقول للمبتدئ : إن المراد بإثبات الذات يرجع الى نفسك ، ويؤولون عليه قوله تعالى : " فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ " .. [21] ويقولون : الرب هو الروح والبيت هو البدن.
ولقد وصل الغلو ببعض الباطنية الى ادعاء ألوهية محمد بن إسماعيل ابن جعفر الصادق ، وأنه هو الذي كلم موسى بقوله :} إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ {..[22]} إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ {.. ثم قال : فقلت : سخنت عينك : تدعوني الى الكفر برب قديم خالق للعالم ، ثم تدعوني مع ذلك الى الإقرار بربوبية إنسان مخلوق ، وتزعم أنه كان قبل ولادته إلهاً مرسلا لموسى؟ فإن كان موسى عندك كاذبا ، فالذي زعمت أنه أرسله أكذب" فقال : إنك لا تفلح أبدا ، وندم على إفشاء أسراره إلىَّ وتبت من بدعتهم " . [23] وفي هذا يروي لنا البغدادي صاحب الفرق بين الفرق قصة رجل دخل في دعوة الباطنية ، ثم وفقه الله لتركها والرجوع لرشده.. يحكى هذا الرجل قصته للبغدادي فيقول: "انهم لما وثقوا بإيمانه قالوا له : إن المسمين بالأنبياء كنوح وابراهيم وموسى وعيسى ومحمد وكل من ادعى النبوة : كانوا أصحاب نواميس ومخاريق، احبوا الزعامة على العامة ، فخدعوهم بنيرنجات ، واستعبدوهم بشرائعهم – قال الحاكي للبغدادي : ثم ناقض الذي كشف لي هذا السر بأن قال : ينبغي ان تعلم ان محمد ابن اسماعيل بن جعفر هو الذي نادى موسى بن عمران من الشجرة فقال له
موقف متأخري الباطنية
من تفسير القرآن الكريم
** تمهيد: في بيان انتشار الباطنية في البلاد الآن وتعدد ألقابهم:
قلنا إن الباطنية يعرفون بأسماء عدة ، وقلنا إنه لا تزال منهم بقية الى يومنا هذا في كثير من بلاد المسلمين ، والآن أزيدك على ما تقدم أن الباطنية يوجدون بالهند ، ويعرفون بالبهرة أوألاسماعيلية ، وزعيمهم أغا خان الزعيم الاسماعيلي المعروف . ويجودون في بلاد الأكراد ويعرفون " بالعلوية " حيث يقولون : على هو الله . ويوجدون في تركيا ويعرفون "بالبكداشية" وفي مصر جماعة من البكداشية من أصل ألباني يقيمون في الجبل المعروف بالمغاوري . [24] ويوجدون في بلاد العجم ويعرفون "بالبابية" . ويوجدون في فلسطين ويعرفون "بالبهائية" ومنهم جماعات في بلاد متفرقة [25] ، وتوجد بالهند فرقة اخرى من الباطنية هي القاديانية ، وهي احدث فرقهم عهداً ، وأقربها ظهوراً .
هذه الفرق التي تنتشر بين المسلمين إلى اليوم لابد أن يكون لكل منها رأي في التأويل الباطني للقرآن الكريم ، يتفق مع مبدئها ومشربها .
ولابد أن يكون لعلمائها تأويلات قرآنية يميلون بها نحو مذاهبهم وعقائدهم . غير أننا لم نقف على شئ من ذلك ، اللهم إلا شيئاً يسيراً للبابية والبهائية .
لهذا قصرنا كلامنا على هذه الطائفة [26] وموقفها من كتاب الله تعالى ، لأن ما وصلنا عنها – وإن قل – فهو يعطينا فكرة ولو إلى حد ما عن موقفها من تفسير القرآن الكريم.
واعتمادنا في كل ما نكتب : على بعض الكتب التي وصلتنا عنهم ، وعلى ما نشر في المجلات العلمية من البحوث التي تدور حولهم ، فنقول وبالله التوفيق :
البابية والبهائية
==================
· كلمة اجمالية عن نشأة البابية والبهائية:
البابية : نسبة إلى الباب ، وهو لقب ميرزا على محمد ، الذي ابتدع هذه النحلة ، وإليه تنسب هذه الطائفة ، باعتباره المؤسس الأول لها .
والبهائية: نسبة الى بهاء الله ، وهو لقب ميرزا حسين علي ، الزعيم الثاني للبابية ، وإليه تنسب هذه الطائفة ، باعتباره المؤسس الثاني لها .
وأصل نشأة هذه الطائفة : أن ميرزا على محمد ، الملقب بالباب ، والمولود في سنة 1235 هجرية ، توفى عنه والده ميرزا محمد رضا قبل فطامه ، فربى في حجر خاله ميرزا سيد على ، نشأ معه في مدينة شيراز بجنوب إيران ، واشتغل معه بالتجارة ، ولما بلغ سنه الخامسة والعشرين ادعى أنه الباب – والباب عن الشيعة معناه نائب المهدي المنتظر – وكان ادعاؤه هذا في سنة 1260هجرية ، وما لبث أن وصلت هذه الدعوة إلى طائفة من الجاهلين فصدقوا بها ، وتتابعوا عليها ، وكان عدد من صدقه في أول الأمر ثمانية عشر رجلا ، فسماهم بكلمة (حي) لأن عدد حرفيها بحساب الجمل ثمانية عشر، ثم أمر أتباعه هؤلاء بالانتشار في إيران وبلاد العراق ، يبشرون به وبدعوته ، وأوصاهم بكتمان اسمه حتى يظهره هو بنفسه . ولما حج وفرغ من أعمال الحج أعلن دعوته في المجمع الكبير فاشتهر اسمه ، وذاعت دعوته ، فثارت عليه طوائف المسلمين ، وقاموا في سبيل دعوته يحاربونها بكل الوسائل.
وقد عقد بعض الولاة بين العلماء وبين الباب مناظرات أظهرت ما في دعوته من غواية وضلال ، فكفره بعض العلماء ، ورماه بعض آخر منهم بالجنون ، فاعتقله الوالي في سجن شيراز ، ثم في سجن أصفهان ، ثم في طهران ، ثم في أذربيجان ، وفي عهد السلطان ناصر الدين شاه اشتدت الخصومة بين البابيين ومخالفيهم ، وقامت بينهم حرب طاحنة كان من نتائجها أن أمر الصدر الأعظم بقتل الباب ، فعلق في ميدان ميدنة تبريز ، وقتل رميا بالرصاص ، وذلك سنة 1265هجرية .
وبعد قتله اختلف أتباعه على أنفسهم في شأن من ينوب عنه، وظهرت من بعض أتباعه دعاوي مختلفة ، من قبيل النبوة ، والوصاية ، والولاية. وأمثالها . وظلوا على هذا الأمر إلى أن حول بعضهم اغتيال ناصر الدين شاه سنة 1268 هجرية انتقاما لزعيمهم الباب ، ولما خاب سعيهم وفشلوا في هذه المؤامرة ، أخذت الحكومة تضطهد زعماء البابيين ، وتسوقهم الى التحقيق ، فقتل من قتل ، ونفى
من نفي ، وكان من بين زعمائهم في هذ الوقت – وقت الاضطهاد – ميرزا حسين على الملقب فيما بعد : "بهاء الله".
* * *
· بهاء الله:
ولد بهاء الله سنة 1233 هجرية ، وكان ابنه ميرزا عباس من كبار وزراء الدولة في وقته ، فلما قام الباب واشتهر أمره صدقه بهاء الله ، فاشتد به أزر البابيين وكثرت جماعتهم ، ولما حدثت حادثة سنة 1268 هجرية ، وهي محاولة اغتيال ناصر الدين شاه ، قبض على بهاء الله وسجن نحو أربعة أشهر، ثم أفرج عنه وأبعد إلى العراق ، فدخل بغداد سنة 1269 هجرية ، ومكث بها اثنى عشر عاما ، يدعو الناس إلى نفسه ، ويزعم أنه هو الموعود به الذي أخبر عنه الباب ، وكان يشير إليه بلفظ "من يظهره الله" وهناك تجمع حوله بعض أتباعه الذين لحقوا به من البابيين ، وتسموا حينئذ بالبهائيين ، ووقعت بينهم وبين شيعة العراق فتنة كادت تفضي إلى قيام حرب أهلية بين الفريقين ، فقررت الحكومة العثمانية في ذلك الوقت إرسال بهاء الله إلى الآستانة ، فأرسل اليها ومكث بها نحوا من أربعة أشهر، ثم نفى الى أدرنة [27] ومكث بها نحوا من خمس سنوات ، ثم نفى منها إلى عكا من بلاد الشام سنة 1285 هجرية ، وبقى بها إلى أن مات سنة 1309 هجرية ، فتولى رئاسة الطائفة ابنه عباس المولود سنة 1844 م والمتوفي سنة 1921م والملقب : "عبدالبهاء" فأخذ يدعو إلى هذا المذهب ، ويتصرف فيه كيف يشاء ، فلم يرض هذا الصنيع أتباع البهاء فانشقوا عليه ، والتف فريق منهم حول أخيه الميرزا علي ، وألفوا كتبا في الطعن على عبد البهاء يتهمونه فيها بالمروق من دين البهاء [28] .
******
· الصلة بين عقائد البابية وعقائد الباطنية القدامى:
بالرغم من أن هذه الفرقة لم تظهر إلا قريبا ، فإنا نجدها ليست بالفرقة المحدثة في عقائدها وتعاليمها ، بل هي في الحقيقة ونفس الأمر وليدة من ولائد الباطنية ، تغذت من ديانات قديمة ، وآراء فلسفية ، ونزعات سياسية ، ثم درجت تحذو حذو الباطنية الأول ، وتترسم خطاهم في كل شئ ، وتهذي في كتاب الله ، فتأولته بمثل ما تأولوه : لتصرف عنه قلوبا تعلقت به ونفوسا إطمأنت إليه .
والذي يقرأ تاريخ الباطنية الأول ، ويطلع على ما في كتبهم من خرافات وأباطيل ، ثم يقرأ تاريخ البابية والبهائية ، ويطلع على ما في كتبهم من خرافات وأباطيل ، لا يسعه الا أن يحكم بأن روح الباطنية حلت في جسم ميرزا على ، وميرزا حسين على ، فخرجت للناس أخيراً باسم البابية والبهائية .
تقوم دعوة قدماء الباطنية على إبطال الشريعة الاسلامية ، وينفذون إلى عقول العامة بإظهارهم الحب والتشيع ، بل والانتساب الى آل البيت ، ثم يصلون الى أهوائهم ومآربهم بصرفهم القرآن إلى معان باطنية لا يقبلها العقل ، ولا تمت إلى الدين بسبب ، وعلى هذا الأساس قامت دعوة البابية والبهائية ، وبمثل هذه الوسيلة وصلوا الى أغراضهم وأهوائهم ، وإليك ما يوضح ذلك:
أولا : في الباطنية من يدعي النبوة لنفسه أو يدعيها لغيره ، وميرزا على الملقب بالباب يدعي أنه رسول للناس من قبل الله تعالى ، وله كتاب اسمه "البيان" ادعى أنه منزل عليه من عند الله تعالى . وقد جاء في رسالة بعث بها الباب إلى العلامة الآلوسي صاحب التفسير المعروف ، يدعوه فيها الى الإيمان به: "إنني أنا عبدالله ، قد بعثني بالهدى من عنده" وسمى في هذه الرسالة مذهبه دين الله فقال: "ومن لم يدخل في دين الله ، مثله كمثل الذين لم يدخلوا في الإسلام" [29] .
ولا نعلم ماذا اجاب به الآلوسي على هذه الرسالة ، وإن كنا نعلم رأيه في هذه الطائفة عندما تعرض لتفسير قوله تعالى في الآية (48) من سورة الأحزاب
} مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ {...
وذلك حيث يقول : "وقد ظهر في هذا العصر عصابة من غلاة الشيعة لقبوا انفسهم بالبابية ، لهم في هذا الباب فصول يحكم بكفر معتقدها كل من انتظم في سلك ذوي العقول ، وقد كاد يتمكن عرقهم من العراق لولا همة واليه النجيب الذي وقع على همته وديانته الاتفاق ، حيث خذلهم – نصره الله – وشتت شملهم ، وغضب عليهم – رضى الله تعالى عنه – وأفسد عملهم . فجزاه الله تعالى عن الإسلام خيراً ، ودفع عنه في الدارين ضيما وضيراً [30] ".
وكذلك ادعى زعيمهم الثاني الملقب ببهاء الله : أنه رسول من عند الله ، جاء لتأسيس الإسلام على الأرض . وبين أيدينا كتاب بهاء الله ، ويطلق عليه اسم "الكتاب" قرأنا فيه فوجدناه يقول :
" لعمر الله إن البهاء ما نطق عن الهوى ، قد أنطقه الذي أنطق الأشياء بذكره وثنائه ، لا إله إلا هو الفرد الواحد المقتدر المختار" [31] .
" لعمري ما أظهرت نفسي ، بل الله أظهرني كيف أراد، إني كنت كأحد من العباد ، وراقداً على المهاد ، مرت على نسائم السبحان ، وعلمني علم ما كان ، ليس هذا من عندي بل من لدن عزيز عليم . وأمرني بالنداء بين الأرض والسماء ، بذلك ورد على ما ذرفت به دموع العارفين . ما قرأت ما عند الناس من العلم ، وما دخلت المدارس ، فاسأل المدينة التي كنت فيها لتوقن بأني لست من الكاذبين" [32] .
"قل قد أتى المختار ، في ظل الأنوار ، ليحيي الأكوان ، من نفحات اسمه الرحن ، ويتحد العالم ، ويجتمعوا على هذه المائدة التي نزلت من السماء" [33] .

أن شريعته ناسخة للشريعة الإسلامية ، فابتدع لأتباعه أحكاما خالف بها ما جاءت به الشريعة الاسلامية ، فجعل الصوم تسعة عشر يوماً من شروق الشمس الى غروبها ، وعين لهذه الأيام وقت الاعتدال الربيعي . بحيث يكون عيد الفطر عندهم يوم "النيروز" على الدوام ، وفي كتاب البيان: ".... أيام معدودات . وقد جعلنا النيروز عيداً لكم بعد إكمالها". [34]
كذلك يرى بهاء الله أن شريعته ناسخة للشريعة الاسلامية ، ويقرر ذلك في كتابه فيقول: " لو كان القديم هو المختار عندكم ، لما تركتم ما شرع في الإنجيل ، بينوا يا قوم ... لعمري ليس لكم اليوم من محيص ، إن كان هذا جرمي فقد سبقني في ذلك محمد رسول الله ، ومن قبله الروح ، ومن قبله الكليم. وإن كان ذنبي إعلاء كلمة الله وإظهار أمره ، فأنا أول المذنبين. لا أبدل هذا الدين بملكوت السموات والأرضين". [35]
وقرر البهاء أن الدين قسمان . عملي وروحاني ، فالقسم الروحاني وهو مظاهر الألوهية والنبوة ، غير قابل للتبديل . والقسم العملي ، وهو المتعلق بالصور والأشكال الخارجية ، قابل للتغيير. وعلى هذا المبدأ جعل لأتباعه الصلاة تسع ركعات في اليوم والليلة ، وجعل قبلتهم في الصلاة أين يكون هو !!. وفي هذا يقول : " إذا أردتم الصلاة فولوا وجوهكم شطري الأقدس" [36] وسوى بين الرجل والمرأة في الحقوق الشرعية والسياسية. وقرر عقوبات مالية للزنا والسرقة وغيرهما ، ومنع التسري ، وحرم الزواج بأكثر من واحدة ، وقيد لهم الطلاق وصعبه. وحجته في هذا كله : أن جميع الأديان أضحت لا تصلح لإصلاح العالم ، فلابد من دين جديد يوافق هذا العصر. . عصر التقدم المادي العظيم . وهذا الدين الذي جاء به هو الذي يصلح في نظره لمسايرة هذا العصر دون غيره . [37]
ثانيا: منع الحسن بن الصباح وغيره من زعماء الباطنية ، العوام من دراسة العلوم ، والخواص من النظر في الكتب المتقدمة . وفعل الباب مثل ذلك فحرم في كتابه "البيان" التعليم وقراءة كتب غير كتبه ، فكان من وراء ذلك أن حرق أتباعه القرآن الكريم ، وما في أيديهم من كتب العلم ... ولكن بهاء الله أدرك أن هذا التحجير قد يصرف بعض الناس عن دعوته، فنسخ ذلك التحجير ، وذلك حيث يقول في كتابه المسمى بـ "الأقدس" "قد عفا الله عنكم ما نزل في البيان من محو الكتب ، وآذنا بكم بأن تقرأوا من العلوم ما ينفعكم " [38] .
ثالثا: من الباطنية من يدعي حلول الإله في بعض الأشخاص ، كالقرامطة الذين يدعون حلول الإله في إمامهم محمد بن إسماعيل . ونجد مثل هذه الدعوى متجلية في بعض مقالات البابية ، فهذا بهاء الله يقول في الكتاب " لنا مع الله حالات نحن فيها هو، وهو نحن ، ونحن نحن " [39] وهذا عباس الملقب بعبد البهاء يقول: "وقد أخبرنا بهاء الله بأن مجئ رب الجنود والأب الأزلي ، ومخلص العالم الذي لابد منه في آخر الزمان ، كما أنذر جميع الأنبياء ، عبارة عن تجليه في الهيكل البشري ، كما تجلى في هيكل عيسى الناصري ، إلا أن تجليه في هذه المرة أتم وأكمل وأبهى ، فعيسى وغيره من الأنبياء هيأوا الأفئدة والقلوب لاستعداد هذا التجلي الأعظم". [40] يريد بهذا : أن الله تجلى في بأعظم من تجليه في أجسام الأنبياء على ما يزعم . وهذا أبو الفضل الإيراني أحد دعاتهم يقول : "... فكل ما توصف به ذات الله ويضاف ويسند الى الله من العزة ، والعظمة ، والقدرة والعلم ، والحكمة ، والإرادة ، والمشيئة ، وغيرها من الأوصاف ، إنما يرجع بالحقيقة إلى مظاهر أمره ، ومطالع نوره ، ومهابط وحيه ، ومواقع ظهوره " [41] ومثل هذا كثير في كلام زعمائهم ودعاتهم .
رابعا: يدعي الباطنية رجوع الإمام المعصوم بعد استناره ، ويحصرون مدارك الحق في أقواله . والبهائية يقولون هذا القول ويثبتونه في كتبهم .
يقول بهاء الله في الكتاب " يسند القائم ظهره الى الحرم ، ويمد يده المباركة ، فترى بيضاء من غير سوء ، ويقول : هذه يد الله ، ويمين الله ، وعين الله ، وبأمر الله . أنا الذي لا يقع عليه اسم ولا صفة ، ظاهري إمامة ، وباطني غيب لا يدرك". [42]
وقد عرفت أن البابية والبهائية يعبرون عن الإمام المعصوم بمن سيظهره الله ، ويزعمون أنه هو الذي يعرف تأويل ما جاءت به الرسل عليهم السلام .
خامسا : من مبادئ قدماء الباطنية التفرس . وعلى هذا المبدأ منعوا التكلم بآرائهم في بيت فيه سراج أي فقيه أو متعلم . والبهائية يسيرون على هذا المبدأ وإليك ما يثبت ذلك :
أرسل إلى أبي الفضائل الإيراني بعض إخوانه كتابا يرجوه فيه أن يرد على مقال كتبه جرجس صال الإنجليزي بإمضاء هاشم الشامي ، والمقال يتضمن توجيه الاعتراضات على فصاحة القرآن الكريم ، فاعتذر أبو الفضائل عن ذلك في رسالة أرسل بها إلى صاحبه يقول فيها :
".. إن هناك موانع جمة ، أعظمها وأشدها مانع كبير لا يستسهل العاقل تذليل صعوباته ، ولا يتسنم النبيه متن صهواته ، حيث إن قلوب الذين اكتفوا من الإسلام باسمه ، ومن القرآن برسمه ، تغذت في مدة مديدة ، وأزمنة غير وجيزة بقشور المطالب ، وألفت سفاسف المسائل حتى بعدت عن لباب الكتاب ، وجهلت حقيقة معاني الخطاب ، فلو كشفنا عن حقائق الإشارات ، وأظهرنا المعاني المقصودة من ظواهر العبارات ، فطلعت صور الحقائق المقصورة في قصر الآيات ، وتهللت وجوه المعاني المستورة في خدور الاستعارات ، لندفع تلك الردود والاعتراضات ، وتظهر بطلان تلك الإيرادات والانتقادات ، تثور أولا أحقاد جهلائنا ، ويرتفع نعيب سفهائنا ، وينادون بالويل والثبور، ويثيرون الأحقاد الكامنة في الصدور..." ثم يقول لصاحبه في آخر الرسالة " ... لتعلم حق العلم أني ما نسيت ولم أكره صفة من صفاتك ، ولا خلة من خلالك ، ولكن – والحق يقال – إنك نسيت وصية روح الله الواردة في سفر متى "لا تلقوا جواهركم تحت أرجل الخنازير" حيث تجاهر بجواهر والأسرار ومعالي المعاني ، عند من لا يتسحق أن تخاطبه وتلاطفه ، وتجالسه وتؤانسه ، فكيف أنه يكون مستودع الحكمة الإلهية ، والأسرار الربانية ، فتمسك بالحكمة، وكان على جانب عظيم من الفطنة" [43] .
ويقول في رسالة أرسلها إلى الشيخ فرح الله زكي الكردي أحد أتباعهم في مصر "... واعلم يا حبيبي أنه سيدخل عليكم كثيرون ، ويتظاهرون بنوايا المتفحص الباحث ، ويظهرون السلم والوفاق ، وهم أهل النفاق أاصل الشقاق ، ومقصودهم معرفة أهل الإيمان ، واضطهاد أصحاب الإيقان كما تصرح وتنادي آي الفرقان : منها قوله تعالى: } يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب {... إلى آخر الآيات [44] ، فتحكم الآية المباركة أنه لابد من دخول أهل النفاق على أصحاب الوفاق ، للاستطلاع والاستراق ، فلا يغرنك تحببهم وترفقهم ، ولا يخدعنك ملاينتهم وتملقهم ، فإن التهور والتعجيل يوجب الندم والافتضاح ، والتروي يكفل النجاح والفلاح ، ومن الحكم المأثورة : "العجلة من الشيطان ، والتأني من الرحمن" [45] .
من كل ما تقدم يظهر لنا بوضوح : أن البابية والبهائية ليسوا أصحاب نحلة جديدة في تعاليمها ومعتقداتها ، وإنما هم قوم من أهل الباطن يريدون الكيد للإسلام باسم الإصلاح الديني ، وسيظهر لك من تأويلاتهم للقرآن – علاوة على ما سبق – أنهم ينهجون نهج الباطنية الأول ، ويرتسمون خطاهم في تحريفهم لكتاب الله ، والعبث بآياته!!.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
صانع المعروف
صانع المعروف


عدد المساهمات : 179
نقاط : 23882
تاريخ التسجيل : 25/06/2011

الكتاب الاسطورة مناهج المفسرين  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الكتاب الاسطورة مناهج المفسرين    الكتاب الاسطورة مناهج المفسرين  I_icon_minitimeالسبت أغسطس 13, 2011 2:28 pm

موقف البابية والبهائية من تفسير القرآن الكريم:
لم تحل عقائد البابية والبهائية بينهم وبين الاعتراف بالقرآن الكريم ، ولم يمنعهم موقفهم الشاذ من الرجوع إليه ليأخذوا منه الشواهد على دعاواهم الباطلة ، ومذاهبهم الفاسدة ، تمويها على العامة ، وتغريرا بعقول الأغمار الجهلة.
***
· أبو الفضائل الايراني يعيب تفاسير أهل السنة:
ولم يكن في وجوههم قطرة من الحياء تمنعهم من التنديد بتفاسير علماء أهل السنة وتحقيرها ، فهذا داعيتهم أبو الفضائل الإيراني ، نجده في رسالة أرسلها لصديق له ، يعيب على تفاسير أهل السنة فيقول : ".... ولقد يدهش الإنسان ويتحير يا حبيبي من تعاليمهم الباطلة ، وتفاسيرهم المضحكة ، فإن أحباءنا الأمريكيين الذين تشرفوا بالوفود على الأرض المقدسة في هذه الأيام الأخيرة قابلناهم في بيروت ، وسافرنا معهم الى الأرض الفيحاء مدينة حيفا ، أخبرونا بما يتحير منه الأريب ، ويدهش منه اللبيب ، كيف تقدمت كلمة الله في تلك الأقطار البعيدة الشاسعة مع هذه التفاسير الباطلة الضائعة ، من النفوس الجاهلة الخادعة؟ أليس ذلك من عظيم قدرة الله وشديد قوته ؟ وسطوع آياته وظهور بيناته " ؟ [46] .
يعيب أبو الفضائل تفسير أهل السنة ، لأنه يرى في زعمه أنه وأهل نحلته خير من يفهم القرآن ، ويعلم ما فيه من أسرار ورموز ، ويرى أنه ومن شاكله هم الراسخون في العلم ، الذين يقفون على عجائب القرآن التي لا يدل عليها إلا باطنه ، أما ما يعني به مفسرو أهل السنة من الظواهر فليس في زعمه من المعاني التي يرمي إليها القرآن ، وفي هذا يقول ما نصه : "... لو كان معاني آيات القرآن ما هو ظاهر يعرفه كل من يعرف اللغة العربية ، ويتلذذ منه كل من له إلمام بالعلوم الأدبية ، كيف يتم هذا القول – يريد قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن القرآن : إنه لا تنقضي عجائبه – وكيف يصدق قول الله في الآية (7) من سورة آل عمران : } وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ{ .
******
· انتاج البابية والبهائية في التفسير، ومثل من تأويلاتهم الفاسدة:
ولكن هل وصل إلى أيدينا شئ من كتب هذه الطائفة في تفسير القرآن ؟ لم نسمع ولم نقرأ أنهم ألفوا تفسيراً متناولا للقرآن آية آية ، وإنما قرأنا أن رئيسهم الأول فسر سورة البقرة ، وسورة الكوثر ، ولكن لم يصل إلى أيدينا شئ من ذلك ، وكل ما وصل إلينا هو نبذ من تفسيره ، وتفسير بعض أشياعه ودعاته ، قرأناها في كتبهم أنفسهم ، وفي الكتب والمقالات التي كتبت عنهم ، وهذه النبذ مع قلتها تصور لنا مقدار تهجمهم على تحريف القرآن الكريم ، والميل بنصوصه إلى ما يرضي اهواءهم ، ويشبع أطماعهم . وإليك بعض هذه التأويلات ، لتقف بنفسك على مقدار هذيان القوم ، وتلاعبهم بالقرآن وبالعقول !!.
· من تأويلات الباب:
فسر الباب سورة يوسف ، فمشى فيها على طريقة التأويل الذي لا يقره الشرع ولا يقبله العقل ، ولا يمكن أن يفهمه إلا من يفهم لغة المبرسمين [47] كما قيل.
وإليك بعض ما قاله الباب في تفسيره لسورة يوسف ، لتقف على مقدار هذيانه ، وتلاعبه بالنصوص القرآنية.
عند قوله تعالى في الآية (4) } إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ{ .. يقول ما نصه : " وقد قصد الرحمن من ذكر يوسف نفس الرسول ، وثمرة البتول ، حسين أبن علي بن أبي طالب مشهوداً.... إذ قال حسين لأبيه يوماً : إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم بالإحاطة على الحق لله القديم سجاداً ... وإن الله قد أراد بالشمس فاطمة ، وبالقمر محمداً ، وبالنجوم آئمة الحق في أم الكتاب معروفا ، فهم الذين يبكون على يوسف بإذن الله سجداً وقياما ".
وفي قوله تعالى في الآية (5) } قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ { ... يقول ما نصه : "إذ قال على يا بني لا تخبر مما أراك الله من أمرك إخوتك ترحما على الفهم ، وصبرا لله العلي ، وهو الله كان عزيزاً حميداً ، إن كانت تخبر من أمرك في بعض مما قضى الله فيك ، فيكيدوا لك كيدا ، بأن يقتلوا أنفسهم في محبة الله من دون نفسك الحق شهيداً ، وإن الله لوجهك بدمك محمرا على الأرض بالحق على الحق صبيغاً وإن الله قد شاء كما شاء أن يراك مخضبا شعرك من دمك ونفسك على الأرض على غير الحق لدى الحق قتيلا . وجسمك على الأرض عريا . وإن الله شاء كما شاء بأن يرى بناتك وحريمك في أيدي الكافرن أسيراً "..
وعند قوله تعالى في الآية (Cool } إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ { .. يقول ما نصه : "... إذ قالوا حروف لا إله إلا الله . وإن يوسف أحب إلي أبينا منا بما قد سبق من علم مرتفعا عما في الدينا وأيدي العالمين جميعا . وإنا نحن عصبة فيما أراد الله في شأن يوسف النبي محمد العربي حول السطر مسطوراً . وإن الله قد فضل إبانا بفضل نفسه وقدر الله سر المستسر من سر مره بما في أيدي العالمين بالكشف المبين على أهل النار من سر "الباء" ضلالا.... الخ [48] .
*****
· من تأويلات بهاء الدين :
ويروي بهاء الله أن ما ورد في القرآن عن الصراط ، والزكاة ، والصيام ، والحج، والكعبة ، والبلد الحرام ، وما إلى ذلك ، كله لا يراد به ظاهره وإنما يراد به الأئمة . وفي هذا يقول في الكتاب : " قال أبو جعفر الطوسي : قلت لأبي عبدالله : أنتم الصراط في كتاب الله ، وأنتم الزكاة ، وأنتم الحج ؟ قال . يا فلان.. نحن الصراط في كتاب الله عز وجل ، ونحن الزكاة ، ونحن الصيام ، ونحن الحج ، ونحن الشهر الحرام ، ونحن البلد الحرام ، ونحن كعبة الله ، ونحن قبلة الله ، ونحن وجه الله " [49] .
وفي كتاب بهاء الله والعصر الجديد ، ما يدل على أن البهائيين لا يعترفون بالبعث ولا بالجنة والنار ، حيث يفسرون يوم الجزاء ويوم القيامة بمجئ ميرزا حسين الملقب ببهاء الله قال في كتاب بهاء الله والعصر الجديد "وطبقا للتفاسير البهائية ، يكون مجئ كل مظهر إلهي عبارة عن يوم الجزاء ، إلا أن مجئ المظهر الأعظم بهاء الله : هو يوم الجزاء الأعظم للدورة الدنيوية التي نعيش فيها " وقال : " ليس يوم القيامة أحد الأيام العادية ، بل هو يوم يبتدئ بظهور المظهر ، ويبقى ببقاء الدورة العالمية " [50] .
ويفسر البهائية الجنة بالحياة الروحانية ، والنار بالموت الروحاني ، فقد جاء في كتاب بهاء الله والعصر الجديد " أن الجنة والنار في الكتب المقدسة حقائق مرموزة " فالجنة ترمز الى حياة الكمال ، والنار ترمز الى حياة النقص ، ولما كانت الحياة الروحية في نظر البهاء هي الإيمان به ، والموت الروحي هو تكذيب دعوته . فإنا نراه يقرر ذلك فيقول : "... منهم من قال : هل الآيات نزلت ؟ قل : أي ورب السموات . قال: أين الجنة والنار؟ قل : الأولى لقائي ، والأخرى نفسك يا أيها المشرك المرتاب" [51] .


الفصل الخامس
تفسير الصوفية
· أصل كلمة تصوف:
وقع الاختلاف في أصل هذه الكلمة " تصوف " فقيل : إنها مشتقة من الصوف ، وذلك لأن الصوفية خالفوا الناس في لبس فاخر الثياب فلبسوا الصوف تقشفاً وزهداً ، وقيل : إنه من الصفاء ، وذلك لصفاء قلب المريد ، وطهارة باطنه وظاهره عن مخالفة ربه . وقيل : إنه مأخوذ من الصفة التي ينسب إليها فقراء الصحابة المعروفون بأهل الصفة . ويرى غيرهم أنه لقب غير مشتق . قال القشيري رحمه الله : "ولا يشهد لهذا الاسم اشتقاق من وجهة العربية ، ولا قياس ، والظاهر أنه لقب . ومن قال باشتقاقه من الصفاء أو من الصفة فبعيد من جهة القياس اللغوي . قال : وكذلك من الصوف ، لأنهم لم يختصوا به" [52] .
*****
· معنى التصوف:
وأما معنى التصوف .. فقيل : "هو إرسال النفس مع الله على ما يريده " [53] .
وقيل : " هو مناجاة القلب ومحادثة الروح ، وفي هذه المناجاة طهرة لمن شاء أن يتطهر ، وصفاء لمن أراد التبرؤ من الرجس والدنس ، وفي تلك المحادثة عروج إلى سماء النور والملائكة ، وصعود إلى عالم الفيض والإلهام . وما هذا الحديث والنجوى إلا ضرب من التأمل ، والنظر ، والتدبر في ملكوت السموات والأرض، بيد أن الجسم والنفس متلازمان وتوأمان لا ينفصلان ، ولا سبيل إلى تهذيب أحدهما بدون الآخر. فمن شاء لنفسه صفاء ورفعة فلابد له أن يتبرأ عن الشهوات وملذات البدن .. فالتصوف إذن : فكر وعمل ، ودراسة ، وسلوك " [54] .
*****
· نشأة التصوف وتطوره:
والتصوف بهذا المعنى موجود منذ الصدر الأول للإسلام فكثير من الصحابة كانوا معرضين عن الدنيا ومتاعها ، آخذين أنفسهم بالزهد والتقشف ، مبالغين في العبادة ، فكان منهم من يقوم الليل ويصوم النهار، ومنهم من يشد الحجر على بطنه تربية لنفسه وتهذيباً لروحه ، غير أنهم لم يعرفوا في زمنهم باسم الصوفية ، وإنما اشتهر بهذا اللقب فيما بعد من عرفوا بالزهد والتفاني في طاعة الله تعالى ، وكان هذا الاشتهار في القرن الثاني الهجري ، وأول من سمى بالصوفي : أبو هاشم الصوفي المتوفي سنة 150 هـ (خمسن ومائة من الهجرة) [55] .
وفي هذا القرن وما بعده تولدت بعض الأبحاث الصوفية ، وظهرت تعاليم القوم ونظرياتهم التي تواضعوا عليها ، وأخذت هذه الأبحاث تنمو وتتزايد كلما تقادم العهد عليها . وبمقدار ما اقتبسه القوم من المحيط العلمي الذي يعيشون فيه تطورت هذه الأبحاث والنظريات.
ولقد استفاد المتصوفة من الفلاسفة والمتكلمين والفقهاء ما كان له الأثر الأكبر في هذا التطور الصوفي ، غير أنهم أخذوا من الفلسفة بحظ وافر، بل وكونوا فلسفة خاصة بهم ، حتى أصبحنا نرى بينهم رجالا أشبه بالفلاسفة منهم بالمتصوفة ، وأصبحنا نرى بعضهم يدين بمسائل فلسفية لا تتفق ومبادئ الشريعة ، مما أثار عليهم جمهور أهل السنة ، وجعلهم يحربون التصوف الفلسي، ويؤيدون التصوف الذي يدور حول الزهد ، والتقشف ، وتربية النفس ، وإصلاحه .. وما زال أهل السنة يحاربون التصوف الفلسفي حتى كادوا يقضون عليه في نهاية القرن السابع الهجري.
ومن ذلك الوقت دخل في التصوف رجال من غير أهله ، تظاهروا بالورع والطاعة ، وتحلوا بالزهد الكاذب والتقشف المصطنع ، فأصبحنا نرى بعض الجهلاء الأميين يشرفون على الطريق ، ويتولون تربية الأتباع والمريدين ، ووقفت التعاليم الصوفية عند دائرة محدودة ، هي دائرة الأوراد والأذكار ، وإن تعدتها فلا أكثر من بعض الأبحاث الضيقة في الفقه والتفسير والحديث.
*****



· اقسام التصوف:
مما تقدم يتضح لنا أن التصوف ينقسم إلى قسمين أساسيين :
تصوف نظري: وهو التصوف الذي يقوم على البحث والدراسة .
وتصوف عملي : وهو التصوف الذي يقوم على التقشف والزهد والتفاني في طاعة الله . وكل من القسمين كان له أثره في تفسير القرآن الكريم ، مما جعل التفسير الصوفي ينقسم أيضاً إلى قسمين : تفسير صوفي نظري . وتفسير صوفي فيضي أو أشاري . وسنتكلم على كل قسم منهما بما يفتح الله به ويوفق اليه:
اولا – التفسير الصوفي النظري:
وجد من المتصوفة – كما قلنا – من بنى تصوفه على مباحث نظرية ، وتعاليم فلسفية ، فكان من البدهي أن ينظر هؤلاء المتصوفة إلى القرآن الكريم نظرة تتمشى مع نظرياتهم ، وتتفق وتعاليمهم .
وليس من السهل أن يجد الصوفي في القرآن ما يتفق صراحة مع تعاليمه ، ولا ما يتمشى بوضوح مع نظرياته التي يقول بها ، إذ آن القرآن عربي جاء لهداية الناس لا لإثبات نظرية من النظريات ، ربما كانت في الغالب مستحدثة وبعيدة عن روح الدين وبداهة العقل .
غير أن الصوفي حرصاً منه على أن يتسلم له تعاليمه ونظرياته ، يحاول أن يجد في القرآن ما يشهد له أو يستند إليه ، فتراه من أجل هذا يتعسف في فهمه للآيات القرآنية ، ويشرحها شرحا يخرج بها عن ظاهرها الذي يؤيده الشرع ، وتشهد له اللغة.
*****



· ابن عربي شيخ هذه الطريقة:
ونستطيع أن نعتبر الأستاذ الأكبر محيي الدين بن عربي شيخ هذه الطريقة في التفسير ، إذ أنه أظهر من خب فيها ووضع ، وأكثر أصحابه معالجة للقرآن على طريقة التصوف النظري ، وإن كان له من التفسير الإشاري ما يجعله في عداد المفسرين الإشاريين إن لم يكن شيخهم ايضا.
*****

· تأثر ابن عربي بالنظريات الفلسفية:
نقرأ لابن عربي في الكتب التي يشك في نسبتها إليه ، كالتفسير المشهور باسمه ، وفي الكتب التي تنسب إليه على الحقيقة كالفتوحات المكية ، والفصوص ، فنراه يطبق كثيراً من الآيات القرآنية على نظرياته الصوفية الفلسفية .
فمثلا يفسر بعض الآيات بما يتفق والنظريات الفلسفية الكونية ، فعند قوله تعالى في الآية (57) من سورة مريم في شأن إدريس عليه السلام : } وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً { .. نجده يقول : " وأعلى الأمكنة المكان الذي تدور عليه رحى عالم الأفلاك ، وهو فلك الشمس ، وفيه مقام روحانية إدريس ، وتحته سبعة أفلاك ، وفوقه سبعة أفلاك ، وهو الخامس عشر"..
ثم ذكر الأفلاك التي تحته ، والتي فوقه ، ثم قال : "وأما علو المكانة فهو لنا أعني المحمدين كما قال تعالى : } وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ { . [56] . في هذا العلو ، وهو يتعالى عن المكان لا عن المكانة " [57] .
وعند قوله تعالى في الآية (87-101) وما بعدها من سورة البقرة : } وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ { .. إلى قوله – } كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ { يقول : "... والظاهر أن جبرائيل هو العقل الفعال ، وميكائيل هو روح الفلك السادس وعقله المفيض للنفس النباتية الكلية الموكلة بأرزاق العباد ، وإسرافيل هو روح الفلك الرابع وعقله المفيض للنفس الحيوانية الكلية الموكلة بالحيوانات ، وعزرائيل هو روح الفلك السابع الموكل بالأرواح الإنسانية كلها يقبضها بنفسه أو بالوسائط التي هي أعوانه يسلمها إلى الله تعالى" [58] .
وعند قوله تعالى في الآيتين (19، 20) من سورة الرحمن } مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ{19} بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ { .. يقول: } مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ { .. بحر الهيولي الجسمانية الذي هو الملح الأجاج ، وبحر الروح المجرد الذي هو العذب الفرات } يَلْتَقِيَانِ { . في الوجود الإنساني } بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ{ . هو النفس الحيوانية التي ليست في صفاء الروح المجردة ولطافتها ، ولا في كثرة الأجساد الهيولانية وكثافتها } لَّا يَبْغِيَانِ {.. لا يتجاوز أحدهما حده فيغلب على الآخر بخاصيته ، فلا الروح يجرد البدن ويخرج به ويجعله من جنسه ، ولا البدن يجسد الروح ويجعله مادياً... سبحان خالق الخلق القادر على ما يشاء " [59] .
*****
· تأثره في تفسيره بنظرية وحدة الوجود:
كذلك نرى ابن عربي يتأثر في تفسيره للقرآن بنظرية وحدة الوجود ، التي هي أهم النظريات التي بنى عليها تصوفه ، فنراه في كثير من الأحيان يشرح الآيات على وفق هذه النظرية ، حتى إنه ليخرج بالآية عن مدلولها الذي أراده الله تعالى.
فمثلا عندما تعرض لقوله تعالى في أول سورة النساء } يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ { .. الآية ، نجده يقول : } اتَّقُواْ رَبَّكُمُ {.. اجعلوا ما ظهر منكم وقاية لربكم ، واجعلوا ما بطن منكم – وهو ربكم – وقاية لكم ، فإن الأمر ذم وحمد ، فكونوا وقايته في الذم ، واجعلوه وقايتكم في الحمد تكونوا أدباء عالمين" [60] .
وفي تفسيره لقوله تعالى في الآيتين (29 ،30 ) من سورة الفجر } فَادْخُلِي فِي عِبَادِي{29} وَادْخُلِي جَنَّتِي { .. يقول : "... وادخلي جنتي التي هي سترى ، وليست جنتي سواك ، فأنت تسترني بذاتك الإنسانية فلا أعرف الا بك ، كما أنك لا تكون إلا بي فمن عرفك عرفني ، وأنا لا أعرف فانت لا تُعرف ، فإذا دخلت جنته دخلت نفسك ، فتعرف نفسك معرفة اخرى ، غير المعرفة التي عرفتها حين عرفت ربك بمعرفتك إياها ، فتكون صاحب معرفتين : معرفة به من حيث أنت ، ومعرفة به بك من حيث هو لا من حيث أنت ، فأنت عبد رأيت رباً ، وأنت رب لمن له فيه أنت عبد ، وأنت رب وأنت عبد لمن له في الخطاب عهد".... الخ [61] .
وفي سورة آل عمران عند قوله تعالى في الآية (191) } رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ { .. أي شيئا غيرك ، فإن غير الحق هو الباطل ، بل جعلته أسماءك ومظاه صفاتك " سبحانك " ننزهك أن يوجد غيرك . أي يقارن شئ فردانيتك أو يثنى وحدانيتك" [62] .
ومثلا عند قوله تعالى في الآيتين (9 ،10) من سورة الشمس } قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا{9} وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا { .. يقول : " تحقيق هذا الذكر أن النفس لا تزكوا الا بربها ، فيه تشريف وتعظيم في ذاتها ، لأن الزكاة ربو ، فمن كان الحق سمعه وبصره وجميع قواه ، والصورة في الشاهد صورة خلق ، فقد زكت نفس من هذا نعته ، وربت وأنبتت من كل زوج بهيج ، كالأسماء الإلهية لله . والخلق كله بهذا النعت في نفس الأمر ، ولولا أنه هكذا في نفس الأمر ما صح بصورة الخلق ظهور ولا وجود ، ولذلك خاب من دساها ، لأنه جهل ذلك فتخيل أنه دسها في هذا النعت ، وما علم أن هذا النعت لنفسه نعت ذاتي لا ينفك عنه ويستحيل زواله . لذلك وصفه بالخيبة حيث لم يعلم هذا ، ولذلك قال: " قد افلح " ففرض له البقاء ، والبقاء ليس إلا لله ، أو لما كان عند الله ، وما ثم الا الله ، أو ما هو عنده ، فخزائنه غير نافدة ، فلي إلا صور تعقب صوراً " [63] .
.. وغير هذا كثير من قس الآيات وإخضاعها لنظرية وحدة الوجود التي يدين بها ابن عربي .
*****
· قياسه الغائب على الشاهد:
كذلك نجد ابن عربي يفهم بعض النصوص القرآنية فهما خيالياً منتزعاً من المشاهد المحسوس ، فمثلا عند تفسيره لقوله تعالى في أول سورة الرحمن:
} الرَّحْمَنُ{1} عَلَّمَ الْقُرْآنَ{2} خَلَقَ الْإِنسَانَ{3} عَلَّمَهُ الْبَيَانَ{4} الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ{5} وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ{6} وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ{7} أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ{8} وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ {.. يقول ما نصه: } الرحمن{. على أي قلب نزل } خَلَقَ الْإِنسَانَ{ فعين له الصنف المنزل عليه } عَلَّمَهُ الْبَيَانَ{ .. أي نزل له البيان فأ بان عن المراد الذي في الغيب } الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ{ .. ميزن حركات الأفلاك } وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ{ .. لهذا الميزان ، أي من أجل هذا الميزان ، فمنه ذو ساق وهو الشجر، ومنه ما لا طاق له وهو النجم ، فاختلفت السجدتان . } وَالسَّمَاء رَفَعَهَا{ .. وهي قبلة الميزان } وَوَضَعَ الْمِيزَانَ{.. ليزن به الثقلان } أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ{ .. . علم القرآن
بالإفراط والتفريط من أجل الخسران } وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ{ .. مثل اعتدال نشأة الإنسان ، إذ الإنسان لسان الميزان } وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ { أي لا تفرطوا بترجيح إحدى الكفتين إلا بالفضل . وقال تعالى } وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ { .. [64]} وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ { ..
} وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ { .. وقد خلق جسد الإنسان على صورة الميزان ، وجعل كفتيه : يمينه وشماله ، وجعل لسانه : قائمة ذاته . فهو لأي جانب مال ، وقرن الله السعادة باليمين ، وقرن الشقاء بالشمال ، وجعل الميزان الذي يوزن بالأعمال على شكل القبان ، ولهذا وصف بالثقل والخفة ، ليجمع بين الميزان العددي وهو قوله تعالى " بحسبان " .. وبين ما يوزن بالرطل ، وذلك لا يكون إلا في القبان ، فلذلك لم يعين الكفتين ، بل قال : فأما من ثقلت موازينه ... في حق السعداء ، وأما من خفت موازينه .. في حق الأشقياء ، ولو كان ميزان الكفتين لقال : وأما من ثقلت كفة حسناته فهو كذا ، وأما من ثقلت كفة سيئاته فهو كذا . وإنما جعل ميزان الثقل هو عين ميزان الخفة كصورة القبان ، ولو كان ذا كفتين لوصف كفة السئيات بالثقل أيضاً إذا رجحت على الحسنات ، وما وصفها قط إلا بالخفة فعرفنا أن الميزان على شكل القبان..." [65] . فاعلم أنه ما من صنعة ولا مرتبة ولا حال ولام مقام إلا والوزن حاكم عليه علماً وعملا ، فللمعاني في ميزان بيد العقل يسمى المنطق ، يحتوي على كفتين تسمى المقدمتين ، وللكلام ميزان يسمى النحو يوزن به الألفاظ لتحقيق المعاني التي تدل عليه ألفاظ ذلك اللسان ، ولكل ذي لسان ميزان وهو المقدار المعلوم الذي قرنه الله بإنزال الأرزاق فقال :
*****

· اخضاعه قواعد النحو لنظراته الصوفية:
وكذلك يخضع ابن عربي التفسير الصوفي النظري إلى القواعد النحوية أحياناً ، ولكنه خضوع يكفيه الصوفي على حسب ما يرضى روحه ويوافق ذوقه ، فنجد ابن عربي مثلا عند تفسيره لقوله تعالى في الآية (30 ) من سورة الحج } وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ { .. يقول : ..وقوله " عند ربه " .. العامل في هذا الظرف في طريقنا . قوله : " ومن يعظم " . أي من يعظمها عند ربه ، أي في ذلك الموطن ، فلتبحث في المواطن التي تكون فيها عند ربك ما هي ؟... كالصلاة مثلا ، فإن المصلي يناجي ربه ، فإذا عظم حرمة الله في هذا الموطن كان خيراً له ... والمؤمن إذا نام على طهارة فروحه عند ربه ، فيعظم هناك حرمة الله ، فيكون الخير الذي له في مثل هذا الموطن المبشرة التي تحصل له في نومه أو يراها له غيره . والمواطن التي يكون العبد فيها عند ربه كثيرة فيعظم فيها حرمات الله على الشهود" [66] .
*****
· التفسير الصوفي النظري في الميزان:
من هذه الأمثلة السابقة كلها نستطيع أن نقرر في صراحة واطمئنان : أن التفسير الصوفي النظري تفسير يخرج بالقرآن – في الغالب – عن هدفه الذي يرمي إليه !! .. يقصد القرآن هدفاً معيناً بنصوصه وآياته ، ويقصد الصوفي هدفاً معينا بأبحاثه ونظرياته . وقد يكون بين الهدفين تنافر وتضاد ، فيأبى الصوفي إلا أن يحول القرآن عن هدفه ومقصده ، إلى ما يقصده هو ويرمي إليه ، وغرضه بهذا كله : أن يروج لتصوفه على حساب القرآن ، وأن يقيم نظرياته وأبحاثه عن أساس من كتاب الله ، وبهذا الصنيع يكون الصوفي فقد خدم فلسفته التصوفية ولم يعمل للقرآن شيئا ، اللهم إلا هذا التأويل الذي كله شر على الدين وإلحاد في آيات الله !!..
ثانيا: التفسير الصوفي الفيضي او الاشاري – حقيقته:
التفسير الفيضي أو الإشاري : هو تأويل آيات القرآن الكريم على خلاف ما يظهر منها بمقتضى إشارات خفية تظهر لأرباب السلوك ، ويمكن التطبيق بينها وبين الظواهر المرادة .
· الفرق بينه وبين التفسير الصوفي النظري:
وعلى هذا فالفرق بين التفسير الصوفي الاشاري والتفسير الصوفي النظري من وجهين :
اولا : أن التفسير الصوفي النظري ، ينبني على مقدمات علمية تنقدح في دهن الصوفي أولا ، ثم ينزل القرآن عليها بعد ذلك .
أما التفسير الإشاري ، فلا يرتكز على مقدمات علمية ، بل يرتكز على رياضة روحية يأخذ بها الصوفي نفسه حتى يصل الى درجة تنكشف له فيها من سجف العبارات هذه الاشارات القدسية ، وتنهل على قلبه من سحب الغيب ما تحمله الآيات من المعارف السبحانية .
ثانياً: أن التفسير الصوفي النظري ، يرى صاحبه أنه كل ما تحتمله الآية من المعاني ، وليس وراءه معنى آخر يمكن أن تحمل الآية عليه... وهذا بحسب طاقته طبعاً .
أما التفسير الإشاري ، فلا يرى الصوفي أنه كل ما يراد من الآية ، بل يرى أن هناك معنى آخر تحتمله الآية ويراد منها أولا وقبل كل شئ ، ذلك هو المعنى الظاهر الذي ينساق إليه الذهن قبل غيره .
· هل للتفسير الاشاري أصل شرعي ؟
ربما يجول بخاطر القارئ الكريم هذا السؤال وهو : للتفسير الإشاري أصل شرعي يقوم عليه ، أو هو أمر جد بعد ظهور المتصوفة وذيوع طريقتهم ؟ وللجواب عن هذا السؤال نقول :
لم يكن التفسير الإشاري بالأمر الجديد في إبراز معاني القرآن الكريم ، بل هو أمر معروف من لدن نزوله على رسول الله صلى الله عليه وسلم .. أشار إليه القرآن ، ونبه عليه الرسول عليه الصلاة والسلام ، وعرفه الصحابة رضوان الله تعالى عليهم وقالوا به .
أما إشارة القرآن إليه ، ففي قوله تعالى في الآية (78) من سورة النساء
} فَمَالِ هَـؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً {.. وقوله في الآية (82) منها أيضا : } أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً {.. وقوله في الآية (24) من سورة محمد عليه السلام : } أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا { فهذه الآيات كلها تشير إلى أن القرآن له ظهر وبطن . وذلك لأن الله سبحانه وتعالى حيث ينعي على الكفار أنهم لا يكادون يفقهون حديثا ، ويحضهم على التدبر في آيات القرآن الكريم لا يريد بذلك أنهم لا يفهمون نفس الكلام ، أو حضهم على فهم ظاهره ، لأن القوم عرب ، والقرآن لم يخرج عن لغتهم فهم يفهمون ظاهره ولا شك ، وإنما أراد بذلك أنهم لا يفهمون عن الله مراده من الخطاب ، وحضهم على أن يتدبروا في آياته حتى يقفوا على مقصود الله ومراده ، وذلك هو الباطن الذي جهلوه ولم يصلوا إليه بعقولهم [67] .
وأما تنبيه الرسول صلى الله عليه وسلم ، فذلك في الحديث الذي أخرجه الفريابي من رواية الحسن مرسلا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :" لكل آية ظهر وبطن ، ولكل حرف حد ، ولكل حد مطلع" وفي الحديث الذي أخرجه الديلمي من رواية عبدالرحمن بن عوف مرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " القرآن تحت العرش له ظهر وبطن يحاج العباد".
ففي هذين الحديثين تصريح بأن القرآن له ظهر وبطن . ولكن ما هو الظهر وما هو البطن ؟ اختلف العلماء في بيان ذلك:
فقيل : ظاهرها – أي الآية – لفظها . وباطنها : تأويلها .
وقال ابو عبيدة: إن القصص التي قصها الله تعالى عن الأمم الماضية وما عاقبهم به ظاهرها الإخبار بهلاك الأولين ، وحديث حدث به عن قوم ، وباطنها وعظ الآخرين وتحذيرهم أن يفعلوا كفعلهم ، فيحل بهم مثل ما حل بهم... ولكن هذا خاص بالقصص ، والحديث يعم كل آية من آيات القرآن.
وحكى ابن النقيب قولا ثالثاً : وهو أن ظهرها ما ظهر من معانيها لأهل العلم ، وبطنها ما تضمنته من الأسرار التي أطلع الله عليها أهل الحقائق .
هذا هو أشهر ما قيل في معنى الظهر والبطن . وأما قوله في الحديث الأول : ولكل حرف حد ، فمعناه على ما قيل : لكل حرف حد أي منتهى فيما أراد الله من معناه ، أو لكل حكم مقدار من الثواب والعقاب . والأول أظهر . وقوله : ولكل حد مطلع ، ومعناه على ما قيل أيضاً : لكل غامض من المعاني والأحكام مطلع يتوصل به إلى معرفته ويوقف على المراد به . وقيل : كل ما يستحقه من الثواب والعقاب يطلع عليه في الآخرة عند المجازاة . والأول أظهر أيضا .
وأما الصحابة فقد نقل عنهم من الأخبار ما يدل على أنهم عرفوا التفسير الإشاري وقالوا به ، أما الروايات الدالة على أنهم يعرفون ذلك فمنها :
ما أخرجه ابن أبي حاتم من طريق الضحاك عن ابن عباس أنه قال :
" إن القرآن ذو شجون وفنون ، وظهور وبطون ، لا تنقضي عجائبه ، ولا تبلغ غايته ، فمن أوغل فيه برفق نجا ، ومن أخبر فيه بعنف هوى ، أخبار وأمثال ، وحلال وحرام ، وناسخ ومنسوخ ، ومحكم ومتشابه ، وظهر وبطن ، فظهره التلاوة ، وبطنه التأويل ، فجالسوا به العلماء ، وجانبوا به السفهاء ".
وروى عن أبي الدرداء أنه قال : " لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يجعل للقرآن وجوها".
وعن ابن مسعود أنه قال : " من أراد علم الأولين والآخرين فليثور القرآن" . وهذا الذي قالوه لا يحصل بمجرد تفسير الظاهر.
وأما الروايات الدالة على أنهم فسروا القرآن تفسيراً إشاريا ، فما رواه البخاري عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أنه قال : " كان عمر يدخلني مع اشباخ بدر ، فكأن بعضهم وجد في نفسه فقال : لم تدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله؟ فقال عمر : إنه من حيث علمتم ، فدعاه ذات يوم فأدخله معهم ، فما رأيت أنه دعاني يومئذ إلا ليريهم . قال : ما تقولون في قوله تعالى } إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ {.. فقال بعضهم : أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا ، وسكت بعضهم فلم يقل شيئا فقال لي : أكذاك تقول يا أبن عباس ؟ فقلت : لا . قال: فما تقول ؟ قلت : هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه له . قال: } إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ { .. وذلك علامة أجلك } فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً {.. فقال عمر : ما أعلم منها إلا ما تقول" [68] .
فبعض الصحابة لم يفهم من السورة أكثر من معناها الظاهر ، أما ابن عباس وعمر ، فقد فهما معنى آخر وراء الظاهر ، هو المعنى الباطن الذي تدل عليه السورة بطريق الاشارة.
وأيضا ما ورد من أنه لما نزل قوله تعالى في الآية (3) من سورة المائدة
} الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً {.. فرح الصحابة وبكى عمر رضى الله تعالى عنه وقال : ما بعد الكمال إلا النقص ، مستشعرا نعيه عليه الصلاة والسلام ، فقد أخرج ابن أبي شيبة " أن عمر رضى الله تعالى عنه لما نزلت الآية بكى ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما يبكيك ؟ قال : أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا ، فأما إذا كمل فإنه لم يكمل شئ قط إلا نقص ، فقال عليه الصلاة والسلام : صدقت " [69] .
فعمر رضى الله عنه أدرك المعنى الإشاري : وهو نعي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأقره النبي على فهمه هذا.. وأما باقي الصحابة .. فقد فرحوا بنزول الآية ، لأنهم لم يفهموا أكثر من المعنى الظاهر لها .
هذه الأدلة مجتمعة تعطينا أن القرآن الكريم له ظهر وبطن.. ظهر يفهمه كل من يعرف اللسان العربي.. وبطن يفهمه أصحاب الموهبة وأرباب البصائر. القاصرة ، بل هي أمر فوق ما نظن وأعظم مما نتصور . ولقد فهم ابن مسعود أن في فهم معاني القرآن مجالا رحباً ومتسعاً بالغاً فقال : "من أراد علم الأولين والآخرين فليثور القرآن " وإلى هذا أشار الله تعالى بقوله } مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ { . [70]} مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ {.. وقال :
*****

· التفاوت في ادراك المعاني الباطنة واصابتها:
غير أن هذه المعاني المتكاثرة التي يشتمل عليها باطن القرآن لم تكن في متناول المفسرين جميعاً ، كما أنهم لم يكونوا متساوين في القدر الذي أدركوه منها ، بل تفاوتوا في ذلك بمقدار ما بينهم من تفاوت في الأخذ بالأسباب ، كما أنهم لم يكونوا جميعا مصيبين فيما وصلوا إليه منها وأدركوه ، بل أصابوا في بعض منها وأخطأوا في بعض آخر ، وما أخطأوا فيه : بعضه عن جهل ، وبعضه عن تعمد خبيث ونية سيئة ، فالإمامية مع قولهم بالظاهر على ما به ، قالوا بالباطن أيضا، ولكنهم تعمدوا أن يفسروا الباطن على ما يتفق وعقيدتهم الفاسدة والباطنية ، لم يعترفوا بظاهر القرآن واعترفوا بالباطن فقط ، ولكنهم أيضا تعمدوا ان يفسروا الباطن على ما يتفق ونواياهم السيئة ، وكلا الفريقين ضال مبتدع.
أما الصوفية أهل الحقيقة وأصحاب الإشارة ، فقد اعترفوا بظاهر القرآن ولم يجحدوه ، كما اعترفوا بباطنه ، ولكنهم حين فسروا المعاني الباطنة خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا ، فبينما تجد لهم أفهاما مقبولة سائغة ، تجد لهم بجوارها أفهاما لا يمكن أن يقبلها العقل أو يرضى بها الشرع ، ولهذا أرى أن أستعرض بعض ما للقوم من أفهام في التفسير ، ثم أحكم عليها حكما مجرداً عن كل شئ إلا عن الحق والإنصاف ، ثم بعد هذا أذكر شروط التفسير الإشاري ، وهي الشروط التي إذا توافرت فيه جاز لنا قبوله والأخذ به ، وإلا أستقطناه ورفضناه مهما كان لقائله من المكانة في نفوسنا أو في نفوس القوم .
*****



· التفسير الاشاري في الميزان:
قلنا : إن القرآن له ظهر وبطن وذكرنا لك أهم الأقوال في معنى الظاهر والباطن ، ومهما يكن من شئ فإن ظاهر القرآن – وهو المنزل بلسان عربي مبين – هو المفهوم العربي المجرد . وباطنه هو مراد الله تعالى وغرضه الذي يقصد إليه من وراء الألفاظ والتراكيب ، هذا هو خير ما يقال في معنى الظاهر والباطن .
وعلى ذلك نقول : إن كل ما كان من المعاني العربية التي لا ينبني فهم القرآن إلا عليها داخل تحت الظاهر ، فالمسائل البيانية ، والمنازع البلاغية ، لا معدل لها عن ظاهر القرآن ، فإذا فهم الإنسان مثلا الفرق بين ضيق في قوله تعالى في الآية (125) من سورة الأنعام } فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء {.. وبين ضائق في قوله تعالى في الآية (12) من سورة هود } فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاء مَعَهُ مَلَكٌ {.. وعرف أن " ضيق " صفة مشبهة دالة على الثبوت والدوام في حق من يرد الله أن يضله ، وأن "ضائق" اسم فاعل يدل على الحدوث والتجدد وأنه أمر عارض له صلى الله عليه وسلم ، إذا فهم الإنسان مثل هذا فقد حصل له فهم ظاهر القرآن .
إذن فلا يشترط في فهم ظاهر القرآن زيادة على الجريان على اللسان العربي، وإذن كل معنى مستنبط من القرآن غير جار على اللسان العربي فليس من تفسير القرآن في شئ.. لا مما يستفاد منه ولا مما يستفاد به ومن ادعى فيه ذلك فهو مبطل في دعواه.
أما المعنى الباطن ، فلا يكفي فيه الجريان على اللسان العربي وحده . بل لابد فيه مع ذلك من نور يقذفه الله تعالى في قلب الإنسان يصير به نافذ البصير سليم التفكير ، ومعنى هذا أن التفسير الباطن ليس أمرا خارجا عن مدلول اللفظ القرآني ، ولهذا اشترطوا لصحة المعنى الباطن شرطين أساسيين :
أولهما: أن يصح على مقتضى الظاهر المقرر في لسان العرب بحيث يجري على المقاصد العربية .
وثانيهما: أن يكون له شاهد نصاً أو ظاهراً في محل آخر يشهد لصحته من غير معارض .
أما الشرط الأول : فظاهر من قاعدة كون القرآن عربياً ، فإنه لو كان له فهم لا يقتضيه كلام العرب لم يوصف بكونه عربيا بإطلاق ، ولأنه مفهوم يلصق بالقرآن وليس في ألفاظه ولا في معانيه ما يدل عليه ، وما كان كذلك فلا يصح أن ينسبب إليه أصلا ، إذ ليست نسبته إليه على أنه مدلوله أولى من نسبة ضده إليه . ولا مرجح يدل على أحدهما ، فإثبات أحدهما تحكم وتقوييل على القرآن ظاهر ، وعند ذلك يدخل قائله تحت إثم من قال في كتاب الله بغير علم .
وأما الشرط الثاني: فلأنه إن لم يكن له شاهد في محل آخر أو كان وله معارض صار من جملة الدعاوي التي تدعي على القرآن ، والدعوى المجردة عن الدليل غيير مقبولة باتفاق العلماء [71] .
إذا توافر هذان الشرطان في معنى من المعاني الباطنة قبل ، لأنه معنى باطن صحيح ، وإلا رفض رفضاً باتاً ، لأنه معنى باطن فاسد وتقول على الله بالهوى والتشهي.
إذا عرفنا هذا كله ثم ذهبنا نستعرض على ضوئه أقوال القوم في معاني القرآن الباطنة ، وجدنا الكثير منها يمكن أن يكون من قبيل الباطن الصحيح ، وكثير منها أيضاً هو من قبيل الباطن الفاسد المرفوض ، وكبرى المشاكل ان بعضها منسوب الى رجال من أهل العلم لهم مكانة علمية ودينية في نفوسنا ، بل وبعضها منسوب إلى رجال من الصحابة ، وهم أعرف الناس بكتاب الله وما يحويه من المعاني والأسرار.
فمن الأفهام الباطنة المنقولة عنهم ويمكن أن تكون من قبيل الباطن الصحيح المقبول : ما جاء في قوله تعالى في الآية (22) من سورة البقرة } فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ {.. من قول سهل التستري: "فلا تجعلوا لله اندادا" .. أي أضدادا ، فأكبر الأضداد ، فأكبر الأضداد : النفس الأمارة بالسوء ، المتطلعة إلى حظوظها ومناها بغير هدى من الله" [72] .
فهذا القول من سهل يشير إلى أن النفس الأمارة داخلة تحت عموم الأنداد حتى لو فصل لكان المعنى : فلا تجعلوا لله اندادا لا صنما ، ولا شيطاناً، ولا النفس ، ولا كذا ، ولا كذا.. وهذا مشكل من حيث الظاهر، لأن سياق الآية وما يحف بها من قرائن يدل على أن الأنداد بها كل ما يُعبد من دون الله ، سواء : أكان صنما أم غير صنم ، أما الأنفس فلم تكن معبودة لهم ، ولم يعرف أنهم اتخذوها أربابا من دون الله ، ومع هذا فيمكن أن يكون لهذا التفسير وجه صحيح ، وبيان ذلك :
أن الناظر في القرآن الكريم ، قد يأخذ من معنى الآية معنى باب الاعتبار، فيجريه فيما لم تنزل فيه الآية ، لأنه يجامعه في القصد أو يقاربه ، وسهل التستري – رحمه الله – حين قال في الآية ما قال ، لم يرد أنه تفسير اللآية ، بل أتي بما هو ند في الاعتبار الشرعي ، وذلك لأن حقيقة الند : أنه المضاد لنده ، الجاري على مناقضته ، والنفس الأمارة هذا شأنها ، لأنها تأمر صاحبها بمراعاة حظوظها ، لاهية أو صادة عن مراعاة حقوق خالقها ، وهذا هو الذي يعني به الند بالنسبة لنده ، لأن الأصنام نصبوها لهذا المعنى بعينه ، وعلى هذا فلا غبار على قول سهل في الآية ، بل وهناك ما يشهد له من الجهتين – جهة حمل الأنداد على الأنفس الأمارة اعتباراً ، وجهة كون الخطاب – وإن كان موجها للمشركين – فيه لأهل الإسلام نظر واعتبار.
أما ما يشهد له من الجهة الأولى : فقوله تعالى في الآية (31) من سورة التوبة: } اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ {... وظاهر أنهم لم يعبدوهم من دون الله ، ولكنهم ائتمروا بأوامرهم ، وانتهوا عما نهوهم عنه كيف كان ، فما حرموا عليهم حرموه ، وما أباحوا لهم حللوه ، وفاتهم أن المحلل والمحرم هو الله فقال الله سبحانه: } اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ {.. وهذا بعينه هو شأن المتبع لهوى نفسه .
وأمام ما يشهد له من الجهة الثانية : فهو أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال لبعض من توسع في الدنيا من أهل الإيمان : أين تذهب بكم هذه الآية } أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا { ؟ وكان هو يعتبر نفسه بها، مع أن الآية نزلت في حق الكفار لقوله تعالى : } وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ { [73].. الآية ، فعمر رضى الله عنه ، له في الآية نظر واعتبار ، فأخذ من معناها معنى أجرى الآية فيه وإن لم تنزل فيه ، حذرا منه وخوفا إن يكون التوسع في المباحات سببا في الحرمان من نعيم الآخرة ومتاعها ، فإذا صح لعمر رضى الله عنه أن ينزل الآية على المتوسعين في المباحات من المؤمنين ولم تنزل فيهم ، صح لسهل أيضاً أن ينزل الآية على النفس الأمارة وإن لم تنزل فيها كذلك .
ومن ذلك أيضاً ما جاء في قوله تعالى في الآية (35) من سورة البقرة } ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين { .. من قول سهل رحمة الله : هو لغيره.. أي لا تهتم شئ هو غيري . قال : فآدم عليه السلام لم يعصم من الهمة والفعل في الجنة ، فلحقه ما لحقه من أجل ذلك . قال : وكذلك كل من ادعى ما ليس له وساكنه قلبه ناظراً إلى هوى نفسه ، لحقه الترك من الله عز وجل مع ما جلبت عليه نفسه إلا أن يرحمه الله ، فيعصمه من تدبيره وينصره على عدوه وعليها .. قال : وآدم لم يعصم عن مساكتة قلبه إلى تدبير نفسه للخلود لما أدخل الجنة ، ألا ترى أن البلاء دخل عليه من أجل سكون القلب إلى ما وسوست به نفسه ، فغلب الهوى والشهوة العلم والعقل والبيان ونور القلب ، لسابق القدر من الله تعالى ، كما قال عليه السلام : الهوى والشهوة يغلبان العلم والعقل" [74] .
وبالنظر في كلام سهل هذا نرى أنه ادعى في الآية خلاف ما ذكره المفسرون من أن المراد النهي عن نفس الأكل ، لا عن سكون الهمة لغير الله ، وإن كان هذا منهيا عنه ايضاً ، لكن يمكن أن يكون لهذا الكلام الذي قاله سهل وجه يجري عليه، وذلك أن النهي في الآية لا يصح حمله على نفس القرب مجرداً ، إذ لا مناسبة فيه ظاهرة ، ولأنه لم يقل به أحد ، وإنما النهي عن معنى في القرب وهو إما التناول والأكل . وإما غيره وهو شئ ينشأ الأكل عنه، وذلك مساكنة الهمة ، فإنه الأصل في تحصيل الأكل ، ولا شك في أن السكون لغير الله لجلب منفعة أو دفع مفسدة منهي عنه .
فهذا التفسير له وجه الظاهر فكأنه يقول : لم يقع النهي عن مجرد الأكل من حيث هو أكل ، بل عما ينشأ عنه الأكل من السكون لغير الله ، إذ لو انتهى عما نهى الله عنه لكان ساكنا لله وحده : فلما لم يفعل وسكن إلى أمر في الشجرة غَّره به الشيطان وهو الخلود في الجنة ، أضاف الله إليه لفظ العصيان فقال في الآيتين (121 ،122) من سورة طه } وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى{121} ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى {..
مثل هذا – وهو كثير في كلام الصوفية – لا نعدم له وجها نحمله عليه حتى يكون تفسيراً صحيحاً ومقبولا.

§ شروط قبول التفسير الاشاري:
تبين لنا فيما سبق أن التفسير الإشاري منه ما هو مقبول ومنه ما ليس بمقبول فعلينا بعد ذلك أن نذكر الشروط التي يجب أن تتوفر في التفسير الإشاري – وإن كنا تعرضنا لأهمها فيما سبق – حتى يكون تفسيراً مقبولا وإليك هذه الشروط :
§ أولا : أن لا يكون التفسير الإشاري منافيا للظاهر من النظم القرآني الكريم.
§ ثانيا: أن يكون له شاهد شرعي يؤيده .
§ ثالثا: أن لا يكون له معارض شرعي أو عقلي .
وهذه الشروط الثلاثة قد أوضحناها فيما سبق ، فلا حاجة بنا إلى إعادة توضيحها .
§ رابعا: أن يدعي أن التفسير الإشاري هو المراد وحده دون الظاهر، بل لابد أن نعترف بالمعنى الظاهر أولا ، إذ لا يطمع في الوصول إلى الباطن قبل إحكام الظاهر "ومن ادعى فهم أسرار القرآن ولم يحكم التفسير الظاهر فهو كمن ادعى البلوغ إلى صدر البيت قبل أن يجاوز الباب " [75] .
إذا علمت هذا ، علمت بصورة قاطعة أنه لا يمكن لعاقل أن يقبل ما نقل عن بعض المتصوفة من أنه فسر قوله تعالى في الآية (255) من سورة البقرة } مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ {.. فقال : معناه : " من ذل " من الذل " ذي" إشارة إلى النفس " يشف " من الشفاء "ع " أمر من الوعي [76] .
وما نقل عن بعضهم من أنه فسر قوله تعالى في الآية (69) من سورة العنكبوت } وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ {.. فجعل " لمع " فعلا ماضيا بمعنى أضاء و " المحسنين " مفعوله [77] .
هذا التفسير وأمثاله إلحاد في آيات الله ، والله تعالى يقول : } إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا {.. [78] قال الآلوسي في تفسير هذه الآية : " أي ينحرفون في تأويل آيات القرآن عن جهة الصحة والاستقامة فيحملونها على المحامل الباطلة ، وهو مراد ابن عباس بقوله : يضعون الكلام في غير موضعه " [79] .
هذه هي الشروط التي إذا توفرت في التفسير الإشاري كان مقبولا ، ومعنى كونه مقبولا عدم رفضه لا وجوب الأخذ به ، أما عدم رفضه فلأنه غير مناف للظاهر ولا بالغ مبلغ التعسف ، وليس له ما ينافيه أو يعارضه من الأدلة الشرعية.
وأما عدم وجوب الأخذ به ، فلأنه من قبيل الوجدانيات ، والوجدانيات لا تقوم على دليل ولا تستند الى برهان، وانما هي امر يجده الصوفي من نفسه، وسر بينه وبين ربه، فله ان يأخذ به ويعمل على مقتضاه ، دون ان يلزم به احدا من الناس سواه.

أهم كتب التفسير الاشاري
من العلماء من وجه همته إلى التفسير الظاهر ولم يتعرض للتفسير الإشاري، كالبيضاوي ، والزمخشري مثلا . ومنهم من جعل غالب همه في التفسير الظاهر وتعرض للتفسير الإشاري بقدر ، كما فعل النيسابوري ، والآلوسي . ومنهم من غلبت عليه ناحية التفسير الإشاري ومع ذلك فهو يتعرض أحيانا للتفسير الظاهر، كما فعل سهل التستريي . ومنهم من وجه همته كلها للتفسير الإشاري . ولم يحم حول المعاني الظاهرة ، كما فعل أبوعبد الرحمن السلمي ، ومنهم من أعرض عن الظاهر وجمع في تفسيره بين التفسير الصوفي النظري والتفسير الصوفي الإشاري كما فعل صاحب التفسير المنسوب لابن عربي .
وليس ضروريا أن تتكلم عن تفسير النيسابوري والآلوسي من ناحية ما فيهما من التفسير الإشاري ، لأنهما أقرب إلى أهل الظاهر منهما إلى أهل الإشارة إذ كان كلامهما عن التفسير الإشاري أمرا عارضا وتابعاً لغيره ، وقد سبق الكلام عنهما في كتب التفسير بالرأي المحمود .
ويكفي هنا أن نتكلم عن أهم الكتب التي وجه أصحابها فيها كل عنايتهم ، أو جلها نحو التفسير الإشاري ، وإليك أهم هذه الكتب :
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
صانع المعروف
صانع المعروف


عدد المساهمات : 179
نقاط : 23882
تاريخ التسجيل : 25/06/2011

الكتاب الاسطورة مناهج المفسرين  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الكتاب الاسطورة مناهج المفسرين    الكتاب الاسطورة مناهج المفسرين  I_icon_minitimeالسبت أغسطس 13, 2011 2:30 pm

1- تفسير القرآن العظيم – للتستري
§ التعريف بمؤلف هذا التفسير:
مؤلف هذا التفسير هو أبو محمد سهل بن عبدالله بن يونس بن عيسى ابن عبدالله ، التستري ، المولود بتستر[80] سنة 200هـ (مائتين) . وقيل سنة 201 (إحدى ومائتين من الهجرة ) .
كان – رحمه الله – من كبار العارفين ، ولم يكن له في الورع نظير. وكان صاحب كرامات ، ولقى الشيخ ذا النون المصري – رحمه الله – بمكة . وكان له اجتهاد وافر ورياضة عظيمة . أقام بالبصرة زمنا طويلا ، وتوفى بها سنة 283هـ ( ثلاث وثمانين ومائتين ) ، وقيل سنة 273هـ ( ثلاث وسبعين ومائتين ) ، فرحمه الله رحمة واسعة [81] .
* * *

§ التعريف بهذا التفسير وطريقة مؤلفه فيه:
هذا التفسير مطبوع في مجلد صغير الحجم ، ولم يتعرض فيه مؤلفه لتفسير القرآن آية آية، بل تكلم عن آيات محدودة ومتفرقة من كل سورة . ويظهر لنا أن سهلا – رضى الله عنه – لم يؤلف هذا الكتاب ، وإنما هي أقوال قالها سهل في آيات متفرقة من القرآن الكريم ، ثم جمعها أبو بكر محمد ابن أحمد البلدي ، المذكور في أول الكتاب ، والذي يقول كثيرا : قال أبو بكر : سئل سهل عن معنى كذا . فقال كذا ، ثم ضمنها هذا الكتاب ونسبها إليه .
نقرأ في هذا الكتاب ، فنجد مؤلفه يقدم له بمقدمة يوضح فيها معنى ظاهر القرآن وباطنه ، ومعنى الحد والمطلع ، فيقول : " ما من آية في القرآن إلا ولها أربعة معان : ظاهر، وباطن، وحد، ومطلع . فالظاهر : التلاوة ، والباطن : الفهم ، والحد : حلالها وحرامها . والمطلع : إشراق القلب على المراد بها . فقهاً من الله عز وجل . فالعلم الظاهر علم عام ، والفهم لباطنه والمراد به خاص : قال تعالى في الآية (78) من سورة النساء : } فَمَالِ هَـؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً {.. أي لا يفقهون خطابا " [82] .
ويقول في موضع آخر : قال سهل : إن الله تعالى ما استولى ولياً من أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلا علمه القرآن ، إما ظاهراً وإما باطنا. قيل له : إن الظاهر نعرفه فالباطن ما هو ؟ قال : فهمه ، وإن فهمه هو المراد " [83] .
فمن هاتين العبارتين ، نأخذ أن سهلا التستري يرى : أن الظاهر هو المعنى اللغوي المجرد . وأن الباطن هو المعنى الذي يفهم من اللفظ ويريده الله تعالى من كلامه : كما نأخذ منه : أنه يرى أن المعاني الظاهرة أمرعام يقف عليها كل من يعرف اللسان العربي ، أما المعاني الباطنة ، فأمر خاص يعرفه أهل الله بتعليم الله إياهم وإرشادهم إليه .
كذلك نجد سهلا – رضى الله عنه – لم يقتصر في تفسيره على المعاني الإشارية وحدها . بل نجده يذكر أحيانا المعاني الظاهرة ، ثم يعقبها بالمعاني الإشارية ، وقد يقتصر أحيانا على المعنى الإشاري وحده ، كما يقتصر أحيانا على المعنى الظاهري ، بدون أن يعرج على باطن الآية .
وحين يعرض سهل للمعاني الإشارية لا يكون واضحا في كل ما يقوله ، بل تارة بالمعاني الغريبة التي نستبعد أن تكون مرادة لله تعالى ، وذلك كالمعاني التي نقلناها عنه سابقا في معنى البسملة ، وألم فاتحة البقرة ، وتارة يأتي بالمعاني الغريبة التي يمكن أن تكون من مدلول اللفظ أو مما يشير إليه اللفظ ، وذلك هو الغالب في تفسيره .
كذلك نجد المؤلف ينحو في كتابه هذا منحى تزكية النفوس ، وتطهير القلوب ، والتحلي بالأخلاق والفضائل التي يدل عليها القرآن ولو بطريق الإشارة... وكثيرا ما يسوق من حكايات الصالحين وأخبارهم ما يكون شاهداً لما يذكره ، كما أنه يتعرض في بعض الأحيان لدفع إشكالات قد ترد على ظاهر اللفظ الكريم ، وإليك نماذج من تفسيره .
وفي سورة الأعراف عند تفسيره لقوله تعالى في الآية (148) : } وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ {.. يقول ما نصه : "عجل كل إنسان ما أقبل عليه فأعرض به عن الله من أهل وولد ، ولا يتخلص من ذلك إلا بعد إفناء جميع حظوظه من أسبابه، كما لم يتخلص عبدة العجل من عبادته إلا بعد قتل النفوس" [84] .
وفي سورة الشعراء عند تفسيره لقوله تعالى في الآيات (78-82) حكاية عن إبراهيم عليه السلام } الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ{78} وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ{79} وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ{80} وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ{81} وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ { يقول ما نصه : } الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ{ .. أي الذي خلقني لعبوديته يهديني إلى قربه } وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ { .. قال : يطعمني لذة الإيمان ويسقيني شراب التوكل والكفاية : } وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ{.. قال : يعني إذا تحركت بغيره لغيره عصمني، وإذا ملت إلى شهوة من الدنيا منعها على } وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ{.. قال : الذي يميتني ثم يحييني بالذكر
} وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ{. قال : أخرج كلامه على شروط الأدب بين الخوف والرجاء ، ولم يحكم عليه بالمغفرة " [85] .
وفي سورة الصافات عند قوله تعالى في الآية (107) } وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ { . قال ما نصه : " إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما أحب ولده بطبع البشرية ، تداركه من الله فضله وعصمته حتى أمره بذبحه، إذ لم ييكن المراد منه تحصيل الذبح ، وإنما كان المقصود تخليص السر من حب غيره بأبلغ الأسباب ، فلما خلص السر له، ورجع عن عادة الطبع ، فداه بذبح عظيم " [86] .
فهذه المعاني كلها مقبولة ويمكن إرجاعها بدون تكلف إلى اللفظ القرآني بدون معارضة شرعية أو عقلية.. والكتاب – في الغالب – يسير على هذه الطريقة ، وهي لا شوب فيها .
* * *


2- حقائق التفسير – للسلمى
§ التعريف بمؤلف هذا التفسير:
مؤلف هذا التفسير ، هو أبوعبدالرحمن ، محمد بن الحسين ابن موسى ، الأزدي السلمي ، المولود 330هـ ( ثلاثين وثلاثمائة من الهجرة ) ، وقيل غير ذلك.
كان رحمه الله شيخ الصوفية وعالمهم بخراسان ، له اليد الطولى في التصوف ، والعلم الغزير ، والسير على سنن السلف ، أخذ الطريق عن أبيه ، فكان موفقا في جميع علوم الحقائق ومعرفة طريق التصوف . وكان على جانب عظيم من العلم بالحديث ، حتى قيل : إنه حدث أكثر من أربعين سنة إملاء وقراءة . وكتب الحديث بنيسابور ، ومرو ، والعراق ، والحجاز ، وصنف سنناً لأهل خراسان ، وأخذ عنه بعض الحفاظ : منهم الحاكم أبو عبدالله ، وأبو القاسم القشيري ، وغيرهما ، ولقد خلف – رحمه الله – من الكتب ما يزيد على المائة : منها ما هو في علوم القوم ، ومنها ما هو في التاريخ ، ومنها ما هو في الحديث ، ومنها ما هو في التفسير .
ولكن السلمى مع وفرة جلالته ، وعظيم منزلته بين مريديه ، لم يسلم كغيره من الصوفية من الطعن عليه ، قال الخطيب : قال محمد بن يوسف النيسابوري القطان : كان السلمى غير ثقة ، يضع للصوفية ، وكأن الخطيب لم يرض هذا الطعن فيه ، فقال حكاية هذا القول : " قدر أبي عبدالرحمن عند أهل بلده جليل ، وكان من ذلك محمودا صاحب حديث " قال عند أهل بلده جليل ، وكان مع ذلك محمودا صاحب حديث " قال ابن السبكي صاحب طبقات الشافعية : " قول الخطيب فيه هو الصحيح ، وأبو عبدالرحمن ثقة ، ولاعبرة بهذا الكلام فيه " هذا ، وقد كانت وفاته سنة 4112هـ (اثنتى عشرة واربعمائة من الهجرة) ، فرحمه الله رحمة واسعة [87] .
~ التعريف بهذا التفسير وطريقة مؤلفه فيه:
يقع هذا التفسير في مجلد واحد كبير الحجم ، ومنه نسختان مخطوطتان بالمكتبة الأزهرية.
قرأت هذا التفسير، فوجدته يستوعب جميع سور القرآن ، ولكنه لا يتعرض لكل الآيات بل يتكلم عن بعضها ويغضي عن بعضها الآخر، وهو لا يتعرض فيه لظاهر القرآن ، وإنما جرى في جميع ما كتبه على نمط واحد ، وهو التفسير الإشاري، وهو إذ يقتصر على ذلك لا يعني أن التفسير الظاهر غير مراد ، لأنه يصرح في مقدمة تفسيره : أنه أحب أن يجمع تفسير أهل الحقيقة في كتاب مستقل كما فعل أهل الظاهر .
ثم إن أبا عبدالرحمن السلمى . لم يكن له مجهود في هذا التفسير أكثر من أنه جمع مقالات أهل الحقيقة بعضها الى بعض ، ورتبها على حسب السور والآيات ، وأخرجها للناس في كتاب سماه : حقائق التفسير.
وأهم من ينقل عنه السلمى في حقائقه : جعفر بن محمد الصادق ، وابن عطاء الله السكندري ، والجنيد ، والفضيل بن عياض ، وسهل ابن عبدالله التستري وغيرهم كثير.
وإليك بعض ما قاله في مقدمته لتعلم أن السلمى حين اقتصر على المعاني الإشارية لم يجحد المعاني الظاهرة للقرآن ، ولتعلم أيضاً أن مجهوده في هذا التفسير إنما هو الجمع والترتيب .
قال رحمه الله : ".. لم رأيت المتوسمين بالعلوم الظواهر سبقوا في أنواع فرائد القرآن : من ، قراءات ، تفاسير ، ومشكلات ، وأحكام، وإعراب ، ولغة ، ومجمل ، ومفسر ، وناسخ ، ومنسوخ ، ولم يشتغل أحد منهم بجمع فهم خطابه على لسان الحقيقة إلا آيات متفرقة ، نسبت إلى أبي العباس بن عطاء ، وآيات ذكر أنها عن جعفر بن محمد على غير ترتيب ، وكنت قد سمعت منهم في ذلك حروفا استحسنتها ، أحببت أن أضم ذلك إلى مقالتهم ، وأضم أقوال مشايخ أهل الحقيقة إلى ذلك ، وأرتبه على السور حسب وسعي وطاقتي ، واستخرت الله في جمع شئ من ذلك، واستعنت به في ذلك وفي جميع أموري ، وهو حسبي ونعم المعين " [88] .
~ طعن بعض العلماء على هذا التفسير:
غير إن الاقتصار على المعاني الإشارية ، والإعراض ، عن المعاني الظاهرة في هذا المؤلف ، ترك للعلماء مجالا للطعن على هذا التفسير وعلى صاحبه من أجله ، فالجلال السيوطي رحمه الله يذكر أبا عبدالرحمن السلمي في كتابه طبقات المفسرين ضمن من صنف في التفسير من المبتدعة ويقول : "وإنما أوردته في هذا القسم لأن تفسيره غير محمود " [89]. والحافظ الذهبي رحمه الله يقول عن السلمي: "... وله كتاب يقال له حقائق التفسير ، وليته لم يصنفه . فإنه تحريف وقرمطة ، ودونك الكتاب فسترى العجب " [90] ويقول السبكي في طبقات الشافعية : " وكتاب حقائق التفسير ، كثر الكلام فيه من قبل أنه اقتصر فيه على ذكر تأويلات ، ومحال للصوفية ينبو عنها اللفظ " [91] .
وقد مر بك آنفا أن الإمام أبا الحسن الواحدي قال : " صنف أبو عبدالرحمن السلمي حقائق التفسير ، فإن كان اعتقد أن ذلك تفسير فقد كفر".
وهذا هو الإمام ابن تيمية يطعن على تفسير السلمى من ناحية أخرى فيقول : "وما ينقل في حقائق السلمى عن جعفر الصادق عامته كذب على جعفر كما قد كذب عليه في غير ذلك. [92]

_ رأينا في هذه الطعون:
هذا.. وإن عد السيوطي السلمى في ضمن المفسرين من أهل البدع غلو منه وإجحاف.
وما قاله الذهبي من أن ما في الحقائق تحريف وقرمطة – يريد أنه كتفسير القرامطة من الباطنية – فهذا غير صحيح ، لأن الرجل يقر الظواهر على ظواهرها ، والقرامطة بخلاف ذلك.
وأما ما قاله السبكي من أن السلمى قد اقتصر في حقائقه على تأويلات للصوفية ينبو عنها اللفظ فهذه كلمة حق لا غبار عليها.
وأما قول الواحدي : أنه لو اعتقد أن ما في الحقائق تفسير لكفر باعتقاده هذا فنقول فيه : إن أبا عبدالرحمن لم يعتقد أن هذا تفسير ، وإنما قال : إنه إشارات تخفي وتدق إلا على أربابها ، كما صرح بذلك في مقدمة حقائق التفسير. [93]
وأما قول ابن تيمية : إن ما ينقل في حقائق السلمى من التفسير عن جعفر عامته كذب على جعفر، فهذه كلمة حق من ابن تيمية ، إذ أن غالب ما جاء فيه عن جعفر الصادق كله من وضع الشيعة عليه ، ولست أدري كيف اغتر السلمى وهو العالم المحدث بمثل هذه الروايات المختلفة الموضوعة..
C نماذج من تفسير السلمي:
وإذ قد فرغنا من الحديث على حقائق التفسير، فاسمع بعض ما جاء فيه : لتحكم أنت بدورك عليه:
في سورة النساء عند قول الله تعالى في الآية: (66) : } وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ {.. يقول : "قال محمد بن الفضل } اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ{.. بمخالفة هواها } أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم{.. أي أخرجوا حب الدنيا من قلوبكم } مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ { في العدد ، كثير من المعاني ، وهم أهل التوفيق والولايات الصادقة " [94] .
وفي سورة الرعد عند قوله تعالى في الآية : (3) : } وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ { .. يقول : " قال بعضهم : هو الذي بسط الأرض وجعل فيها أوتادا من أوليائه وسادة من عبيده فإليهم الملجأ ، وبهم النجاة ، فمن ضرب في الأرض يقصدهم فاز ونجا ، ومن كان بغيته لغيرهم خاب وخسر . سمعت على بن سعيد يقول : سمعت ابا محمد الحريري يقول : كان في جوار الجنيد إنسان مصاب في خربة ، فلما مات الجنيد وحملنا جنازته حضر الجنازة فلما رجعنا تقدم خطوات وعلا موضعا من الأرض عاليا ، فاستقبلني بوجهه وقال : يا أبا محمد.. إني لراجع إلى تلك الخربة وقد فقدت ذلك السيد ، ثم أنشد شعراً:
وما اسفي من فراق قوم هم المصابيح ، والحصون
والمدن ،والمزن ، والرواسي والخير ، والأمن، والسكون
لم تتغيير لنا الليالي حتى توفتهم المنون
فكل جمر لنا قلوب وكل ماء لنا عيون"[95]
وفي سورة الحج عند قوله تعالى في الآية (63) :
} أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً { .. يقول: " قال بعضهم : أنزل مياه الرحمة من سحائب القربة ، وفتح إلى قلوب عباده عيونا من ماء الرحمة ، فأنبتت فاخضرت بزينة المعرفة ، وأثمرت الإيمان ، وأينعت التوحيد . أضاءت بالمحبة فهامت إلى سيدها، واشتاقت إلى ربها فطارت بهمتها ، وأناخت بين يديه ، وعكفت فأقبلت عليه ، وانقطعت عن الأكوان أجمع ، ذلك آواها الحق إليه ، وفتح لها خزائن أنواره ، وأطلق لها الخيرة في بساتين الأنس ، ورياض الشوق والقدس" [96] .
وفي سورة الرحمن عند قوله تعالى في الآية (11) : } فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ {.. يقول : " قال جعفر : جعل الحق تعالى في قلوب أوليائه رياض أنسه، فغرس فيها أشجار المعرفة ، أصولها ثابتة في أسرارهم ، وفروعها قائمة بالحضرة في المشهد ، فهم يجنون ثمار الأنس في كل أوان ، وهو قوله تعالى : } فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ {. أي ذات الألوان ، كل يجتني منه لونا على قدر سعته ، وما كوشف له من بوادي المعرفة وآثار الولاية" [97] .
وفي سورة الانفطار عند قوله تعالى في الآيتين (13، 14) : } إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ{13} وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ {.. يقول : " قال جعفر : النعيم المعرفة والمشاهدة ، والجحيم النفوس ، فإن لها نيرانا تتقد " [98]} إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ { يقول : " قال ابن عطاء الله : إذا شغلك به عما دونه فقد جاءك الفتح من الله تعالى ، والفتح هو النجاة من السجن البشري بلقاء الله تعالى". . وفي سورة النصر عند قوله تعالى في أولها :


الخاتمة:
كلمة عامة عن التفسير وألوانه في العصر الحديث :
_ التفسير بين ماضيه وحاضره:
لم يترك الأوائل للأواخر كبير جهد في تفسير كتاب الله ، والكشف عن معانيه ومراميه، إذ إنهم نظروا إلى القرآن باعتباره دستورهم الذي جمع لهم بين سعادة الدنيا والآخرة ، فتناولوه من أول نزوله بدراستهم التفسيرية التحليلية ، دراسة سارت مع الزمن على تدرج ملحوظ ، وتلون بألوان مختلفة مرت بك كلها . أو مر بك على التحقيق ما وصلنا إليه في دراستنا وقراءتنا الواسعة المستفيضة.
والذي يقرأ كتب التفسير على اختلاف ألوانها ، لا يدخله شك في أن كل ما يتعلق بالتفسير من الدراسات المختلفة قد وفاه هؤلاء المفسرون الأقدمون حقه من البحث والتحقيق ، فالناحية اللغوية ، والناحية البلاغية ، والناحية الأدبية، والناحية النحوية ، والناحية الفقهية ، والناحية المذهبية ، والناحية الكونية الفلسفية . كل هذه النواحي وغيرها تناولها المفسرون الأول بتوسع ظاهر ملموس ، لم يترك لمن جاء بعدهم – إلى ما قبل عصرنا بقليل – من عمل جديد ، أو أثر مبتكر يقومون به في تفاسيرهم التي الفوها ، اللهم إلا عملا ضئيلا لا يعدو أن يكون جمعاً لأقوال المتقدمين ، أو شرحا لغامضها ، أو نقداً وتفنيدا لما يعتروه الضعف منها ، أو ترجيحا لرأي على رأي ، مما جعل التفسير يقف وقفة طويلة مليئة بالركود ، خالية من التجديد والابتكار.
* * *
_ مميزات التفسير في العصر الحديث:
ولقد ظل الأمر على هذا ، وبقى التفسير واقفا عند هذه المرحلة – مرحلة الركود والجمود – لا يتعداها ، ولا يحاول التخلص منها . حتى جاء عصر النهضة العلمية الحديثة ، فاتجهت أنظار العلماء الذين لهم عناية بدراسة التفسير إلى إن يتحرروا من قيد هذا الركود ، ويتخلصوا من نطاق هذا الجمود ، فنظروا في كتاب الله نظرة – وإن كان لها اعتماد كبير على ما دونه في الاوائل في التفسير – أثرت في الاتجاه التفسيري للقرآن تأثيرا لا يسعنا إنكاره ، ذلك هو العمل على التخلص من كل هذه الاستطرادات العلمية ، التي حشرت في التفسير من القصص الإسرائيلي الذي كاد يذهب بجمال القرآن وجلاله ، وتمحيص ما جاء فيه من الأحاديث الضعيفة أو الموضوعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو على أصحابه عليهم رضوان الله تعالى ، وإلباس التفسير ثوباً أدبياً اجتماعياً ، يظهر روعة القرآن ، ويكشف عن مراميه الدقيقة وأهدافه السامية ، والتوفيق بجد بالغ وجهد ظاهر بين القرآن وما جد من نظريات علمية صحيحة ، على تفاوت بين الموفقين في الغلو والاعتدال ، وكان ذلك من أجل أن يعرف المسلمون وغير المسلمين أن القرآن هو الكتاب الخالد ، الذي يتمشى مع الزمن في جميع أطواره ومراحله.. وهناك غير هذه الآثار آثار أخرى ظهرت في الاتجاه التفسيري في هذا العصر الحديث ، نشأت عن عوامل مختلفة ، أهمها : التوسع العلمي ، والتأثر بالمذهب والعقيدة ، والإلحاد الذي قام على حرية الرأي الفاسد .
_ الوان التفسير في العصر الحديث :
وعلى ضوء ما تقدم ، نستطيع أن نجمل ألوان التفسير في العصر الحديث في الألوان الأربعة الآتية وهي أهمها :
اولا: اللون العلمي.
ثانيا: اللون المذهبي.
ثالثا: اللون الإلحادي.
رابعا: اللون الأدبي الاجتماعي.
وسأتكلم عن هذه الألوان الأربعة للتفسير في العصر الحديث ، على حسب ترتيبها، وبمقدار ما استفدت من قراءتي في كتب التفسير وما يتصل به من مؤلفات جدت في هذا العصر ، والله ولي التوفيق :
اللون العلمي للتفسير في عصرنا الحاضر
تكلمنا عن التفسير العلمي فيما سبق ، وبينا أن هذا اللون من التفسير كان موضع أخذ ورد بين العلماء الأقدمين ، فمنهم من أيده وقال به ، ومنهم من فنده ومنه منه.
وقلنا : إن التفسير العلمي كان أكثر رواجا وأعظم قبولا لدى المتأخرين ، وأجملنا القول في هذه النقطة الأخيرة ، ووعدناك بالتوسع فيها عندما نعرض لهذه الخاتمة التي نحن بصددها ، ووفاء بوعدي أقول :

_ رواج التفسير العلمي في عصرنا الحاضر:
إن هذا اللون من التفسير – أعني التفسير العلمي الذي يرمي إلى جعل القرآن مشتملا على سائر العلوم ما جد منها وما يجد – قد استشرى أمره في هذا العصر الحديث ، وراج لدى بعض المثقفين الذين لهم عناية بالعلوم ، وعناية بالقرآن الكريم ، وكان من أثر هذه النزعة التفسيرية التي تسلطت على قلوب أصحابها ، أن أخرج لنا المشغوفون بها كثيراً من الكتب يحاول أصحابها فيها أن يحملوا القرآن كل علوم الأرض والسماء ، وأن يجعلوه دالا عليها بطريق التصريحأاو التلميح ،اعتقاداً منهم – كما قلنا – أن هذا بيان لناحية من أهم نواحي صدقه ، وإعجازه ، وصلاحيته للبقاء.
_ اهم الكتب التي عنيت بهذا اللون:
ومن أهم هذه الكتب التي ظهرت فيها هذه النزعة التفسيرية كتاب " كشف الاسرار النورانية القرآنية، فيما يتعلق بالأجرام السماوية ، والارضية ، والحيوانات ، والنباتات ، والجواهر المعدنية ، للإمام الفاضل والطبيب البارع ، محمد بن أحمد الإسكندراني من علماء القرن الثالث عشر الهجري ، وهو كتاب كبير الحجم ، يقع في ثلاث مجلدات ، ومطبوع بالمطبعة الوهبية بمصر سنة 1297هـ ومنه نسخة بدار الكتب المصرية .
ورسالة عبدالله باشا فكري في مقارنة بعض مباحث الهيئة ، بالوارد في النصوص الشرعية ، وقد طبعت بالقاهرة سنة 1315هـ.
وبين أيدينا كتاب " طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد " لرجل الإصلاح الإسلامي المرحوم السيد عبدالرحمن الكواكبي . وهو عبارة عن مجموع مقالات له، نشرها في بعض الصحف عندما زار مصر سنة 1318هـ وقد طبع هذا الكتاب وأبهم اسم مؤلفه ورمز له " الرحالة ك ". وفي هذا الكتاب نجد المؤلف – رحمه الله – ينحاز انحيازاً بليغا إلى هذا اللون من ألوان التفسير ، فيصف القرآن بأنه " شمس العلوم وكنز الحكم " [99] ويقرر بأن السر في إحجام العلماء عن تفسير قسمي الآلاء والأخلاق من القرآن ، وبيان ما يشتمل عليه من العلوم المختلفة هو " أنهم كانوا يخافون مخالفة رأي بعض السلف القاصرين في العلم فيكفرون فيقتلون " ثم يقول : " وهذه مسألة إعجاز القرآن ، وهي أهم مسألة في الدين ، لم يقدروا أن يوفوها حقها من البحث ، واقتصروا على ما قاله بعض السلف أنها هي فصاحته، وبلاغته ، وإخباره عن أن الروم من بعد غلبهم سيغلبون" [100] .
ثم نراه يأخذ في بيان اشتمال القرآن على ما جد من نظريات علمية تؤيد اعجاز القرآن ، فيقول : " انه لو أطلق للعلماء عنان التدقيق وحرية الرأي والتأليف كما أطلق لأهل التأويل والخرافات : لرأوا في ألوف من آيات القرآن الوف آيات من الإعجاز... لرأوا فيه كل يوم آية تتجدد مع الزمان والحدثان ، تبرهن على إعجازه بصدق قوله تعالى: } وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ {. [101] . برهان عيان لا مجرد تسليم وإيمان ، ومثال ذلك ، أن العلم كشف في هذه القرون الأخيرة حقائق وطبائع كثيرة ، تعزي لكاشفيها ، ومخترعيها من علماء أوروبا وأمريكا ، والمدقق في القرآن يجد أكثرها ورد التصريح أو التلميح به في القرآن منذ ثلاثة عشر قرنا، وما بقيت مستورة تحت غشاء من الخفاء إلا لتكون عند ظهورها معجزة للقرآن ، شاهدة بأنه كلام رب لا يعلم الغيب سواه.
وذلك أنهم كشفوا أن مادة الكون هي الأثير ، وقد وصف القرآن بدء التكوين فقال: } ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ {. [102] .
وكشفوا أن الكائنات في حركة دائمة دائبة ، والقرآن يقول: } وَآيَةٌ لَّهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا {.. إلى إن يقول : } وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ {. [103] .
وحققوا أن الأرض منفتقة من النظام الشمسي والقرآن يقول : } أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا { . [104] .
وحققوا أن القمر منشق من الأرض ، والقرآن يقول : } َوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا{. [105]} اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ {.[106]} خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ {. [107]} وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ {. [108] . . وحققوا أنه لولا الجبال لا قتضى الثقل النوعي أن تميد الأرض، أي ترتج في دورتها ، والقرآن يقول : . وحققوا أن طبقات الأرض سبع والقرآن يقول : . ويقول :
وكشفوا أن التغيير في التركيب الكيماوي بل والمعنوي ناشئ عن تخالف نسبة المقادير ، والقرآن يقول : } وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ{ [109]
وكشفوا أن للجمادات حياة قائمة بماء التبلور ، والقرآن يقول: } وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ {. [110]} وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ {. [111] . . وحققوا أن العالم العضوي – ومنه الإنسان – ترقى من الجماد ، والقرآن يقول :
وكشفوا ناموس اللقاح العام في النبات ، والقرآن يقول : } خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ {. [112]} فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى {. [113]} اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ {. [114]} وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ {. [115] . . ويقول : . ويقول : . ويقول :
وكشفوا طريقة إمساك الظل ، أي التصوير الشمسي والقرآن يقول: } أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاء لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً {. [116] .
وكشفوا تسيير السفن والمركبات بالبخار والكهرباء ، والقرآن يقول: " بعد ذكره الدواب والجواري بالريح – } وَخَلَقْنَا لَهُم مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ {. [117] .
وكشفوا وجود الميكروب وتأثيره كالجدري وغيره من المرض ، والقرآن يقول: } وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ {. [118]} تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ {. [119] . أي من طين المستقنعات اليابس.. إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة المحققة لبعض مكتشفات علم الهيئة والنواميس الطبيعية ، وبالقياس على ما تقدم ذكره يقتضي أن كثيرا من آياته سينكشف سرها في المستقبل في وقتها المرهون ، تجديداً لإعجازه ما دام الزمان وما كر الجديدان" [120] . . أي متتابعة مجتمعة:
وبين أيدينا كتاب " اعجاز القرآن " للمرحوم مصطفى صادق الرافعي ، وهو من أنصار هذه النزعة التفسيرية ومن المؤيدين لها ، وفي هذا الكتاب نجد المؤلف – رحمه الله – يعقد بحثا خاصا لموضوع " القرآن والعلوم " وفيه يقرر أن القرآن " بآثاره النامية ، معجزة اصلية في تاريخ العلم كله على بسيط هذه الأرض ، من لدن ظهر الإسلام إلى ما شاء الله " [121]} رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ {. [122] . وقال : فإن عدد " رَفِيعُ ".. بحساب الجمل ثلاثمائة وستون ، وهي عدد درج الليل والنهار". ثم يقول الرافعي نفسه بعد هذا : " واذا اطلق حساب الجمل في كلمات القرآن كشف منه كل عجائب العصور، وتواريخها ، وأسرارها ، ولولا أن هذا خارج عن غرض الكتاب لجئنا منه بأشياء كثيرة من القديم والحديث" [123] . ثم يستطرد إلى ذكر بعض ما نقله السيوطي في الإتقان والإكليل عن العلامة المرسي في اشتمال القرآن على سائر العلوم ، وهنا نجده يعلق استخراج علم المواقيت من القرآن فيقول : " قال بعض المتأخرين : إن الميقات مشار إليه في القرآن بقوله تعالى:
ثم نرى الرافعي – رحمه الله – يسترسل في حديثه إلى أن يقول. "وقد استخرج بعض علمائنا من القرآن ما يشير إلى مستحدثات الاختراع ، وما يحقق بعض غوامض العلوم الطبيعية ، وبسطوا كل ذلك بسطاً ليس هو من غرضنا فنستقصى فيه.[124]} سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ {. [125]} فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ {.. هذه آفاق ، وهذه آفاق أخرى ، فإن لم يكن هذا التعبير من الإعجاز الظاهر بداهة فليس يصح في الأفهام شئ" [126] . ولو جمعت أنواع العلوم الإنسانية كلها ما خرجت في معانيها من قوله تعالى: على أن هذا ومثله إنما يكون فيه إشارة ولمحة ، ولعل متحققا بهذه العلوم الحديثة لو تدبر القرآن ، وأحكم النظر فيه ، وكان بحيث لا تعوزه أداة الفهم ، ولايلتوي عليه أمره ، لاستخرج منه إشارات كثيرة تومئ إلى حقائق العلوم وإن لم تبسط من أنبائها ، وتدل عليها وإن لم تمسها بأسمائها" ثم يقول : " وقد أشار القرآن إلى نشأة هذه العلوم وإلى تمحيصها وغايتها على ما وصفناه آنفا، وذلك قوله تعالى:
كذلك نجد المرحوم الدكتور عبدالعزيز اسماعيل ، الطبيب المعروف ينحاز إلى هذا اللون من ألوان التفسير في كتابه " الإسلام والطب الحديث " الذي جمع فيه مقالاته التي نشرها في مجلة الأزهر . وبين أيديها هذا الكتاب ، وهو مطبوع بمطبعة الاعتماد سنة 1357هـ وفيه نجد المؤلف رحمه الله يقرر أن القرآن " ليس بكتاب طب أو هندسة أو فلك ، ولكنه يشير أحيانا إلى سنن طبيعية ترجع الى هذه العلوم"[127] كما يقرر ان كثيرا من آيات القرآن "لا يفهم شيئا من معناها الحقيقي إلا من درس العلوم الحديثة " [128] ، كما يؤكد أن العلم الحديث " كشف عن معنى بعض الآيات، وسينكشف الباقي منها كلما تقدمت العلوم ، ثم يأتي وقت يكون فيه العلماء الماديون أقرب الناس إلى الدين" [129] .
وفي هذا كما ترى اتهام للصحابة ومن جاء بعدهم من سلف الأمة بأنهم لم يفهموا المعاني الحقيقية لبعض الآيات القرآنية ، لجهلهم بهذه العلوم المستحدثة وهذا اتهام نعيذ منه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسلف الأمة رضوان الله عليهم.
وإذا نحن تتبعنا ما في هذا الكتاب لوجدنا الكثير منه لا يقصده القرآن ، ولا يهدف إليه من وراء خطابه للعرب الأمية.
فمثلا نجده يعرض لقوله تعالى في الآية (22) من سورة البقرة : } َأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ {.. تحت عنوان: "الحياة تحت ضوء القرآن".
وفيه يقول : "... هذه الآية الكريمة معناها – والله اعلم – ( وتأمل قوله معناها ) أن اللحوم والأسماك والألبان ... الخ أفضل في التغذية من البقول والقمح والذرة ، وليست الأفضلية في مقدار المواد الزلالية الضرورية للجسم في كل نوع ، لأن هذا يجب أن لا يكون سببا مهما للأفضلية..." ثم يعقد مقارنة بين بعض الأغذية وما فيها من نسبة المواد الزلالية . ثم يقول : "وقد اهتدت أخيراً لجنة الأبحاث بإنجلترا إلى أن قيمة المواد الزلالية تختلف في نوعها ، وفي المقدار منها الذي يمنع المواد الزلالية المكونة للأنسجة من أن تحترق ، ورأوا أن اللحوم بالنسبة للمواد الزلالية ونوعها لها قيمة أكثر من اللبن والذرة مثل البيان التالي :
لحوم
لبن البقر
ارز
بطاطس
فول
دقيق
ذرة
104
100
88
79
70
40
30

ثم يقول : " إن هذه النتيجة التي لخصها القرآن الشريف – واعجب لقوله : لخصها القرآن الشريف – لم تظهر حقيقة ثابتة إلا منذ سنوات قليلة.." [130] .
وغير هذا كثير في كتاب " الإسلام والطب الحديث " مما لا نصدق أنه مراد الله من خطابه للعرب بالقرآن ، وإن كان لا يتعارض – كما قلنا – مع ما ثبت من ذلك علميا وتحققت صحته.
هذا ،وإن أعظم علماء العصر الحديث تشيعا للنزعة التفسيرية العلمية ، وأكثرهم إنتاجا لهذا التفسير العلمي ، هو المرحوم الشيخ طنطاوي جوهري ، إذ أنه على حسب ما رأينا أكثر من جمع في هذا وأطال في تفسيره "الجواهر" الذي يقع في خمسة وعشرين جزءا كبارا ، والمطبوع بمصر سنة 1341- 1351هـ ولهذا أرى أن أتكلم عنه بما يكشف عن طريقة مؤلفه ومنهجه الذي سلكه فيه.
* * *
الجواهر في
تفسيرالقرآن الكريم
]للشيخ طنطاوي جوهري [131][
q الدوافع التي حملت المؤلف على كتابة هذا التفسير:
خلق الفيلسوف الإسلامي المرحوم الشيخ طنطاوي جوهري – كما يقول هو عن نفسه – : " مغرماً بالعجائب الكونية معجباً بالبدائع الطبيعية ، مشوقاً إلى ما في السماء من جمال ، وما في الأرض من بهاء ، وكمال " ثم كان منه – كما يقول – أنه لما تأمل الأمة الاسلامية وتعاليمها الدينية ، ألفى أكثر العقلاء وبعض أجلة العلماء عن تلك المعاني معرضين ، وعن التفرج عليها ساهين لاهين ، فقليل منهم من فكر في خلق العوالم وما أودع فيها من الغرائب ، فدفعه ذلك إلى أن ألف كتباً كثيرة مزج فيها الآيات القرآنية بالعجائب الكونية ، وجعل آيات الوحي مطابقة لعجائب الصنع ، وحكم الخلق ، وكان من أهم هذه الكتب كتاب "نظام العالم والأمم" و "جواهر العلوم" و "التاج المرصع" و "جمال العالم" و "النظام والإسلام" و"الأمة وحياتها" ولكنه وجد أن هذه الكتب – رغم كثرتها ، وانتشارها ، وترجمتها إلى اللغات الاجنبية – لم تشف غليله ، فتوجه إلى ذي العزة والجلال ، أن يوفقه إلى ان يفسر القرآن تفسيراً ينطوي على كل ما وصل إليه البشر من علوم ، فاستجاب الله دعاءه ، وتم له ما أراد .
*******
q متى وكيف شرع المؤلف في كتابة هذا التفسير:
ابتدأ المؤلف هذا التفسير أيام أن كان مدرساً بمدرسة دار العلوم ، فكان يلقي تفسير بعض آيات على طلبتها ، وبعضها كان يكتب في مجلة الملاجئ العباسية ، ثم وإلى سيره في التفسير حتى أخرج لنا هذه الموسوعة الكبيرة.
******
q غرض المؤلف من تفسيره:
ولقد أمل المؤلف – رحمه الله – من وراء هذا التفسير – كما يقول – " أن يشرح الله به قلوباً ، ويهدي به أمماً، وتنقشع به الغشاوة عن أعين عامة المسلمين ، فيفهموا العلوم الكونية " وقال : "وإني لعلى رجاء أن يؤيد الله هذه الأمة بهذا الدين ، وينسج على منوال هذا التفسير المسلمون ، وليقرأن في مشارق الأرض ومغاربها مقرونا بالقبول ، وليولعن بالعجائب السماوية والبدائع الأرضية الشبان الموحدون ، وليرفعن الله مدنيتهم إلى العلا ، وليكونن داعياً حثيثا إلى درس العوالم العلوية والسفلية ، وليقومن من هذه الأمة من يفوقون الفرنجة في الزراعة والطب ، والمعادن ، والحساب ، والهندسة ، والفلك ، وغيرها من العلوم والصناعات ".
******
q مسلك المؤلف في تفسيره:
ولقد وضع المؤلف في تفسيره هذا ما يحتاجه المسلم من الأحكام ، والأخلاق ، وعجائب الكون ، وأثبت فيه غرائب العلوم وعجائب الخلق ، مما يشوق المسلمين والمسلمات – كما يقول – إلى الوقوف على حقائق معاني الآيات البينات في الحيوان والنبات ، والأرض والسموات.
هذا.. وإن المؤلف – رحمه الله – ليقرر في تفسيره أن في القرآن من آيات العلوم ما يربو على سبعمائة وخمسين آية ، في حين أن علم الفقه لا تزيد آياته الصريحة على مائة وخمسين آية ، كما يقرر " أن الإسلام جاء لأمم كثيرة ، وأن سور القرآن متممات لأمور أظهرها العلم الحديث" [132] .
وكثيراً ما نجد المؤلف – رحمه الله – في تفسيره يهيب بالمسلمين أن يتأملوا في آيات القرآن التي ترشد إلى علوم الكون ، ويحثهم على العمل بما فيها ، ويندد بمن يغفل هذه الآيات على كثرتها ، وينعي على من أغفلها من السابقين الأولين ، ووقف عند آيات الأحكام وغيرها مما يتعلق بأمور العقيدة.
نجد المؤلف يكرر هذه النغمة في كثير من مواضع الكتاب فيقول في موضع منه: " يا أمة الإسلام .. آيات معدودات في الفرائض اجتذبت فرعا من علم الرياضيات ، فما بالكم أيها الناس بسبعمائة آية فيها عجائب الدينا كلها .. هذا زمان العلوم ، وهذا زمان ظهور نور الإسلام، هذا زمان رقيه ، ياليت شعري .. لماذا لا نعمل في آيات العلوم الكونية ما فعله آباؤنا في آيات الميراث ؟ ولكني أقول : الحمد لله .. الحمد لله ، إنك تقرأ في هذا التفسير خلاصات من العلوم ، ودراستها أفضل من دراسة علم الفرائض ، لأنه فرض كفاية ، فأما هذه فإنها للازدياد في معرفة الله وهي فرض عين على كل قادر.. إن هذه العلوم التي أدخلناها في تفسير القرآن ، هي التي أغفلها الجهلاء المغروريين من صغار الفقهاء في الإسلام ، فهذا زمان الانقلاب ، وظهور الحقائق ، والله يهدي من يشاء الى صراط مستقيم". [133]
ويقول في موضع آخر: "إن نظام التعليم الإسلامي لابد من ارتقائه ، فعلوم البلاغة ليست هي نهاية علوم القرآن ، بل هي علوم لفظه ، وما نكتبه اليوم علوم معناه ، وانطباقها على العلوم التي أظهرها الله في الارض ، ولعل هذا الزمان سيظهر فيه آثار من قوله تعالى : } ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ {. [134] . فإن البيان المذكور في سورة القيامة فسر بمعنى أننا نبينه بلسانك فتقرأه كما أقرأك جبريل ، بمعنى أنه إذا أشكل شئ من معانيه فنحن نبينه لك ، وعلينا بيان ما فيه من الأحكام والعجائب ولا جرم أن ما يتجدد اليوم من العلوم مما ذكر في هذا التفسير وما لم يذكر ، من البيان الذي أكد الله أنه يظهره لأمة الإسلام ، فالحمد لله الذي وفق في هذا التفسير لبعض العرفان تصديقا لما ذكر الله من أن عليه البيان" [135] .
ويقول في موضع آخر: ".. لماذا ألف علماء الإسلام عشرات الألوف من الكتب الإسلامية في علم الفقه. . وعلم الفقه ليس له في القرآن إلا آيات قلائل لا تصل مائة وخمسين آية ؟ فلماذا كثر التأليف في علم الفقه ، وقل جداً في علوم الكائنات التي لا تخلو منها سورة ؟ بل هي تبلغ سبعمائة وخمسين آية صريحة ، وهناك آيات أخرى دلالتها تقرب من الصراحة . فهل يجوز في عقل أو شرع أن يبرع المسلمون في علم آيات قليلة ، ويجهلوا علما آياته كثيرة جداً ؟ إن آباءنا برعوا في الفقه، فلنبرع نحن الآن في علم الكائنات .. لنقم به لترقى الأمة [136] ".
******
q لم يلقى تفسير الجواهر قبولا لدى كثير من المثقفين:
هذه المقالات – وغيرها كثير في تفسير الجواهر – نجد أغلبها قد صدر من المؤلف في مقام الرد على من كان يوجه إليه اللوم والاعتراض على ما كان منه من تحميل القرآن الكريم علوماً ونظريات مستحدثة لا عهد للعرب بها ، ولا صلة للقرآن بشئ منها .
ويظهر لمن يتصفح هذا التفسير أن المؤلف – رحمه الله – لاقى الكثير من لوم العلماء على مسلكه الذي سلكه في تفسيره ، مما يدل على أن هذه النزعة التفسيرية لم تلق قبولا لدى كثير من المثقفين .
* * *
q مصادرة المملكة السعودية لتفسير الجواهر:
ولعلم هذا المنزع في تفسير القرآن الكريم هو السر الذي من أجله صادرت المملكة العربية السعودية هذا الكتاب ، ولم تسمح بدخوله إلى بلادها ، كما يجد القارئ ذلك في نص الكتاب المرسل من المؤلف إلى الملك عبدالعزيز آل سعود ، ملك نجد والحجاز ص 238 من الجزء الخامس والعشرين.
* * *
q طريقة المؤلف في هذا التفسير:
هذا وإنى – بعد أن قرأت الكثير في هذا التفسير – أستطيع أن أعطيك صورة واضحة عن منهج المؤلف وطريقته التي سلكها فيه ، وذلك أن المؤلف رحمه الله يفسر الآيات القرآنية تفسيراً لفظياً مختصراً ، لا يكاد يخرج عما في كتب التفسير المألوفة لنا والمتداولة بين أيدينا ، ولكنه سرعان ما يخلص من هذا التفسير الذي يسميه لفظياً، ويدخل في أبحاث علمية مستفيضة يسميها هو لطائف أو جواهر.. هذه الأبحاث عبارة عن مجموعة كبيرة من أفكار علماء الشرق والغرب في العصر الحديث ، أتى بها المؤلف ، ليبين للمسلمين ولغير المسلمين أن القرآن الكريم قد سبق إلى هذه الأبحاث ونبه على تلك العلوم قبل أن يصل إليها هؤلاء العلماء بقرون متطاولة.
ثم إننا نجد المؤلف – رحمه الله – يضع لنا تفسيره هذا كثيراً من صور النباتات ، والحيوانات ، ومناظر الطبيعة ، وتجارب العلوم ، بقصد أن يوضح للقارئ ما يقول توضيحا يجعل الحقيقة أمامه كالأمر المشاهد المحسوس.
كذلك نجد المؤلف – رحمه الله – يشتشهد أحيانا على ما يقول بما جاء في الإنجيل ، واعتماده فيما ينقل على إنجيل "برنابا" لأنه – كما يرى – أصح الأناجيل ، بل هو الإنجيل الوحيد الذي لم تصل إليه يد التحريف والتبديل كما قيل.
وكثيراً ما نرى المؤلف – رحمه الله – يشرح بعض الحقائق الدينية بما جاء عن أفلاطون في جمهوريته ، أو بما جاء عن إخوان الصفا في رسائلهم، وهو حين ينقلها يبدي لنا رضاه عنها، وتصديقه بها، مع أنها تخالف الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كما أنه يستخرج كثيراً من علوم القرآن بواسطة حساب الجمل الذي لا نصدق أنه يوصل إلى حقيقة ثابتة ، وإنما هي عدوى تسربت من اليهود إلى المسلمين ، فتسلطت على عقول الكثير منهم.
هذا .. ونا لنجد المؤلف – رحمه الله – يفسر آيات القرآن تفسيراً علميا يقوم على نظريات حديثة ، وعلوم جديدة ، لم يكن للعرب عهد بها من قبل ، ولست أرى هذا المسلك في التفسير إلا ضرباً من التكلف ، إن لم يذهب بغرض القرآن ، فلا أقل من أن يذهب بجلاله وجماله.
وإليك بعض ما جاء في هذا التفسير :
Q نماذج من هذا التفسير :
فمثلا ، عندما تعرض لقوله تعالى في الآية (61) من سورة البقرة: } وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ{... الآية ، نجده يقول : " الفوائد الطبية في هذه الآية" ثم يأخذ في بيان ما أثبته الطب الحديث من نظريات طبية، ويذكر مناهج أطباء أوروبا في الطب ، ثم يقول: " أو ليست هذه المناهج هي التي نحا نحوها القرآن ؟ أو ليس قوله } أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ{ رمزاً لذلك ؟ كأنه يقول : العيشة البدوية على المن والسلوى .. وهما الطعامات الخفيفان اللذان لا مرض يتبعهما ، مع الهواء النقي والحياة الحرة ، أفضل من حياة شقية في المدن بأكل التوابل ، واللحم ، والإكثار من ألوان الطعام ، مع الذلة ، وجور الحكام ، والجبن ، وطمع الجيران من الممالك ، فتختطفكم على حين غفلة وأنتم لا تشعرون . بمثل هذا تفسر هذه الآيات . بمثل هذا فليفهم المسلمون كتاب الله" [137] .
ومثلا عندما تعرض لقوله تعالى في الآيات (67) وما بعدها من سورة البقرة: } وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً {.. الآيات إلى آخر القصة ، نجده يعقد بحثاً في عجائب القرآن وغرائبه ، فيذكر ما انطوت عليه هذه الآيات من عجائب ، ويذكر فيما يذكرعلم تحضير الأرواح فيقول : ".. وأما علم تحضير الأوراح فإنه من هذه الآية استخراجه ، إن هذه الآية تتلى ، والمسلمو يؤمنون بها، حتى ظهر علم الأرواح بأمريكا أولا ، ثم بسائر أوروبا ثانياً ".. ثم ذكر نبذة طويلة عن مبدأ ظهور هذا العلم، وكيف كان انتشاره بين الأمم ، وفائدة هذا العلم ، ثم قال أخيراً : "ولما كانت السورة التي نحن بصددها قد جاء فيها حياة للعزير بعد موته ، وكذلك حماره ، ومسألة الطير وإبراهيم الخليل ، ومسألة الذين خرجوا من ديارهم فرارا من الطاعون ، فماتوا ثم أحياهم.. وعلم الله أننا نعجز عن ذلك ، جعل قبل ذكر تلك الثلاثة في السورة ما يرمز إلى استحضار الأرواح في مسألة البقرة ، كأنه يقول :إذا قراتم ما جاء عن بني إسرائيل في إحياء الموتى في هذه السورة عند أواخرها. فلا تيأسوا من ذلك، فإنى قد بدأت بذكر استحضار الأرواح، فاستحضروها بطرقها المعروفة ، واسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ، ولكن ليكن المحضر ذا قلب نقي خالص على قدم الأنبياء والمرسلين ، كالعزيز ، وإبراهيم، وموسى ، فهؤلاء لعلو نفوسهم أريتهم بالمعاينة ، وأنا امرت نبيكم أن يقتدي بهم فقلت: "فبهداهم اقتده"..
ومثلا عندما تعرض لقوله تعالى في أول سورة آل عمران " الم" نجده يعقد بحثا طويلا عنوانه: "الاسرار الكيميائية ، في الحروف الهجائية ، للأمم الاسلامية ، في اوائل السور القرآنية" وفيه يقول : " انظر رعاك الله – تأمل – يقول الله : "أ.ل.م" ، "طس"، "حم" .. وهكذا يقول لنا : أيها الناس ، إن الحروف الهجائية ، إليها تحلل الكلمات اللغوية ، فما من لغة في الأرض إلا وأرجعها أهلها إلى حروفها الأصلية ، سواء أكانت اللغة العربية أم اللغات الأعجمية ، شرقية وغربية ، فلا صرف ، ولا إملاء ، ولا اشتقاق إلا بتحليل الكلمات إلى حروفها ، ولا سبيل لتعليم لغة وفهمها إلا بتحليلها ، وهذا هو القانون المسنون في سائر العلوم والفنون.
ولا جرم أن العلوم قسمان : لغوية وغير لغوية ، فالعلوم اللغوية مقدمة في التعليم ، لأنها وسيلة إلى معرفة الحقائق العلمية من رياضية وطبيعية وإلهية ، فإذا كانت العلوم التي هي آلة لغيرها لا تعرف حقائقها إلا بتحليلها إلى أصولها ، فكيف إذن تكون العلوم المقصودة لنتائجها الماديية والمعنوية ؟ فهي أولى بالتحليل وأجدر بإرجاعها إلى أصولها الأولية التي لا تعرف الحساب إلا بمعرفة بسائط الأعداد، ولا الهندسة إلا بعد علم البسائط والمقدمات ، ولا علوم الكيمياء إلا بمعرفة العناصر وتحليل المركبات إليها ، فرجع الأمر إلى تحليل العلوم" [138] .
ومثلا نراه يعرض لقوله تعالى في الآية (24) من سورة النور: } يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ {..
وقوله في الآيات (20-22) من سورة فصلت : } حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ{20} وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ{21} وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ {..
وقوله في الآية (65) من سورة يس: } الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ { ثم يقول : ".. أو ليس الاستدلال بآثار الأقدام ، وآثار أصابع الأيدي في أيامنا الحاضرة ، هو نفس الذي صرح به القرآن ، وإذا كان الله يعلم ما في البواطن بل هو القائل للإنسان : } كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً { . [139]} بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ { . [140] . أفلا يكون ذكر الأيدي والأرجل والجلود وشهادتها يوم القيامة ليلفت عقولنا إلى أن من الدلائل ما ليس بالبينات المشهورة عند المسلمين ؟ وأن هناك ما هو أفضل منها ؟.. وهي التي يحكم بها الله فاحكموا بها. ويكون ذلك القول لينبهنا ويفهمنا أن الأيدي فيها أسرار، وفي الأرجل أسرار ، وفي النفوس أسرار : فالأيدي لا تشتبه ، والأرجل لا تشتبه، فاحكموا على الجانين والسارقين بآثارهم.. أو ليس في الحق أن أقول : إن هذا من معجزات القرآن وغرائبه ؟ وإلا فلماذا هذه المسائل التي ظهرت في هذا العصر تظهر في القرآن بنصها وفصها" [141] . . والقائل :
ومثلا عندما تعرض لقوله تعالى في الآيتين (5 ،6) من سورة طه: } ا
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
صانع المعروف
صانع المعروف


عدد المساهمات : 179
نقاط : 23882
تاريخ التسجيل : 25/06/2011

الكتاب الاسطورة مناهج المفسرين  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الكتاب الاسطورة مناهج المفسرين    الكتاب الاسطورة مناهج المفسرين  I_icon_minitimeالسبت أغسطس 13, 2011 2:34 pm

انكار بعض العلماء المعاصرين لهذا اللون من التفسير:
لم يقف العلماء في العصر موقف الإجماع على قبول هذا اللون من التفسير، بل نراهم مختلفين في قبوله والقول به ، كما كان الشأن بين من سبقهم من العلماء الأقدمين..
وإذا كنا قد وجدنا من العلماء المحدثين من انحاز إلى هذه الفكرة في التفسير وتأثر بها في مؤلفاته ، فإنا نجد بجوار هؤلاء أيضاً كثرة من العلماء لم ترض عن هذا اللون من التفسير، ولم تستسغ أن تشرح به كتاب الله تعالى ، ولم تغمض عينها أو تمسك قلمها عن رد هذه الفكرة على أهلها وتناولهم إياها بالنقد والتفنيد.
نجد هذه المعارضة في كثير من المحاورات والاعتراضات التي وجهت إلى صاحب الجواهر ، وذكرها لنا في تفسيره.
كما نجد بعض أساتذتنا المعاصرين ينعون على من يأخذ بهذه الفكرة ويقول بها ، ومن بين هؤلاء أساتذنا الشيخ محمود شلتوت . فقد تناول هذا الموضوع بالبحث في العدد (407 ، 408) من السنة التاسعة لمجلة الرسالة – إبريل سنة 1941 – وفيه يرد على من يذهب إلى هذا اللون من التفسير بحجج قوية واضحة.
وهذا هو الأستاذ الشيخ أمين الخولي يتناول هذا الموضوع في كتابه " التفسير: معالم حياته . منهجه اليوم " وفيه يرد على أنصار هذا المذهب في التفسير بحجج قوية واضحة ، استفدنا منها كثيراً في تأييد ما اخترنا من المذهبين .
وهذا هو المرحوم السيد محمد رشيد رضا . نجده في مقدمة تفسيره ينعي على من تأثروا في تفسيرهم بنزعاتهم العلمية ، فشغلوا تفاسيرهم بمباحث النحو، والفقه، ونكت المعاني ، والبيان ، والاسرائيليات ، وغير ذلك ، وبعد هذا صارفا يصرف الناس عن القرآن وهديه ، ثم ينعي على الفخر الرازي ما أورده في تفسيره من العلوم الحادثة في الملة ، ويعد هذا صارفا يصرف الإنسان عن القرآن وهديه ، كما يتوجه بمثل هذا اللوم على من قلد الفخر الرازي في مسلكه من المعاصرين ، وأظنه أراد صاحب الجواهر، وذلك حيث يقول: "... وقد زاد الفخر الرازي صارفا آخر عن القرآن ، هو ما يورده في تفسيره من العلوم الرياضية والطبيعية وغيرها، وقلده بعض المعاصرين بإيراد مثل هذا من علوم هذا العصر وفنونه الكثيرة الواسعة ، فهو يذكر فيما يسميه تفسير الآية فصولا طويلة – بمناسبة كلمة مفردة كالسماء والارض – من علوم الفلك والنبات والحيوان ، تصد قارئها عما أنزل الله لأجله القرآن". [150]
وأخيراً فهذا هو شيخنا العلامة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي – رحمه الله رحمة واسعة – نجده في تقريظه لكتاب " الإسلام والطب الحديث " لا يرضى عن هذا المسلك في التفسير، رغم أنه مدح الكتاب وأشاد بمجهود مؤلفه ، وذلك حيث يقول : " لست أريد من هذا – يعني ثناءه على الكتاب ومؤلفه – أن أقول : إن الكتاب الكريم اشتمل على جميع العلوم جملة وتفصيلا بالأسلوب التعليمي المعروف ، وإنما أريد أن أقول إنه أتى بأصول عامة لكل ما يهم الإنسان معرفته به ، ليبلغ درجة الكمال جسداً وروحاً ، وترك الباب مفتوحاً لأهل الذكر من المشتغلين بالعلوم المختلفة ، ليبينوا للناس جزئياتها بقدر ما أوتوا منها في الزمان الذي هم عائشون فيه" [151] .
وفي موضع آخر يقول : " يجب أن لا نجر الآية إلى العلوم كي نفسرها، ولا العلوم إلى الآية : ولكن إن اتفق ظاهر الآية مع حقيقة علمية ثابتة فسرناها بها" [152] .
ومن هذا كله يتبين أن التفسير العلمي في العصر الحديث إن كان قد لقى قبولا ورواجا عند بعض العلماء ، فإنه لم يلق مث هذا القبول والرواج عند كثير منهم ، وقد علمت فيما سبق أي الرأيين أقرب إلى الحق وأحرى بالقبول .
* * *


اللون المذهبي للتفسير في عصرنا الحاضر
لم يبق من الفرق المنسوبة الى الإسلام في هذا العصر الحديث من له كيان ، أو شئ من الكيان – حسبما نعلم – الا أهل السنة ، والإمامية الإثنا عشرية ، والإمامية الإسماعيلية ، والزيدية ، والإباضية من الخوارج ، والبهائية من الباطنية.. هذه هي الفرق التي لا تزال في اعتبارنا قائمة إلى يومنا هذا ، محتفظة بتعاليمها وعقائدها التي تسير عليها من أول عهدها ومبدأ ظهورها.
وإذا كنا قد وقفنا لكل فرقة من هذه الفرق في عصورها السابقة على عمل ظاهر في تفسير كتاب الله ، وشرحه على حسب ما تمليه عقيدة المفسر، وما يوحي به إليه، فإنا لا نعدم هذا اللون المذهبي لتفسير القرآن الكريم في هذا العصر الحديث ، ولكن بمقدار ما بقى من هذه المذاهب قائماً إلى هذا العصر الذي تتكلم عنه ، ونتحدث عن ألوان التفسير فيه.
نعم.. بقى اللون المذهبي لتفسير القرآن الكريم قائماً في هذا العصر الحديث ، بمقدار ما بقى قائماً من المذاهب الإسلامية.
فأهل السنة فسروا القرآن ، وألفوا الكتب فيه بما يتفق وعقيدتهم ، كما نرى ذلك واضحا فيما خلفته لنا مدرسة الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده من كتب في التفسير.
والإمامية الإثنا عشرية فسروا القرآن وألفوا الكتب فيه بما يتمشى مع مذهبهم ، ويتفق مع أهوائهم ومشاربهم ، ومن أحدث كتبهم التي اطلعنا عليها في التفسير: كتاب: "بيان السعادة في مقامات العبادة" للشيخ سلطان محمد الخراساني ، من أهل القرن الرابع عشر الهجري ، وقد سبق لنا الكلام عنه مفصلا ، وكتاب " آلاء الرحمن في تفسير القرآن " للشيخ محمد جواد النجفي ، المتوفي سنة 1352هـ وقد سبق الكلام عنه بإيجاز عند الكلام على أهم كتب التفسير عند الإمامية الإثنى عشرية.
والإباضية من الخوارج فسروا القرآن وألفوا فيه الكتب بما يناسب عقيدتهم ، ويساير مذهبهم ، كما نجد ذلك في كتاب "هميان الزاد ، إلى دار المعاد " للشيخ محمد بن يوسف إطفيش ، المتوفي سنة 1332 وقد مر الكلام عنه أيضاً.
والبهائية من الباطنية نظروا إلى القرآن من خلال عقيدتهم ، فأولوا وحرفوا ، كما نجد ذلك جليا في رسائل أبي الفضائل الجرفادقاني ، أحد رجال البهائية في هذا العصر.
أما الزيدية ، فهي وإن كانت لا تزال قائمة إلى يومنا هذا ، إلا أنا لم نقف لها على شئ في التفسير في هذا العصر الحديث .
وأما المعتزلة ، فنحن وإن كنا لا نسمع عن قيامها في هذا العصر كفرقة لها كيان ، ووحدة ، ومقومات ، إلا أنا نرى أثراً كبيراً لتعاليمها في تفسير القرآن في العصر الحديث ، كما يظهر ذلك جليا في تفاسير الإمامية الإثنى عشرية، والإباضية ، ومقالات بعض المحدثين من المفسرين.
كل هذه الفرق الموجودة في هذا العصر، أضفت على التفسير لونا مذهبياً، يقوم على تأييد العقيدة ، وخدمتها على حساب القرآن الكريم ، ولا أريد أن أطيل بذكر نماذج من هذا اللون التفسيري ، إذ قد سبق لنا الكلام عن هذه الكتب التي ذكرتها ، وذكرت لك منها ما يعطيك صورة واضحة عن اللون المذهبي في هذا العصر.

* * *
اللون الالحادي للتفسير في عصرنا الحاضر
منى الإسلام من زمن بعيد بأناس يكيدون له، ويعملون على هدمه بكل ما يستطيعون من وسائل الكيد ، وطرق الهدم ، وكان من أهم الأبواب التي طرقوها ليصلوا منها إلى نواياهم السيئة : تأويلهم للقرآن الكريم على وجوه غير صحيحة، تتنافى مع ما في القرآن من هداية ، وتناقض ما هو عليه من محجة بيضاء، وتهدف إلى ما سولته لهم نفوسهم من نحل خاسرة وأهواء!!
منى الإسلام بهذا من أيامه الأولى ، ومنى بمثل هذا في أحدث عصوره، فظهر في هذا العصر أشخاص يتأولون القرآن على غير تأويله، ويلوونه إلى ما يوافق شهواتهم ، ويقضي حاجات في نفوسهم ، فأدخلوا في تفسير القرآن آراء سخيفة، ومزاعم منبوذة ، تقبلها بعض المخدوعين من العامة وأشباه العامة ورفضها بكل إباء من حفظ الله عليهم دينهم وعقولهم.
* * *



q الباعث على هذا اللون من التفسير:
اندفع هؤلاء النفر من المؤولة إلى ما ذهبوا إليه من أفهام زائفة في القرآن بعوامل مختلفة ، فمنهم من حسب أن التجديد ولو بتحريف كتاب الله سبب لظهوره وشهرته، فأخذ يثور على قدماء المفسرين ويرميهم جميعاً بالسفه والغفلة ثم طلع على الناس بجديده في تفسير كتاب الله ... جديد لا تقره لغة القرآن ، ولا يقوم على أصل من الدين .
ومنهم من تلقى من العلم حظاً يسيراً ، ونصيباً قليلا، لا يرقى به إلى مصاف العلماء ، ولكنه اغتر بما لديه ، فحسب أنه بلغ مبلغ الراسخين في العلم ، ونسى أنه قل في علم اللغة نصيبه، وخف في علم الشريعة وزنه ، فراح ينظر في كتاب الله نظرة حرة لا تتقيد بأي أصل من أصول التفسير، ثم أخذ يهذي بأفهام فاسدة ، تتنافى مع ما قرره أئمة اللغة وأئمة الدين ، ولأول نظرة يتضح لمن يطلع عليها أنها لا تستند إلى حجة ، ولا تتكئ على دليل.
ومنهم من لم يرسم لنفسه نحلة دينية ، ولم يسر على عقيدة معروفة، ولكنه لعبت برأسه الغواية، وتسلطت على قلبه وعقله أفكار وآراء من نحل مختلفة ، فانطلق إلى القرآن وهو يحمل في قلبه ورأسه هذه الأمشاج من الآراء ، فأخذ يؤوله بما يتفق معها ، تأويلا لا يقرره العقل ولا يرضاه الدين.
هؤلاء جميعا خاضوا في القرآن على عماية ، فلم يراعوا في فهمه قوانين البلاغة ، ولم يدخلوا إلى تفسيره من باب السنة الصحيحة ، وحسبوا أنهم أرضوا ضمائرهم ، وأنصفوا البحث الحر، والرأي الطليق.
ولولا أن الله قيض لهذا الدين رجالا يدرسونه ببصائر تنفذ إلى لبابه، ويدفعهم الإيمان والإخلاص إلى أن يبعدوا عنه هذه الخبائث ، التي يراد أن تلصق به أو تنزل في رحابه.. لولا هذا لأصاب المسلمين من هؤلاء المضللين شر مستطير ، ولنتج عن أفكارهم وأهوائهم فتنة في الأرض وفساد كبير.
وأنا إذ أعرض لهذا اللون من التفسير، لا أريد أن أذكر أحداً من أصحابه باسمه ولقبه، إذ ربما كان هذا سببا للفتنة ، وباعثاً على العداوة ، وكثير منهم أحياء يرزقون ، ويكفي أن أضع يد القارئ على المراجع التي أنقل عنها تفسير هؤلاء القوم ، وآراءهم في القرآن الكريم ، وهي مراجع ميسورة لكل من يريد أن يرجع إليها ويطلع عليها.
وجدنا من أصحاب هذا اللون من الوان التفسير، رجلا يكتب بحثاً طويلا تحت عنوان : " القرآن والمفسرين " وفيه يعرض لنواحي التقصير في تفسير كافة المفسرين لكتاب الله تعالى ، ويحمل عليهم حملة شديدة نكراء ، ويوجه إليهم جميعاً نقده الساخر، ولومه اللاذع ، بدون أن يستثنى منهم مفسراً واحداً على كثرتهم ، وكثرة المعتدلين منهم .
رأيناه يتهم المفسرين جميعاً بأنهم تأثروا في تفاسيرهم بعقائدهم ، فأمالوا آيات القرآن نحو آرائهم ، في تعسف ظاهر ، وتكلف غير مقبول [153]} وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ{41} ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ{42} وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا وَذِكْرَى لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ{43} وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِب بِّهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ {.. ، ورآيناه يرميهم جميعاً بأنهم كثيراً ما يكتنفون بذكر إسرائيليات ليس لها سند أصلا ، فضلا عن طمعهم في تصحيح هذه الأسانيد المكذوبة ، ونراه يذكر لهذا الاتهام الأخير مثلا من أقوالهم في تفسير قصة أيوب عليه السلام ، ثم يأخذ في تفنيد ما ذهبوا إليه ، وإبطال ما قالوا به، بأدلة كثيرة ذكرها، وبعد هذا كله تناول هو قوله تعالى في الآيات (41-44) من سورة (ص):
تناول الكاتب هذه الآيات ، فشرحها شرحا يخالف ما ذهب إليه المفسرون جميعاً ، مدعيا أن ما ذهب إليه هو الذي يساير كل ما ورد من آيات القصص في القرآن ، ومؤكداً أنه هو الذي يتفق مع بلاغة القرآن ، وقدسية الأنبياء ، فقال : " يجب أن ننظر في الآية نظرة أخرى – يعني خلاف ما عليه المفسرون تساير بها نظائرها من آيات القصص ونحن إذا التفتنا إلى ما في هذه الآية من أن أيوب عليه السلام قد عزى النصب والعذاب للشيطان فقال : " مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ {.. كان ذلك مانعا كل المنع من أن يراد بالنصب والعذاب داء أصاب أيوب ، وكان من نتائجه ما ذكره المفسرون .. إذ الشيطان لا يملك للإنسان إلا أن ينزغه ، ويوسوس إليه ، فيلويه عن الخير إلى الشر، وعن العزم في سبيل الغاية إلى التردد والهزيمة ، وإنه ما من نبي ولا رسول إلا وقد نزل به هذا المصاب.. مصاب إعراض الناس واستوائهم بالدعوة والداعين ، وصد الشيطان لهم عن سبيل الله :
} وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ {.. الآية، [154]} وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ {. [155]} فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً {.[156]. .وقوله تعالى : وما كانت شكوى الأنبياء إلا من إعراض أممهم عن الاستجابة ، ولا كان حزنهم الذي كان يبلغ أحياناً حد الإهلاك للنفس إلا لبطء في سير الدعوة إلى الله تعالى انظر قوله تعالى :
ولما كانت الشكوى تشعر بوهن في العزيمة ، وضعف في الثقة،وعدم القوة في ;السير إلى الغاية ، كان جواب تلك الشكاية أن قيل له : } ارْكُضْ بِرِجْلِكَ { فالمراد بالركض هنا، عقد العزيمة وتأكيدها ، واستتمام الثقة وإكمالها، والمضاء بقوة وبغير تردد ولا توان إلى الغاية ، فهي كناية من أعذب الكنايات وأروعها ، وهي من وادي – شمر عن ساعد الجد . شمر عن ساقيك – غير أنها أوفر منها صياغة وترفعا . إذ من المعروف المشاهد أن السائر إلى جهة بغير تردد ، بل بقوة وعزيمة ، ترى لرجليه ضربا ، وتسمع لقديمه على الأرض وقعا. ولما كان تردد المرء في غايته ، ووهن عزيمته إليها. وضعف ثقته بها ، صدأ يغشى الأرواح ، ومرضا يتعب النفوس ويضايق الصدور، كان عقد العزيمة واستكمال الثقة غسلا للروح من صدئها ، وشفاءاً للنفس من مرضها ، ونقعا لغلة الصدور، لذلك قال الله لرسوله أيوب } هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ {.. والآية كما ترى ليس فيها مرجع لاسم الإشارة إلا الركض المفهوم من قوله " ارْكُضْ " المكني به عن توثيق العزم ، والأخذ بالحزم ، كما هو مقتضى النظم الكريم ، الجاري لقواعد اللغة ، التي تأبى أن يكون لاسم الإشارة مرجع غير هذا من الماء والعين ، كما يقتضيه تفسير المفسرين ، إذ ليس في النظم ما يدل عليهما بأي وجه من وجوه الدلالة . ولما كان أيوب عليه السلام اعتباره رسولا لابد أن يأتمر في إخلاص الأنبياء بأمر ربه، بين الله ثمرة جهاده وصبره، ومضاء عزمه، فقال : } وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ {.. أي هدينا له أهله فآمنوا به واستجابوا لدعوته ، وهدينا له مثلهم من غير أهله ، فليس المراد بالهبة هنا هبة الخلق والإيجاد ، بل هبة الهداية والإرشاد ، بدليل تعبيره بالأهل دون التعبير بالذرية والولد ، كما في قوله تعالى : } وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً {.[157] . إذ كل ما يهتم له الأنبياء إنما هو أن يهدي الله بهم ، لا أن يولد لهم . ولم يتحدث القرآن عن هبة يحيي لزكريا، وإسحاق لإبراهيم إلا لأن هبة الإيجاد فيهما قد تضمنت أمرين عظيمين:
الأول : أنه قد ولد لإبراهيم ولزكريا عن كبر وشيخوخة ويأس وقنوط.
والثاني: أن الموهوب لكل منهما رسول لا ولد عادي..
فموضع المنة في هذا : كونهما رسولين لا كونهما ولدين".
"ثم بين الله بعد ذلك سيرة أيوب التي أمره أن يسير بها في قومه، وهي اللين في القول، والرفق في الدعوة، والعظة بالحسنى، وتلك هي الخطة التي رسمها الله لجميع أنبيائه، انظر كيف يقول لموسى وهارون: } اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى{43} فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى { [158]} وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ { [159]} وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ {. [160]} وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِب بِّهِ وَلَا تَحْنَثْ {.. أي لا ترفع في وجوه قومك رمحا ولا عصا، ولا تغلظ لهم القول، ولا تخشانهم في الطلب ، بل لوح في وجوههم بالرياحين والأزهار ، ولا تأثم بالغلظة والجفوة ، فإنك بخفض الجناح والجدال بالتي هي أحسن تبلغ منهم ما لا تبلغه بالسيف ، والعصا ، والخشونة ، والغلظة ، فانظر إلى ما في الآية من كناية ما أجملها وأعلاها ، وما أخصبها وأرواها، وانظر كم تعطيك على هذا الوجه من فنون البلاغة ، وكم تمنحك من جزالة في الأسلوب ، ثم هم – يريد المفسرين – بعد ذلك يمسخونها ويشوهونها ، فيجعلونها منقطعة عما قبلها ، وما بعدها ، فتقلق في مرقدها ، وتنبو في مضجعها ، إذ يجعلونها متوقفة في فهمها على معونة أجنبية من الكلام الذي هي فيه ، وذلك من أدعى الدواعي لانحطاط الكلام عن المستوى العالي لكلام البشر، فضلا عن مستوى الإعجاز الذي يجب أن يكون عليه القرآن الكريم". . وبين الله ذلك فقال : ، ويقول لرسوله الكريم:
"هذا ما رأيت أن تؤول به تلك الآيات، استناداً إلى ما جرى عليه قصص القرآن ، وتحامياً لما يترتب على ما فسر به المفسرون تلك الآيات من خدش قدس أيوب عليه السلام ، باعتباره نبيا رسولا ، ومن منافاة ذلك لحكمته السامية ، وتفاديا من أن يحدثنا القرآن عن أمر عادي ، وهو أن شخصا مرض ثم دعا ربه فشفاه من مرضه... ذلك الحدث الذي لا يتحدث به عظيم من الناس فضلا عن الله تعالى، ولا يحدث به عن رجل عادي فضلا عن أيوب الرسول الكريم". [161]
هذا هو التفسير الصحيح في نظر صاحبه ، وأحسب أن القارئ الكريم سوف لا يتردد في الحكم عليه بأنه تفسير منابذ لبلاغة القرآن ، ومخالف لظاهره الذي عرف منذ عهد الصحابة والتابعين ، وأي شئ يقف في سبيل المعنى الظاهر حتى نعدل عنه إلى مجاز أو كناية فيها تعسف ظاهر وتكلف غير مقبول ؟ اللهم لا شئ إلا دعوى التجديد ، والثورة على القديم ، والعمل على هدم آراء العلماء الذين عرف الناس مبلغ خدماتهم للعلم ، ودفاعهم عن الدين.
ولا أطيل بذكر ما أفند به هذا الرأي الشاذ وما يحمله من دعاوي غير صحيحة على المفسرين جميعا، فقد سبقني إلى هذا أحد أستاذتي الأجلاء ، ولست ببالغ مبلغه من العلم ، ولا بآت بأكثر مما أتى به في الرد على صاحب هذا الرأي. [162]
ووجدنا من أصحاب هذا اللون رجلا آخر دفعه حب التجديد المزيف إلى أن يساير روح الإلمحاد ويجاري من يتهمون الشريعة الإسلامية بالقسوة في أحكامها وحدودها ، فراح يتأول آيات الحدود بما يوافق هواه وهوى أصحابه ، فحمل الأمر فيها على الإباحة .. وجعل الأمر في ذلك مفوضا إلى رأي ولي الأمر وحده ، وهو وإن كان قد استعمل الأسلوب اللولبي فيما أبداه ، وطرح الموضوع الذي عالجه في صورة سؤال ألقاه شخص خالي الذهن ليتعرف وجه الحق في المسألة ، هو وإن كان قد فعل ذلك مفضوح أمره فصدر المقال يكشف لنا عن نية صاحبه ، ويفيدنا بكل صراحة أن الكاتب يريد أن يتأول آيات الحدود بحمل الأوامر الواردة فيها على الإباحة ، وإليك ما جاء في هذه المقالة لتقف على حقيقة الأمر، ولتعرف نية الكاتب وما يهدف إليه في مقاله.
قال هذا الكتاب تحت عنوان "التشريع المصري وصلته بالفقه الاسلامي" : "قرأت في السياسة الأسبوعية الغراء مقالا بهذا العنوان. [163]} وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ{38} فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ { . [164]} الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ {. [165]} َا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ {. [166] . فلا يكون قطع يد السارق حدا مفروضاً ، لا يجوز العدول عنه في جميع حالات السرقة ، بل يكون القطع في السرقة هو أقصى عقوبة فيها ، ويجوز العدول عنه في بعض الحالات إلى عقوبات أخرى رادعة . ويكون شأنه في ذلك شأن كل المباحات التي تخضع لتصرفات ولي الأمر، وتقبل التأثر بظروف كل زمان ومكان . وهكذا في حد الزنا سواء أكان رجما أم جلدا ، مع مراعاة أن الرجم في الزنا لا يقول به فقهاء الخوارج ، لعدم النص عليه في القرآن الكريم ، وهل لنا أن نذلل بهذا عقبة من العقبات التي تقوم في سبيل الأخذ بالتشريع الاسلامي، مع أنا في هذه الحالة لا نكون قد أبطلنا نصا ولا ألغينا حداً ، وإنما وسعنا الأمر توسيعاً يليق بما امتازت به الشريعة الإسلامية من المرونة والصلاحية لكل زمان ومكان ، وبما عرف عنها من إيثار التيسير على التعسير، والتخفيف على التشديد". [167] . فهل لنا أن نجتهد في الأمر الوارد في حد السرقة وهو قوله تعالى " فاقطعوا ".. والأمر الوارد في حد الزنا وهو قوله تعالى " فاجلدوا " .. فنجعل كلا منهما للإباحة لا للوجوب ، ويكون الأمر فيهما مثل الأمر في قوله تعالى : . وقوله تعالى في حد الزنا : . حوى أفكاراً أثارت في نفسي من الرأي ما كنت أريد أن أرجئه إلى حين ، فإن النفوس لم تتهيأ بعد لفتح باب الاجتهاد ، حتى إذا ظهر المجتهد في هذا العصر برأي جديد ، كتلك الآراء التي كان يذهب إليها الأئمة المجتهدون في عصور الاجتهاد ، قابلها الناس بمثل ما كانت تقابل به تلك الآراء من الهدوء والسكون ، وإن بدا عليها ما بدا من الغرابة والشذوذ ، لأن الناس في تلك العصور كانوا يألفون الاجتهاد وكانوا يألفون شذوذه وخطأه ، إلفهم لصوابه وتوفيقه ، أما في هذا العصر ، فإن الناس قد بعد بهم العهد بالاجتهاد ، حتى صار كل جديد يظهر فيه شاذا في نظرهم ، وإن كان في الواقع صواباً، وما أسرعهم في ذلك إلى التشنيع والطعن في الدين ، والمحاربة في الرزق ، فلا يجد من يرى شيئاً من ذلك إلا أن يكتمه أو يظهره بين أخصائه ، ممن يأمن شرهم ولا يخاف كيدهم ، وتضيع بهذا على الأمة آراء نافعة في دينها ودنياها ، ولكني سأقدم على ما كنت أريد إخفاءه من ذلك إلى حين ، وسأجتهد ما أمكنني في أن لا أدع لأحد مجالا في ذلك التشنيع الذي يقف عقبة في سبيل كل جديد".. ثم أشاد بما كتبه صاحب المقال المشار إليه ثم قال : " ولكن يبقى بعد هذا في تلك الحدود ذلك الأمر الذي سنثيره فيها ، ليبحث في هدوء وسكون . فقد نصل فيه إلى تذليل تلك العقبة التي تقوم في سبيل الأخذ بالتشريع الإسلامي من ناحية تلك الحدود بوجه آخر جديد... وسيكون هذا بإعادة النظر في النصوص التي وردت فيها تلك الحدود ، لبحثها من جديد بعد هذه الأحداث الطارئة ، وسأقتصر في ذلك – الآن – على ذكر ما ورد في تلك الحدود من النصوص القرآنية ، وذلك قوله تعالى في حد السرقة :
فأنت ترى من هذا المقال مقدار ما وصل إليه الكاتب من الجرأة على كتاب الله ، إذ أول آية السرقة وآية الزنا تأويلا غير مقبول بأي حال من الأحوال ، ومن ينظر إلى آية السرقة وآية الزنا لا يفهم منهما إلا أن الأمر فيهما للوجوب ، فليس لأحد أن يعدل عنه مطلقا ، وذلك الأمر في قوله تعالى :" فاقطعوا ".. وقوله : " فاجلدوا ".. وارد في الوجوب القاطع ، فإن بناء الأمر بالقطع في آية السرقة على قوله: "والسارق والسارقة".. وبناء الأمر بالجلد في آية الزنا على قوله : " الزانية والزاني ".. يصرفه عن احتمال الإباحة إلى الوجوب ، وهذا لأن تعليق الحكم على شخص ، موصوف بوصف يؤذن بأن المقتضى للحكم هو ذلك الوصف الذي قام بالشخص ، وإذا كان ذلك الوصف جناية مثل السرقة والزنا ووضع الشارع لهما حكما في صيغة الأمر ولم يذكر حكما غيره ، لا يصح إن يقال : ان هذا الأمر محتمل للإباحة كما احتملها الأمر في قوله : " خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ ".. الآية.
ثم إن قوله تعالى في آية السرقة : " جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ ".. وقوله في آية الزنا : " وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ ".. وقوله: " وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ ".. يؤكد أن الأمر في الآيتين للوجوب لا للإباحة.
ثم إن هناك من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم القولية والعملية ما يؤكد كون الأمر للوجوب في الآيتين.
فهل يجوز للكاتب بعد هذا كله أن يتهجم على آيات الحدود بمعول ذلك التأويل الذي تنكره اللغة . ولا تقره السنة ولا يتفق وحكمة التشريع ؟ اللهم إن هذا التأويل لا يجوز، ولهذا فإنه لم يصادف غفلة من عقول العلماء وأقلامهم ، فقام كثير منهم بالرد على صاحبه، وتفنيد ما ذهب إليه [168]، ولقد تنبه القائمون على أمر الأزهر حينئذ إلى خطر هذا الرأي وما يجره على الدين من بلاء ، فجوزي صاحب المقال على ما كان منه جزاء إن كان بسيطا في حد ذاته ، فهو يدل على أن أفكار الكاتب لم تلق قبولا ولم تجد رواجا في محيط العلماء .
ووجدنا غير هذا وذاك من تأثر ببعض الآراء الفلسفية فراح ينكر بعض الحقائق الدينية الثابتة ، ويتأول ما ورد منها في القرآن بما يتمشى مع مذاهب الفلاسفة ، فأنكر حقيقة الشيطان ، وتأول ما جاء من لفظ الشيطان في قوله تعالى في الآية (117) من سورة النساء: } إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَّرِيداً {.. فقال ما نصه : "..والمعنى أن هؤلاء لم يجيبوا حين أشركوا بالله داعي العقل أو داعي الفطرة ، وإنما أجابوا نزعات الشر المنبثة في العالم على مقتضى سنة الله من الابتلاء بعوامل الخير وعوامل الشر ، فهم بذلك يتبعون قوة خفية أطلق عليها كلمة " شيطان " جريا على عادة العرب المألوفة ، وإذ كانوا يتصرون قوى الشر شياطين تتحدث وتناجي وتغري وتدفع إلى ما تريد ".. ثم قال : هذا هو الشيطان الذي يلبي المشرك باشراكه أمره ، ويتخذه وليا يأمره وينهاه". [169]
ومن موضع آخر نجد [170] صاحب هذا الرأي يعود اليه فيؤكده ، ولست أدري ماذا يفعل في سياق الآية . وفي القرائن التي احتفت بها ، والصفات التي انتظمتها مما يؤكد أن المراد هو إبليس ، ذلك الكائن الخارجي المستقل المستتر عن أعين الناس ، كما لا أدري كيف يفعل بالأحاديث الثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، والتي تقرر أن الشيطان حقيقة لها وجود خارجي.
وأنكر بعضهم وجود عالم الجن ، وتأول ما جاء من ذلك صريحا في آيات القرآن الكريم ، ففسر قوله تعالى في أول سورة الجن: } قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ {.. الآية، بأن الجن قبيلة من العرب.
وهذا تأويل ينافي صريح القرآن في مواضع كثيرة ، فضلا عن أنه لا يقوم على دليل يصححه.
ووجدنا غير هؤلاء جميعاً رجلا نكس على رأسه ، فطوعت له نفسه أن يخوض في تفسير كتاب الله على ما به من غواية وعماية ، وأخيراً طلع على الناس بكتاب مختصر في تفسير القرآن الكريم ، تفسيراً جمع فيه الكثير من وساوسه وأوهامه ، ثم سول له الغرور أن يسميه : " الهداية والعرفان في تفسير القرآن بالقرآن".
أحدث هذا التفسير ضجة كبرى في المحيط العلمي ، وقام رجال الأزهر وقعدوا من أجله ، ثم ألفت لجنة من بعض العلماء لتنظر في هذا الكتاب ، ثم لتحكم عليه بما ترى فيه ، ثم رفعت اللجنة تقريرها لشيخ الأزهر إذ ذالك ، وفيه تفنيد لآراء الرجل وحكم عليه بأنه "أفاك خراص ، اشتهى أن يُعرف فلم ير وسيلة أهون عليه وأوفى بغرضه من الإلحاد في الدين بتحريف كلام الله عن مواضعه ، ليستنفر الكثير من الناس إلى الحديث في شأنه وترديد سيرته".
ثم صودر الكتاب واختفى عن أعين الناس } فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ {. [171]
قرآت ما جاء في تقرير اللجنة الأزهرية ، ولكنني أردت أن أطلع على الكتاب نفسه ، فعملت كل ما أستطيع حتى استصدرت تصريحاً من دار الكتب المصرية بالاطلاع على هذا الكتاب الذي منع من التداول بين الناس.
* * *
_ حملته على جميع المفسرين:
جاءني الكتاب وقرآت فيه ، فوجدت مؤلفه قد قدم له بمقدمة عاب فيها المفسرين وكتب التفسير جميعا فقال : " وقد بلغ الدس والحشو في التفاسير إنك لا تجد أصلا من أصول القرآن إلا وتجد بجانبه رواية موضوعة ، لهدمه وتبديله ، والمفسرون قد وضعوا هذا في كتبهم من حيث لا يشعرون" [172] .
* * *
_ طريقته في التفسير:
ثم قال بعد ذلك : " فهذا كله – يعني الدس والحشو في التفاسير – دعاني إلي تفسيري ، وأن تكون طريقتي فيه كشف الآية وألفاظها بما ورد في موضوعها من الآيات والسور، فيكون من ذلك العلم بكل مواضع القرآن ، ويكون القرآن هو الذي ينطبق عليه ويؤيده من سنن الله في الكون ونظامه في الاجتماع ، وقد اخترت أن تكون على عدد الآيات في المصحف لتبقى الهداية بالترتيب الذي اختاره الله ، وليمكن الباحث عن معنى الآية أن يلاحظ سياقها فيقرأ ماسبقها وما لحقها من الآيات ليكون على علم تام وهداية واعظة" [173] .
ولعل القارئ الكريم يلحظ كما ألحظ أن المؤلف يرمي من وراء قوله
".. ويكون القرآن هو الذي يفسر نفسه كما أخبر الله . ولا يحتاج إلى شئ من الخارج غير الواقع الذي ينطبق عليه ويؤيده من سنن الله في الكون ونظامه في الاجتماع " أنه يريد أن يهدر صلة السنة بالقرآن الكريم ، وينفي أن منزلتها منه منزلة المبين من المبين. والله تعالى يقول : } وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ{..
ويظهر لنا أن المؤلف قد ركب رأسه فراح يهدم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا يعترف بما لها من مكانة في تفسير القرآن الكريم ، فقال مقالته السابقة، كما أنه راح يهدم ما للسنة من المكانة في التشريع الإسلامي فقال في قوله تعالى في الآية (63) من سورة النور : } فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ {.. يفيدك أن المخالفة المحذورة هي التي تكون للإعراض عن أمره ، وأما التي تكون للرأي والمصلحة فلا مانع منها بل هي من حكمة الشورى".[174]} وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا {..[175] ولغير هذا من الآيات التي وردت في وجوب طاعته عليه السلام وهي كثيرة. ثم أي مصلحة تخالف ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟.. فأنت ترى أنه يجيز مخالفة أمر الرسول للمصلحة ، وهذا عناد ومكابرة ومخالفة صريحة لقوله تعالى :
هذا ولا أريد أن أطيل بذكر ما جاء في هذا الكتاب من أباطيل وأضاليل ويكفي أن أذكر طرفاً مما حواه من ذلك ليتبين القارئ أن الرجل " جامد على المحسوسات ، جاحد لكثير مما أخبر به القرآن ، منكر لأحكام قررها القرآن والسنة وأجمع عليها الصحابة وأئمة المسلمين من بعدهم".
***
_ انكاره لمعجزات الأنبياء عليهم السلام:
وقف هذا الرجل من معجزات الأنبياء عليهم السلام موقفاً شاذاً غريبا ، يقوم على إنكارها وجحدها والذهاب بها – عن طرييق التأويل الفاسد – إلى أن تكون من قبيل الممكن الذي يدخل تحت مقدور كل إنسان رسول أو غير رسول ، وهو يصرح بهذا في كثير من المواضع ، فيقول في بعض المواضع : " وبعد هذا تعلم أن ا لله ينادي الناس بأنهم لا ينبغي أن ينتظروا من الرسول آية على صدقه في دعوته غير ما في سيرته ورسالته " [176] وفي موضع آخر يقول : "واعلم أن آيات الله في نصر أنبيائه لا تناقض سننه في خلقه وكونه" [177] وفي موضع ثالث يقول : "وقد كانت كل آياتهم حججاً وبراهين من سيرتهم ورسالتهم [178] . فلا يمكن أن يأتوا بدليل على صدقهم من غير الدعوة نفسها ، فتكون هناك علاقة بين الدعوة ودليلها فتدبر " [179] وفي موضع رابع يقول: "وإن آيتهم على صدق دعوتهم لا تخرج عن حسن سيرتهم ، وصلاح رسالتهم ، وأنهم لا يأتون بغير المعقول ، ولا بما يبدل سنته ونظامه في كونه". [180]
على هذا الأساس تناول الرجل آيات المعجزات فخرج بها عن مدلولها الحقيقي الذي أراده الله تعالى.

_ موقفه من معجزات عيسى عليه السلام:
فمثلا عندما تعرض لقوله تعالى في الآية (49) من سورة آل عمران في شأن عيسى عليه السلام : } أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِـي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ {.. نجده يقول ما نصه : " كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ " .. يفيدك التمثيل لإخراج الناس من ثقل الجهل وظلماته إلى خفة العلم ونوره " الأكْمَهَ ".. من ليس عنده نظر ، "الأَبْرَصَ".. المتلون بما يشوه الفطرة ، فهل عيسى يبرئ هذا بمعنى أنه يكمل التكوين الجسماني بالأعمال الطبية ؟ أم بمعنى أنه يكمل التكوين الروحي والفكري بالهداية الدينية ؟ " فِي بُيُوتِكُمْ ".. يعلمهم التدبير المنزلي. [181]
وإذا كان المؤلف قد تردد في معنى إبراء الأكمه والأبرص هنا بين تكميل التكوين الجسماني بالأعمال الطيبة ، وبين تكميل التكوين الروحي بالهداية الدينية ، فإنه ليس تردد الشاك في أي الأمرين كان ، وإنما هو تردد يبدو منه في صراحة ووضوح ميله إلى أن المراد هو التكوين الروحي لا غير ، وإنك لتجده يصرح في موضع آخر بأن المراد هو تكميل التكوين الروحي بالهداية الدينية ، وذلك عندما تعرض لقوله تعالى في الآية (110) من سورة المائدة: } وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِي { من هذا تعرف أن عيسى نبي أرسله الله إلى بني إسرائيل ليشفي نفوسهم ، ويحيي موت قلوبهم ، فآيته في دعوته وسيرته وهدايته ، عاش ومات كغيره من الأنبياء في بشريته ، فلم يكن خارقا في سنته ، ولما ممتازا بما يدعو ألوهيته وعبادته". [182]
كذلك تجده ينكر أن يكون عيسى عليه السلام قد تكلم في المهد وذلك حيث يؤول قوله تعالى في الآية (46) من سورة آل عمران : " وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً {. ما نصه : "في المهد : في دور التمهيد للحياة وهو دور الصبا ، علامة على الجرأة وقوة الاستعداد في الصغر ، وكهلا : علامة على أنه لا يفل عزمه بالشيخوخة والكبر – ويصح أن يكون المعنى يكلم الناس الصغير منهم والكبير علامة على تواضعه ومباشرة دعوته بنفسه". [183]
وتأول ايضا قوله تعالى في الآية (29) من سورة مريم: } فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً {.. فقال : " أي كان ذاك النهار ولداً صغيراً فكيف يأمرنا وينهانا ونحن كبار القوم فهذا ابن حرام". [184]
ولما رأى أن قوله تعالى قبل ذلك في الآيية (27) : } فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ { .. لا يتفق مع تأويله السابق تأوله أيضاً فقال : " تحمله على ما يحمل عليه المسافر ، ومنه تفهم أنه كان في سياحة طويلة". [185]
***
_ موقفه من معجزات موسى عليه السلام:
وعندما تعرض لقوله تعالى في الآية (160) من سورة الاعراف } وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً {.. قال : " ويصح أن يكون الحجر اسم مكان ، واضرب بعصاك الحجر: معناه : اطرقه واذهب إليه ، والغرض أن الله هداه إلى محل الماء وعيونه". [186]
وعندما تعرض لقوله تعالى في الآية (63) من سورة الشعراء: } َأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ {.. قال ما نصه: " الْبَحْرَ " الماء الواسع " اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ " . اطرقه واذهب اليه " فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ " .. هذا بيان لحالة البحر ، يصوره لك بأنه مناطق بينها طرق ناشفة يابسة ، راجع (160) في الأعراف ، ثم راجع طه في (77 ، 78) ولتعرف كيف اهتدى إلى طريق يبس مر منه ، واقرأ استعمال الضرب في السير في قصة أيوب في (ص) . [187]
وفي سورة الأعراف عند قوله تعالى في الآيتين (107 ، 108) } فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ{107} وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ {.. يقول : " مثال من قوة حجته وظهور برهانه". [188]
وعند قوله تعالى في الآيات (118 ، 122) من نفس السورة : } فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ { إلى قوله : } رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ {.. يقول : يصور لنا كيف كشفت حجته تزييف حجتهم حتى سلموا له وآمنوا به". [189]
***
_ موقفه من معجزة ابراهيم عليه السلام:
وعندما عرض لقوله تعالى في الآية (69) من سورة الانبياء: } قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ { الخ ، نجده ينكر أن يكون إبراهيم عليه السلام قد ألقى في النار وخرج منها سالما ، وذلك حيث يؤول الآية بما يخالف الظاهر فيقول : "معناه نجاه من الوقوع فيها – راجع (64) في المائدة و (26) في النحل ، وترى في الآية وباقي القصة أن الله نجاه بالهجرة وخيب تدبيرهم". [190]
***
_ موقفه من معجزات داوود عليه السلام:
وعندما عرض لقوله تعالى في الآية (79) من سورة الأنبياء : } وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ {.. يقول : " يُسَبِّحْنَ " . يعبر عما تظهره الجبال من المعادن التي كان يسخرها داوود في صناعتها الحربية " وَالطَّيْرَ ". يطلق على ذي الجناح وكل سريع السير من الخيل والقطارات البخارية والطيارات الهوائية".[191]
***
_ موقفه من معجزات سليمان عليه السلام:
وعندما عرض لقوله تعالى في الآية (81) من سورة الانبياء: } وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا { .. نجده يقول: " تَجْرِي بِأَمْرِهِ " .. الآن تجري بأمر الدول الاوروبية وإشارتها ، في التلغرافات والتليفونات الهوائية . اقرأ سبأ".[192]
وفي سورة النمل عند قوله تعالى في الآية (16): } وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ{.. يقول : " مَنطِقَ الطَّيْرِ ".. كل من يربي الطير ويؤلفه يمكنهم أن يتعلموا منطقه وماذا يريد ، ويمكنهم أن يستعملوه في الرسائل وغيرها". [193]
وفي قوله تعالى في الآية (18) من السورة نفسها: } حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ { نجده يقول: " نَمْلَةٌ " : قبيلة ، " النَّمْلِ " : قبائل الوادي ". [194]
وفي قوله بعد ذلك في الآية (20) من السورة أيضا: } وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ {.. نجده يقول : " الْهُدْهُدَ " : اسم طائر فهل يكون من ذوي الجناحين؟ ويكون كلامه كناية عما يحمل من رسائل؟ أم من الخيالة ؟ السواري ؟ أو الطيارين الآخرين ؟ راجع الأنبياء. [195]
وفي قوله بعد ذلك في الآيات من (38-43) من السورة نفسها : } قَالَ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ{38} قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ{39} قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ{40} قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ{41} فَلَمَّا جَاءتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ {.. في هذه الآيات نراه يقول: " بِعَرْشِهَا ".. بملكها ، يريد أن يضع خطط الحرب ونظام الدخول في البلاد ، فطلب الخريطة التي فيها مملكة سبأ ليهاجمها ويريها أنه جاد غير هازل : " عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ ".. أحد القواد.. ويظهر أنه لم يفهم أن المسألة علمية جغرافية تحتاج إلى الذي " عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ ". من الكتابة والرسم والتخطيط ، " قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ".. الغرض أنه يأتي به حالا وقد أتى به ، ويحتمل أنه رسمه في الحال أو كان عنده مرسوما ، ولو كان عهد الفوتوغرافيا قديماً لصح أن يكون ذلك الرسم بها ، وترى أن سليمان يشكر الله على ما في المملكة من العلماء العاملين في كل فن ، ونأخذ من القصة أن الله يعظم شأن العلم ويدعونا إلى التمسك بالأسباب الكونية لتشييد الملك وإقامة الدولة " وَأُوتِينَا الْعِلْمَ ".. يؤيد لك أن المسألة علمية " مُسْلِمِينَ ".. مناقدين لله ، يعني أنهم جمعوا بين العلم والتربية على الخلق العظيم ، وهذا أحسن حافظ لنظام الملك وعزة الدولة". [196]
***
_ موقفه من معجزة الاسراء:
وعندما تعرض لقوله تعالى في أول سورة الإسراء : } سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ {.. نجده يقول : " أَسْرَى ".. الإسراء يستعمل في هجرة الانبياء .. انظر (77) في طه و (138) في الأعراف ، و (52) في الشعراء و (23) في الدخان و (81) في هود و (65) في الحج ، ثم تدبر آخر النحل وعلاقته بالإسراء : " الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ".. الذي له حرمة يحترم بها عند جميع الناس (127) و (218) في البقرة و (25) في الحج " الْمَسْجِدِ الأَقْصَى " .. الأبعد ، مسجد المدينة .. وقد بارك الله حوله ، فكان للنبي صلى الله عليه وسلم هناك ثمرة وقوة ، وكان بالإسراء الفتح والنصر فكان ذلك من آيات الله انظر (20) يس و (108) التوبة ثم ارجع إلى الإسراء فاقرأ الى (60 ، 93). [197]
***
_ انكاره للملائكة والجن والشياطين:
كذلك نجد صاحب هذا الكتاب يؤول الملائكة ، والجن ، والشياطين ، بما لا يتفق والحقائق الشرعية الثابتة.
فمثلا عندما تعرض لقوله تعالى في الآية (34) من سورة البقرة : } وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ {.. نجده يقول : "الملائكة" .. رسل النظام وعالم السنن ، وسجودهم للإنسان معناه أن الكون مسخر له ، راجع (29) ثم انظر الملك في (15) " إِبْلِيسَ " .. اسم لكل مستكبر على الحق ، ويتبعه لفظ الشيطان والجان ، وهو النوع المستعصي على الإنسان تسخيره". [198]
وعند قوله تعالى في الآية (71) من سورة الأنعام : } قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ {.. الآية ، نجده يقول " الشَّيَاطِينُ ".. تطلق على الحيات والثعابين ، تستهوى من يتبعها ليقتلها فيهوى معها وتضله بتعرجها راجع (275) في البقرة". [199]
وعند قوله تعالى في الآيتين (26 ، 27) من سورة الحجر: } وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ{26} وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ {.. يقول: " يمثل لك بوصف الإنسان ، النوع الهاديء صاحب الطبع الطيني الذي تشكله كما تريد " وَالْجَآنَّ " .. النوع المتشرد صابح الطبع الناري ، إذا قاربته يؤذيك ويغويك، ولا تستطيع أن تمسكه وتعدله ، والنوعان موجودان في كل أمة ، فتدبر السياق من أول السورة ، وراجع القصة في البقرة ". [200]
وعند قوله تعالى في الآية (17) من سورة النمل : } وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ {.. يقول : " الْجِنِّ ".. يطلق على العالم الخفي والظاهر القوى ، وجن كل شئ أوله ومقدمته، وجن الجيش قواده ورؤساؤه " وَالْإِنسِ " .. طائعوه ومرءوسوه اقرأ الجن ". [201]
وعند قوله تعالى في الآية (158) من سورة الصافات } وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ {.. يقول: "الجنة او الجن : سادتهم وكبراؤهم". [202]
وعند قوله تعالى في الآيتين (37 ،38) من سورة ( ص ): } وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاء وَغَوَّاصٍ{37} وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ {.. نجده يقول : "الشَّيَاطِينَ". يطلقون على الصناع الماهرين والأشقياء المجرمين: " مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ ".. مسلوكين في القيود ، ومنها تفهم أن سليمان كان يشغل المسجونين من أصحاب الصناعات للانتفاع بهم". [203]
***
_ انكاره لأحكام من الدين لم ينازع فيها احد من المجتهدين:
ولقد سولت للمؤلف نفسه أن يتأول بعض آيات الأحكام على غير ما أراد الله ، وعلى مقتضى هواه الذي لا يخضع لقواعد اللغة ولا لأصول الشريعة!!
_ حد السرقة:
فمثلا عند قوله في الآية (38) من سورة المائدة : } وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا { الآية ، يقول : "واعلم ان لفظ السارق والسارقة يعطي معنى التعود . أي أن السرقة صفة من صفاتهم الملازمة لهم ، ويظهر لك من هذا المعنى : أن من سرق مرة أو مرتين ولا يستمر في السرقة ولم يتعود اللصوصية لا يعاقب بقطع يده ، لأن قطعها فيه تعجيز له ، ولا يكون ذلك إلا بعد اليأس من علاجه". [
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
صانع المعروف
صانع المعروف


عدد المساهمات : 179
نقاط : 23882
تاريخ التسجيل : 25/06/2011

الكتاب الاسطورة مناهج المفسرين  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الكتاب الاسطورة مناهج المفسرين    الكتاب الاسطورة مناهج المفسرين  I_icon_minitimeالسبت أغسطس 13, 2011 2:35 pm


ثم قال في المعارج عند قوله تعالى في الآيتين (29 ، 30) : } وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ{29} إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ {.. ما نصه : " أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ " .. من الخدم ، فإن لهم ما ليس لغيرهم، فقد يكون في الإنسان فروج أي عيوب ونقائص يسيئه أن يراها الناس فيه ، ولكن لا يسيئه أن يراها خدمه ". [210]
فأنت ترى من هذا أنه يحرم التسري ، ويفسر الفروج بالعيوب ، وهذا بعد عن قوانين اللغة ، ومبادئ الشريعة.



_ الربا:
كذلك نجد المؤلف يميل إلى أن الربا المحرم شرعا هو الفاحش فقط ، ولهذا نراه عندما يعرض لآيات الربا في سورة البقرة يفسر "الربا" فيقول: "الربا هو الزيادة من الربح في رأس المال ، وهو معروف ومقيد بالآية (130) في آل عمران ، فانظرها أولا " [211]} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً{ .. ثم يقول بعد ذلك : " وَذَرُواْ مَا بَقِيَ " .. [212] وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ " [214] فَلَهُ مَا سَلَفَ " .[215]} قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ {.. . انظر (38 ) في الأنفال " [216]. يريد قوله تعالى : كل ذلك يفيدك أن الكلام في المعاملة الحاضرة ، ويبشر من يتوب بأنه لا يحاسب على ما كسبه من قبل " " فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ " [213] " يريد قوله تعالى :
ثم قال بعد ذلك عندما عرض لقوله تعالى في الآية (130) من سوررة ال عمران : } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ { : " الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً ".. أي الربا الفاحش وبمعنى آ خر : الربح الزائد عن حده في رأس المال . وتقدره كل أمة بعرفها . راجع في جزائه أواخر البقرة ، وقصة اليهود في أواخر النساء ، ثم ارجع إلى (5) في النساء و (43) .[217]
_ زكاة الزروع :
كذلك نجد المؤلف يذهب في زكاة الزروع مذهبا لم يقل به أحد من المجتهدين فضلا عن أنه يصادم ما جاء من السنة الصحيحة في بيان المقدار الواجب في زكاة الزروع ، وذلك حيث يفسر قوله تعالى في الآية (141) من سورة الأنعام : " وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ " .. فيقول : " وَآتُواْ حَقَّهُ ".. يفيد أن في كل هذا الخارج من الأرض حقاً لابد من إعطائه : " يَوْمَ حَصَادِهِ " .. زمن تحصيله ، وكما أمر المالكين بإيتاء هذا الحق ، أمر الحاكم العام بأخذه ، والعمل على جبايته لبيت المال ، وقد ترك التقدير للأمة بحسب الحال". [218] أقول : وليس للأمة دخل في تقدير مقررات الزكاة بعد أن قدرها الرسول صلى الله عليه وسلم ، وقررها على الأمة.
_ مصارف الزكاة:
كذلك تخبط المؤلف في شرحه لبعض مصارف الزكاة ، وذلك حيث فسر قوله تعالى في الآية (60 ) من سورة التوبة "…. وَفِي الرِّقَابِ "… فقال : " في خلاصها من الاستعباد . وفي هذا الزمان تجد أكثر المسلمين رقابهم مملوكة للأجانب ، فيجب أن يتعاونوا على فك رقابهم ، وفي الزكاة حق لهذا التعاون". [219]
_ الطلاق :
كذلك نجد المؤلف يذهب إلى أن الطلاق لا يقع إلا إذا كان سببه أمراً يخل بنظام العشرة ، وآتيا من قبل المرأة ، وذلك حيث يقول في قوله تعالى في الآية (1) من سورة الطلاق : } لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ { ما نصه : " بُيُوتِهِنَّ " .. بيوت الزوجية . راجع البقرة من (226-242) والاحزاب ( 40) ، والتحريم (5 ) ، والنور (5-10) لتعرف أن الطلاق وإن كان في يد الرجل لا يقع إلا بسبب يخل بنظام العشرة الزوجية". [220]..
هذا بعض ما جاء في هذا الكتاب الذي هذى به صاحبه ، وفيه غير هذا كثير مما يدل على أن الرجل قد ركب متن الغواية ، ومشى يخبط خبط الأعشى في مهمه متسع من الضلالة!!.
وحسبي أن أكون قد أطلعت القارئ على بعض ما جاء في هذا الكتاب ، ولست في حاجة إلى أن أطيل بذكر ما يبطل هذه الأوهام ويفندها ، فإني لست في مقام الرد والتفنيد ، وإنما أنا في مقام بيان لون من ألون التفسير في هذا العصر وإذا كان القارئ الكريم يود أن يقف على إبطال هذه المزاعم التي حشا بها المؤلف كتابه ، فليرجع إلى قرار اللجنة الأزهرية ، التي ألفت للرد على هذا الكتاب [221] وليرجع إلى ما كتبه شيخنا العلامة السيد محمد الخضر حسين في الجزء الثالث من رسائل الإصلاح [222] ، ولا شك أنه سيجد فيما كتب هنا وهناك ما يكفي لأن يذهب بتلك التأويلات أدراج الرياح ، وما ينادي بأن صاحب هذه التأويلات قد انحرف عن الهدى ، فهو إلى مكان سحيق..


اللون الأدبي الاجتماعي للتفسير
في عصرنا الحاضر
يمتاز التفسير في هذا العصر بأنه يتلون باللون الأدبي الاجتماعي، ونعني بذلك : أن التفسير لم يعد يظهر عليه في هذا العصر ذلك الطابع الجاف . الذي يصرف الناس عن هداية القرآن الكريم ، وإنما ظهر عليه طابع آخر، وتلون بلون يكاد يكون جديداً وطارئا على التفسير، ذلك هو معالجة النصوص القرآنية معالجة تقوم أولا وقبل كل شئ على إظهار مواضع الدقة في التعبير القرآني ، ثم بعد ذلك تصاغ المعاني التي يهدف القرآن إليها في أسلوب شيق أخاذ ، ثم يطبق النص القرآني على ما في الكون من سنن الاجتماع ، ونظم العمران.
***
_ مدرسة الأستاذ الامام الشيخ محمد عبده ، وأثرها في التفسير:
وإذا كان هذا اللون الأدبي الاجتماعي يعتبر في نظرنا عملا جديداً في التفسير ، وابتكاراً يرجع فضله إلى مفسري هذا العصر الحديث ، فإنا نستطيع أن نقول بحق : إن الفضل في هذا اللون التفسيري يرجع إلى مدرسة الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده للتفسير .. هذه المدرسة التي قام زعيمها ، ورجالها من بعده بمجهود كبير في تفسير كتاب الله تعالى ، وهداية الناس إلى ما فيه من خير الدنيا وخير الآخرة.
نعم ، قامت هذه المدرسة بمجهود كبير في تفسير كتاب الله تعالى . مجهود نحمد لها الكثير منه ، ولا نوافقها على بعض منه قليل .
***
_ محاسن هذه المدرسة:
فالذي نحمده لهذه المدرسة : أنها نظرت للقرآن نظرة بعيدة عن التأثر بمذهب من المذاهب ، فلم يكن منها ما كان من كثير من المفسرين من التأثر بالمذهب إلى الدرجة التي تجعل القرآن تابعاً لمذهبه ، فيؤول القرآن بما يتفق معه، وإن كان تأويلا متكلفا وبعيداً .
كما أنها وقفت من الروايات الاسرائيلية موقف الناقد البصير ، فلم تشوه التفسير بما شوه به في كثير من كتب المتقدمين ، من الروايات الخرافية المكذوبة ، التي أحاطت بجمال القرآن وجلاله ، فأساءت إليه وجرأت الطاعنين عليه!!.
كذلك لم تغتر هذه المدرسة بما اغتر به كثير من المفسرين من الأحاديث الضعيفة أو الموضوعة التي كان لها أثر سئ في تفسير القرآن الكريم !!.
ولقد كان من أثر عدم اغترار هذه المدرسة بالروايات الاسرائيلية، والأحاديث الموضوعة ، أنها لم تخص في تعيين ما أبهمه القرآن ، ولم تجرؤ على الخوص في الكلام عن الأمور الغيبية ، التي لا تعرف إلا من وجهة النصوص الشرعية الصحيحة ، بل قررت مبدأ الإيمان بما جاء من ذلك مجملا ، ومنعت من الخوض في التفصيلات والجزئيات ، وهذا مبدأ سليم ، يقف حاجزاً منيعا دون تسرب شئ من خرافات الغيب المظنون إلى المعقول والعقائد .
كذلك نجد هذه المدرسة أبعدت التفسير عن التأثر باصطلاحات العلوم والفنون ، التي زج بها في التفسير بدون أن يكون في حاجة إليها، ولم تتناول من ذلك إلا بمقدار الحاجة ، وعلى حسب الضرورة فقط .
ثم إن هذه المدرسة ، نهجت بالتفسير منهجا أدبيا اجتماعياً ، فكشفت عن بلاغة القرآن وإعجازه ، وأوضحت معانيه ومراميه ، وأظهرت ما فيه من سنن الكون الأعظم ونظم الاجتماع ، وعالجت مشاكل الأمة الاسلامية خاصة ، ومشاكل الأمم عامة ، بما أرشد إليه القرآن ، من هداية وتعاليم . جمعت بين خيري الدنيا والآخرة ، ووفقت بين القرآن وما أثبته العلم من نظريات صحيحة ، وجلت للناس أن القرآن كتاب الله خالد ، الذي يستطيع أن يساير التطور الزمني والبشري ، إلى أن يرث الله الارض وما عليها ، ودفعت ما ورد من شبه على القرآن ، وفندت ما أثير حوله من شكوك وأوهام ، بحجج قوية قذفت بها على الباطل فدمغته فإذا هو زاهق.. كل هذا بأسلوب شيق جذاب يستهوي القارئ ، ويستولى على قلبه ، ويحبب إليه النظر في كتاب الله ، ويرغبه في الوقوف على معانيه وأسراره.
هذا ما نحمده لهذه المدرسة ، ولا نستطيع أن نغمطها عليه ، أو نقلل من فضلها فيه .
***



_ عيوب هذه المدرسة:
أما ما نأخذه على هذه المدرسة ، فهو أنها أعطت لعقلها حرية واسعة ، فتأولت بعض الحقائق الشرعية التي جاء بها القرآن الكريم ، وعدلت بها عن الحقيقة إلى المجاز أو التمثيل ، وليس هناك ما يدعو لذلك إلا مجرد الاستبعاد والاستغراب ، استبعاد بالنسبة لقدرة البشر القاصرة ، واستغراب لا يكون إلا ممن جهل قدرة الله وصلاحيتها لكل ممكن .
كما أنها بسبب هذه الحرية العقلية الواسعة جارت المعتزلة في بعض تعاليمها وعقائدها وعقائدها ، وحملت بعض الفاظ القرآن من المعاني ما لم يكن معهوداً عند العرب في زمن نزول القرآن وطعنت في بعض الأحاديث : تارة بالضعف ، وتارة بالوضع ، مع أنها أحاديث صحيحة رواها البخاري ومسلم ، وهما أصح الكتب بعد كتاب الله تعالى بإجماع أهل العلم ، كما أنها لم تأخذ بأحاديث الآحاد الصحيحة الثابتة ، في كل ما هو من قبيل العقائد ، أو من قبيل السمعيات ، مع أن احاديث الآحاد في هذا الباب كثيرة لا يستهان بها.
وما يقال من أن خبر الواحد لا تثبت به عقيدة إجماعا ، فيه نظر من وجوه :
الأول: أن دعوى الإجماع باطلة: فإن للعلماء أربعة أقوال في إفادة خبر الواحد العلم:
1- يفيد الظن مطلقاً .
2- يفيد العلم بقرينة .
3- يفيد العلم من غير قرينة باطراد.
4- يفيد العلم من غير قرينة لا باطراد.
الثاني: إذا جرينا على أن خبر الواحد يفيد العلم ، أمكن أن تثبت به عقيدة ، وإذا جرينا على أنه يفيد الظن ، أمكن أن تثبت به العقيدة إذا احتفت به قرائن – على المختار – لإفادته العلم حينئذ ، ومن هنا جزم ابن الصلاح وغيره بأن أحاديث الصحيحين التي لم تنتقد عليهما تفيد العلم ، فإن الأمة قد تلقتهما بالقبول ، وهي معصومة من الخطأ ، وظن المعصوم لا يخطئ . [223]
الثالث: أنه ليس المراد من العقيدة كل ما يعتقد ، وإلا لتناول ذلك الفروع الفقهية ، فإنه لا يسوغ العمل بها إلا بعد اعتقاد صحة الحكم فيها ، وإنما المراد بالعقائد أصولها ، وهو ما كان الإخلال بها موجبا للكفر، كالإيمان بالله وباليوم الآخر ، وأما الإحاديث الواردة في الحوادث الماضية ، أو المستقبلة ، أو المتعلقة بتفاصيل اليوم الآخر وما فيه ، فلا يشترط فيها التواتر ، لأن هذه الأمور ليست من قبيل العقائد التي يترتب على عدم تصديقها الكفر والعياذ بالله تعالى ، ولكن يكتفي فيها بأن تكون من طريق صحيح .
***
_ أهم رجال هذه المدرسة:
هذا . وإن أهم رجال هذه المدرسة ، وهو الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده زعيمها وعميدها ، ثم المرحوم السيد محمد رشيد رضا ، والمرحوم الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي ، وهما خير من أنجبت هذه المدرسة وخير من ترسم خطا الأستاذ الإمام ، وسار على منهجه وطريقته في التفسير.
ولست أرى القارئ بحاجة إلى أن أترجم لحياة هؤلاء الرجال الثلاثة ، فالعهد بهم قريب ، وليس يخشى على من له صلة بالحركة العلمية في هذا العصر شئ من معالم حياتهم ، ويكفي أن أتكلم عن إنتاج كل واحد منهم في التفسير وعن منهجه الذي سلكه فيه ، وسيقف القارئ – إن شاء الله تعالى - على ما قلته عن هذه المدرسة ، وما ذكرته لها من أثر محمود في التفسير ، وما ذكرته عنها من أثر يؤخذ عليها ولا يحمد لها .
2- السيد محمد رشيد رضا [224]
_ كيف أتصل الشيخ رشيد بالأستاذ الامام:
نشأ السيد محمد رشيد رضا في طرابلس الشام ، وفيها تلقى العلم عن شيوخها وعلمائها ، وجلس يفيدهم بعلمه ، ويرشدهم بنصحه ووعظه، وفي هذه الأثناء وقع في يده نسخة من جريدة العروة الوثقى ، التي كان يقوم بإخراجها والكتابة فيها رجل الإصلاح جمال الدين الأفغاني ، وتلميذه الشيخ محمد عبده ، فقرأ الشيخ رشيد ما في الجريدة ، فأعجب بالرجلين إعجاباً شديداً ، ورغب في الاتصال بالسيد جمال الدين الأفغاني فلم يسعده الحظ ، ثم تعلق أمله بالاتصال بخليفته الشيخ محمد عبده ، فأسعده الحظ في هذه المرة ، واتصل بالشيخ في رجب سنة 1315هـ وكان أول اقتراح عرضه عليه ، أن يكتب تفسيراً للقرآن على نهج ما كان يكتب في جريدة العروة الوثقى ، وبعد أخذ ورد بين الشيخين اقتنع الأستاذ الإمام بأن يقرأ دروساً في التفسير بالجامع الأزهر ، ولم يلبث إلا قليلا حتى قام بإلقاء دروسه في التفسير على طلابه ومريديه.
وكان الشيخ رشيد – رحمه الله – ألزم الناس لهذه الدروس ، وأحرصهم على تلقيها وضبطها ، فكان يكتب بعض ما يسمع ، ثم يزيد عليه بما يذكره من دروس الشيخ بعد ذلك ، ثم قام بنشر ما كتب على الناس في مجلته "المنار" ، ولكنه لم يفعل ذلك إلا بعد مراجعة أستاذه لما كتب ، وتناول له بالتنقيح والتهذيب. [225]
لهذا كله نستطيع أن نقول إن الشيخ رشيد هو الوارث الأول لعلم الأستاذ الإمام ، إذ أنه أخذ عنه فوعى ما أخذ ، وألف في حياته وبعد وفاته، فكان لا يحيد عن منهجه أو ينحرف عن أفكاره ، وليس غريباً ما يرويه الشيخ رشيد من أن الأستاذ الإمام – رحمه الله – كان يقول : "صاحب المنار ترجمان أفكاري" [226] كما أنه ليس غريبا ما يحدث به أحد تلاميذه الشيخ رشيد ، من أن الإستاذ الإمام وصف الشيخ رشيد بأنه "متحد معه في العقيدة ، والفكر ، والرأي ، والخلق ، والعمل". [227]
***
_ انتاج الشيخ رشيد في التفسير:
وإذا نحن تتبعنا ما كتبه الشيخ رشيد من تفسير للقرآن الكريم لوجدنا أنه أكثر رجال مدرسة الأستاذ الإمام إنتاجاً في التفسير ، وذلك أنه كتب تفسيره المسمى بتفسير القرآن الحكيم ، والمشهور بتفسير المنار.. ابتدأ بأول القرآن وانتهى عند قوله تعالى : (101) من سورة يوسف : } رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ {.. ثم عاجلته المنية قبل أن يتم تفسير القرآن كله.
هذا القدر من التفسير مطبوع في اثنى عشر مجلداً كباراً ، ينتهي المجلد الثاني عشر عند قوله تعالى في الآية (53) من سورة يوسف : } وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي {.. الآية.
وقد أكمل الأستاذ بهجت البيطار تفسير سورة يوسف ، وطبع تفسير هذه السورة بتمامها في كتاب مستقل يحمل اسم الشيخ رشيد رحمه الله.
هذا .. وقد فسر الشيخ من القصار سورة الكوثر ، والكافرون ، والإخلاص ، والمعوذتين ، ولا نعرف له إنتاجا في التفسير أكثر من هذا ، وهو إنتاج لا بأس به ، وفيه تتجلى روح الأستاذ الإمام ممزوجة بروح تلميذه ، فالمصادر هي المصادر ، والهدف هو الهدف ، والمنهج هو المنهج ، والأفكار هي الأفكار ، لا فرق بين الرجلين إلا فيما هو قليل نادر .
***
_ مصادره في التفسير:
أما مصادره في التفسير فإنه كان يستعين ببعض آيات القرآن على فهم بعض آخر منه ، خصوصاً إذا تكررت الآيات في موضوع واحد ، وكان يستعين أيضاً بما صح عنده من بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبما جرى عليه سلف الأمة من الصحابة والتابعين ، وبأساليب لغة العرب وسنن الله في خلقه[228] ، ومستعيناً بعد ذلك كله بعقله المتحرر من التقليد للمفسرين ، إلا فيما يقتنع به من أقوالهم ، وأقوال شيخه على الأخص ، ويحدثنا بعض تلاميذه : " أنه كان لا يراجع ما يكتب في التفسير إلا بعد أن يكتب فهمه في الآية ، حذراً من تأثير أقوال المفسرين على نفسه ، وإذا آتاه الله فهما في القرآن لم يسبق إليه، أو لم يطلع عليه إلا بعد كتابته من عنده فإنه يتحدث إلى إخوانه شاكراً، وقد يقصه على أهل بيته مغتبطاً مسروراً ". [229]
***
_ هدفه من التفسير:
وأما هدفه في التفسير فهو عين ما يهدف إليه الأستاذ الإمام ، فإذا كان الأستاذ الإمام يصرح بأن هدفه من التفسير هو " فهم الكاتب من حيث هو دين يرشد الناس إلى ما فيه سعادتهم في حياتهم الدنيا وحياتهم الآخرة " [230] . فإن صاحبنا يصرح بمثل ذلك في كثير من مواضع كتابه ، فيقول بعد أن يوجه اللوم إلى من حشروا في التفسير من قواعد العلوم ، ومسائل الفنون ، وموضوعات الحديث ، وخرافات الإسرائيليات ، ما يصرف الناس عن هداية القرآن ، فيقول : " ان حاجة الناس صادرت شديدة إلى تفسير تتوجه العناية الأولى فيه إلى هداية القرآن على الوجه الذي يتفق مع الآيات الكريمة ، المنزلة في وصفه ، وما أنزل لأجله ، من الإنذار، والتبشير ، والهداية ، والإصلاح". [231]
يريد أنه يستعمل تفسيره على هذا النمط ليسد حاجة الناس ، ويقول في موضع آخر: "أن قصدنا من التفسير بيان معنى القرآن ، وطرق الاهتداء ، به في هذا الزمان". [232]
***
_ منهجه في التفسير:
وأما منهجه فيه فهو عين ما نهجه الأستاذ الإمام ، فلا تقييد بأقوال المفسرين ، ولا تحكم للعقيدة في نص القرآن ، ولا خوض في إسرائيليات ، ولا تعيين لمبهمات ، ولا تعلق بأحاديث موضوعة ، ولا حشد لمباحث الفنون ، ولا رجوع بالنص إلى اصطلاحات العلوم ، بل شرح للآيات بأسلوب رائع ، وكشف عن المعاني بعبارة سهلة مقبولة ، وتوضيح لمشكلات القرآن ، ودفاع عنه يرد ما أثير حوله من شبهات ، وبيان لهدايته ، ودلالة إلى عظيم إرشاده ، وتوقيف على حكم تشريعه ، ومعالجة لأمراض المجتمع بناجع دوائه ، وبيان لسنن الله في خليقته.
ولكنا نجد الشيخ رشيد – رحمه الله – يحيد عن هذا المنهج بعض الشئ ، وذلك بعد وفاة شيخه ، واستقلاله بالعمل ، ويحدثنا هو بذلك فيقول :
"وإنني لما استقللت بالعمل بعد وفاته ، خالفت منهجه – رحمه الله تعالى – بالتوسع فيما يتعلق بالآية من السنة الصحيحة ، سواء أكان تفسيراً لها ، أو في حكمها ، وفي تحقيق بعض المفردات ، أو الجمل اللغوية ، والمسائل الخلافية بين العلماء ، وفي الإكثار من شواهد الآيات في السور المختلفة ، وفي بعض الاستطرادات لتحقيق مسائل تشتد حاجة المسلمين إلى تحقيقها ، بما يثبتهم بهداية دينهم في هذا العصر ، أو يقوي حجتهم على خصومه من الكفار والمبتدعة، أو بحل بعض المشكلات التي أعيا حلها . بما يطمئن به القلب ، وتسكن إليه النفس".[233]
ويبدو لنا أن هذا التوسع الذي كان من الشيخ رشيد خصوصاً في المسائل الاجتماعية ، لم يدفعه إليه إلا كونه رجلا "صحفيا" اتصل عن طريق مجلته بالناس على اختلاف منازعهم ومشاربهم ، وفيهم المتدين ، والملحد ، والكافر ، فأراد أن يتمشى بكتابته مع الجميع ، فيثبت المتدين على دينه ، ويرد الملحد عن إلحاده ، ويكشف عن محاسن الإسلام ، لعل الكافر أن يثوب إلى رشده ويرجع عن كفره.[234]
***
_ آراؤه في التفسير:
أما آراؤه في التفسير فهي كآراء شيخه ، تقوم على حرية واسعة في الرأي واعتداد عظيم بالفهم ، وثقة قوية بما عنده من العلم ، وعدم تقيد ببعض المسلمات عند العلماء ، ولهذا نجد له افكارا غريبة في تفسير القرآن استقل ببعض منها ، وقلد شيخه في بعضها الآخر.
***
_ رأيه في أصحاب الكبائر:
فمثلا عندما تعرض لقوله تعالى في الآية (275) من سورة البقرة في شأن المرابين: } وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ {. نجده يخالف أهل السنة ، ويؤكد أن صاحب الكبيرة التي في درجه أكل الربا وقتل العمد إذا مات ولم يتب منها يخلد في النار ، ولا يخرج منها أبداً فيقول : " أي ومن عاد إلى ما كان يأكل من الربا المحرم بعد تحريمه ، فأولئك البعداء عن الاتعاظ بموعظة ربهم ، الذي لا ينهاهم إلا عما يضرهم في أفرادهم أو جمعهم ، هم أهل النار الذين يلازمونها كما يلازم الصاحب صاحبه ، فيكونون فيها خالدين".
"وقد أول الخلود المفسرون ، لتتفق الآية مع المقرر في العقائد والفقه من كون المعاصي لا توجب الخلود في النار ، فقال أكثرهم : إن المراد : ومن عاد إلى تحليل الربا واستباحته اعتقاداً ، ورده بعضهم بأن الكلام في أكل الربا ، وما ذكر عنهم من جعله كالبيع هو بيان لرأيهم قبل التحريم ، فهو ليس بمعنى استباحة المحرم ، فإذا كان الوعيد قاصرا على الاعتقاد بحله لا يكون هناك وعيد على أكله بالفعل".
"والحق أن القرآن فوق ما كتب المتكلمون والفقهاء ، يجب إرجاع كل قول في الدين إليه ، ولا يجوز تأويل شئ ليوافق كلام الناس ، وما الوعيد بالخلود هنا إلا كالوعيد بالخلود في آية قتل العمد ، وليس هناك شبهة في اللفظ على إرادة الاستحلال . ومن العجيب أن يجعل الرازي الآية هنا حجة على القائلين بخلود مرتكب الكبيرة في النار ، انتصاراً لأصحابه الأشاعرة ، وخير من هذا التأويل تأويل بعضهم الخلود بطول المكث ، أما نحن فنقول : ما كل ما يسمى إيمانا يعصم صاحبه من الخلود في النار ، الإيمان إيمانان : إيمان لا يعدو التسليم الإجمالي بالدين الذي نشأ فيه المرء أو نسب إليه ، ومجاراة أهله ولو بعدم معارضتهم فيما هم عليه . وإيمان هو عبارة عن معرفة صحيحة بالدين عن يقين بالإيمان ، متمكنة في العقل بالبرهان ، مؤثرة في النفس بمقتضى الإذعان ، حاكمة على الإرادة المصرفة للجوارح في الأعمال ، بحيث يكون صاحبها خاضعا لسلطانهم في كل حال إلا ما لا يخلو عنه الإنسان من غلبة جهالة أو نسيان ، وليس الربا من المعاصي التي تنسى ، أو تغلب النفس عليها خفة الجهالة والطيش كالحدة وثورة الشهوة ، أو يقع صاحبها منها في غمرة النسيان كالغيبة والنظرة ، فهذا هو الإيمان الذي يعصم صاحبه بإذن الله من الخلود في سخط الله ، ولكنه لا يجتمع مع الإقدام على كبائر الإثم والفواحش عمدا ، إيثاراً لحب المال واللذة ، عن دين الله وما فيه من الحكم والمصالح . وأما الإيمان الأول : فهو صوري فقط ، فلا قيمة له عند الله تعالى ، لأنه تعالى لا ينظر إلى الصور والأقوال ، ولكن ينظر إلى القلوب والأعمال ، كما ورد في الحديث والشواهد على هذا الذي قررناه في كتاب الله تعالى كثيرة جداً ، وهو مذهب السلف الصالح ، وإن جهله كثير ممن يدعون اتباع السنة حتى جرءوا الناس على هدم الدين ، بناء على أن مدار السعادة على الاعتراف بالدين وإن لم يعمل به ، حتى صار الناس يتبجحون بارتكاب الموبقات ، مع الاعتراف بأنها من كبائر ما حرم ، كما بلغنا عن بعض كبرائنا أنه قال : إنني لا أنكر انني آكل الربا ولكنني مسلم أعترف بأنه حرام ، وقد فاته أنه يلزمه بهذا القول الاعتراف بأنه من أهل هذا الوعيد ، وبأنه يرضى أن يكون محاربا لله ولرسوله ، وظالما لنفسه وللناس ، كما سيأتي في آية اخرى ، فهل يعترف بالملزوم ؟ أو ينكر الوعيد المنصوص فيؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض ؟ نعوذ بالله من الخذلان". [235]
***
_ تقليده لشيخه في قصة آدم:
كذلك نجد صاحب المنار يقلد شيخه في موقفه من قصة آدم وإبليس وما يتعلق بها فيقول:
"وهذا التفصيل مبنى على كون الأمر بالسجود للتكليف ، وأنه وقع حوار بين الرب سبحانه وبين إبليس . وأما على القول بأن الأمر للتكوين ، وأن القصة بيان لغرائز البشر والملائكة والشياطين ، فالمعنى : أنه تعالى جعل ملائكة الأرض المدبرة بأمر الله وإذنه لأمورها بالسنن التي عليها مدار نظامها كما قال : "فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً " [236]} وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا {.. إلا أنه جعل الشيطان عاتيا متمرداً على الإنسان ، بل عدواً له ، من حيث أن الإنسان بروحه وسط روح الملائكة المفطورين على طاعة الله وإقامة سننه في صلاح الخلق ، وبين روح الجن الذي يغلب على شرارهم – وهم الشياطين – التمرد والعصيان . وقد أعطى الإنسان إرادة واختياراً من ربه ترجيح ما به يصعد إلى أفق الملائكة ، وما به يهبط إلى أفق الشياطين " . [237] .. مسخرة لآدم وذريته ، إذ خلق الله هذا النوع مستعدا للانتفاع بها كلها ، بعلمه بسنن الله تعالى فيها ، وبعلمه بمقتضى هذه السنن كخواص الماء ، والهواء والكهرباء، والنور، والأرض : معادنها ، ونباتها ، وحيوانها، وإظهاره لحكم الله تعالى وآياته فيها ، ومستعداً لاصطفاء الله بعض أفراده ، واختصاصهم بوحيه ورسالته، وإقامة من اهتدى بهم لدينه وميزان شرعه ، وقد أشير إلى ذلك في الآية (31) من سورة البقرة بقوله تعالى :
***
_ تذرعه بالمجاز والتشبيه:
كذلك نجد صاحب النار يصرف بعض ألفاظ القرآن عن ظواهرها ، ويعدل بها إلى ناحية المجاز أو التشبيه ، وذلك فيما يبدوا مستبعداً ومستغرباً لو أجرى على حقيقته ، وهذا المسلك الذي جرى عليه الشيخ رشيد هو مسلك شيخه ، ومسلك الزمخشريي وغيره من المعتزلة ، الذين اتخذوا التشبيه والتمثيل سبيلا للفرار من الحقائق التي يصرح بها القرآن ، ولا تعجز عنها قدرة الله ، وإن بعدت عن منال البشر.
فمثلا نجد صاحب المنار عندما تعرض لقوله تعالى في الآية (47) من سورة النساء : يا} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُم مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا {.. الآية . نراه يستظهر أن المعنى المراد هنا هو " آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوه مقاصدكم التي توجهتم إليها في كيد الإسلام ، ونردها خاسئة خاسرة إلى الوراء ، بإظهار الإسلام ونصره عليكم ، وفضيحتكم فيما تأتونه باسم الدين والعلم الذي جاء به الأنبياء ، وقد كان لهم عند نزول الآية شئ من المكانة والمعرفة والقوة ، فهذا ما نفسرها به ، على جعل الطمس والرد على الأدبار معنويين . . ثم سرد بعض أقوال المفسرين في هذه الآية ، ثم بين أن ما اختاره هو رأي شيخه الذي مال إليه في دروسه". [238]
***
_ رأيه في السحر:
ثم إن صاحب المنار لا يرى السحر إلا ضربا من التمويه والخداع ، وليس له حقيقة كما يقول أهل السنة ، وهو يوافق بهذا القول قول شيخه وقول المعتزلة من قبله ، ولهذا نراه عندما فسر قوله تعالى في الآية (7) من سورة الأنعام : } َلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَـذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ {.. نجده يقول : " والآية تدل على أن السحر خداع باطل ، وتخييل يرى ما لا حقيقه له في صورة الحقائق". [239]
هذا .. ولم يستطع الشيخ رشيد أن يرد حديث البخاري في سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم كما فعل شيخه ، ولكنه تأول الحديث على أنه كان من قبيل العقد عن النساء ، وبين أن عذر من طعن في الحديث هو أن هشاما راوى الحديث عن أبيه عن عائشة مطعون فيه من كثير من أئمة الجرح والتعديل . [240]
***
_ رأيه في الشياطين:
وهو يرى أن شياطين الجن لا تسلط لها على الإنسان إلا بالإغواء فقط، ويقول : " كل ما يدعيه بعض الدجالين من تسلط الشيطان ، أو ملوك اللجان على بعض الناس ، وقدرتهم على نفعهم وضرهم ، فهو كذب وحيل من شياطين الإنس وحدهم". [241]
***



_ رأيه في الجن:
كما يرى إن الجن لا ترى للإنسان على أي حال من الأحوال ، ويرجح أن من ادعى رؤية الجن فذلك وهم منه وتخيل ، ولا حقيقة له في الخارج ، أو لعله رأى حويانا غريباً كبعض القردة فظنه أحد أفراد الجن .[242] ويقول هذا ثم يعرض في "الهامش" لذكر حديث أبي هريرة فيمن كان يسرق تمر الصدقة ، وإخبار النبي له بأنه شيطان – وهو في البخاري – ولغيره من الأحاديث التي تدل على أن الإنسان يرى الجني ويبصره ، ثم يقول بعد أن يفرغ من سرده للروايات "والصواب أنه ليس في هذه الروايات كلها حديث صحيح". [243]
بل ونجده يزيد على ذلك فيجوز أن تكون ميكروبات الأمراض نوعا من الجن . وذلك حيث يقول عندما تعرض لتفسير قوله تعالى في الآية (275) من سورة البقرة : } الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ {.. الآية : ".. والمتكلمون يقولون : إن الجن أجسام حية خفية لا ترى ، وقد قلنا في المنار غير مرة : إنه يصح أن يقال : أن الأجسام الحية الخفية التي عرفت في هذا العصر بواسطة النظارات المكبرة وتسمى بالميكروبات ، يصح أن تكون نوعا من الجن ، وقد ثبت أنها علل لأكثر الأمراض". [244]
***
_ رأيه في معجزات النبي صلى الله عليه وسلم:
ولقد نجد صاحب المنار يذهب في معجزات النبي صلى الله عليه وسلم مذهباً بعيداً ، فيقرر أنه لا مجعزة للنبي صلى الله عليه وسلم غير القرآن الكريم ، وينكر بعض معجزاته الكونية ، ويتأول ما يشهد لها من آيات ، ويجحد صحة ما يقوم بإثباتها من الأحاديث ، وما يسلمه من بعض الآيات الكونية فهو في نظره إكرام للنبي من ربه ، وليس من قبيل المعجزة ، أو الحجة على صدق دعوته.
يذهب إلى هذا ويستدل له بمثل قوله تعالى في الآية (59) من سورة الإسراء : } وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ {.. الآية ، وبمثل قوله عليه السلام من رواية أبي هريرة عند الشيخين وغيرهما : " ما من نبي من الأنبياء إلا أعطى ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة .
ولكن صاحب المنار يستشعر معارضة بعض نصوص القرآن والحديث لما ساقه من أدلة على مدعاه فيقول : " وقد يعارضه – يعني الحديث السابق – آية انشقاق القمر مع ماور في أحاديث الصحيحين وغيرهما من أن قريشا سألوا النبي صلى الله عليه وسلم آية على نبوته فانشق القمر فكان فرقتين ، ولكن في الأحاديث الواردة في انشقاقه عللا في متنها وأسانيدها ، وإشكالات علمية ، وعقلية ، وتاريخية ، فصلناها في المجلد الثلاثين من المنار ، وبينا أن ما تدل عليه الآيات القرآنية المؤيدة بحديث الصحيحين الصريح في حصر معجزة نبوته صلى الله عليه وسلم في القرآن وكون الآيات المقترحة تقتضي إجابة مقترحيها عذاب الاستئصال ، هو الحق الذي لا ينهض لمعارضته شئ". [245]
وإذا كان الشيخ رشيد قد تخلص هنا من معارضة الحديث بالطعن فيه ، فإنه قد تخلص في موضع آخر من معارضة الآية ، حيث فسر انشقاق القمر بظهور الحجة " . [246]
***
_ رأيه في مسائل من الفقه:
كذلك نجد صاحب المنار يعطي نفسه حرية واسعة في استباط الأحكام من القرآن الكريم ، مما جعله يخالف جمهور الفقهاء ، ويسفههم فيما ذهبوا إليه وإذا أردت مثالا لذلك فارجع إلى ما كتبه على قوله تعالى في الآية (180) من سورة البقرة : } كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ {.. فستجد أنه لم يعبأ بما عليه جمهور العلماء من أهل السنة من أن حكم هذه الآية منسوخ ، بصرف النظر عن كون الناسخ آية المواريث أو حديث " لا وصية لوراث " الذي جنح الشافعي في الأم إلى أن متنه متواتر [247]، فراح – رحمه الله – يؤكد بكل ما يملك من حجة : أن حكم الوصية للوالدين والأقربين باق لم ينسخ ، كما راح يفند كل دليل تمسك به الجمهور ، ولا أطيل بذكر ما قال في هذا الموضوع ، ويكفي أن أقول لك : إنه أنهى البحث في هذه المسألة بقوله : "وصفوة القول : أن الآية غير منسوخة بآية المواريث ، لأنها لا تعارضها ، بل تؤيدها ، ولا دليل على أنها بعدها ، ولا بالحديث ، لأنه لا يصلح لنسخ الكتاب ، فهي محكمة ، وحكمها باق ، ولك أن تجعله خاصاً بمن لا يرث من الوالدين أو الأقربين كما روى عن بعض الصحابة، وأن تجعله على إطلاقه ، ولا تكن من المجازفين الذين يخاطرون بدعوى النسخ فينبذ ما كتبه الله عليه بغير عذر، ولاسيما بعد ما أكده بقوله: "حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ ". [248].
وإن أردت مثالا آخر فارجع إلى ما ذهب إليه في آية التيمم من سورة النساء ، فسترى أنه يقرر : أن المسافر يجوز له التيمم ولو كان الماء بين يديه ولا علة تمنعه من استعماله إلا كونه مسافراً ، ويخالف بذلك جماعة الفقهاء ، ويحمل عليهم حملة شديدة فيما ذهبوا إليه من أن المسافر لا يجوز له التيمم مع وجود الماء ، كما ينكر على من استشكل الآية من المفسرين ، ويقول فيما يقول : " سيقول أدعياء العلم من المقلديين ، نعم.. إن الآية واضحة المعنى ، كاملة البلاغة على الوجه الذي قررتم ، ولكنها تقتضي عليه أن التيمم في السفر جائز ولو مع وجود الماء . وهذا مخالف للمذاهب المعروفة عندنا ، فكيف يعقل أن يخفى معناها هذا على أؤلئك الفقهاء المحققين ؟ وكيف يعقل أن يخلفوها من غير معارض لظاهر ما أرجعوها إليه؟ .. ولنا أن نقول لمثل هؤلاء – وإن كان المقلد لا يحتاج لأنه لا علم له – وكيف يعقل أن يكون أبلغ الكلام وأسلمه من التكلف والضعف معضلا مشكلا ؟ وأي الأمرين أولى بالترجيح ؟ الطعن ببلاغة القرآن وبيانه. لحمله على كلام الفقهاء ؟ أو تجويز الخطأ على الفقهاء ، لأنهم لم يأخذوا بما دل عليه ظاهر الآية من غير تكلف ، وهو الموافق الملتئم مع غيره من رخص السفر ، التي فيها قصر الصلاة وجمعها ، وإباحة الفطر في رمضان ، فهل يستنكر مع هذا أن يرخص للمسافر في ترك الغسل والوضوء ، وهما دون الصلاة والصيام في نظر الدين ". . إلى أن قال : " ألا إن من أعجب العجيب ، غفلة جماهير الفقهاء عن هذه الرخصة الصريحة في عبارة القرآن ، التي هي أظهر وأولى من قصر الصلاة وترك الصيام ، وأظهر في رفع الحرج والعسر الثابت بالنص وعليه مدار الأحكام .. " ثم قال : "وإذا ثبت أن التيمم رخصة للمسافر بلا شرط ولا قيد ، بطلت كل تلك التشديدات التي توسعوا في بنائها على اشتراط فقد الماء ، ومنها ما قالوا من وجوب طلبه في السفر ، وما وضعوه لذلك من الحدود كحد القرب وحد الغوث". [249]
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
صانع المعروف
صانع المعروف


عدد المساهمات : 179
نقاط : 23882
تاريخ التسجيل : 25/06/2011

الكتاب الاسطورة مناهج المفسرين  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الكتاب الاسطورة مناهج المفسرين    الكتاب الاسطورة مناهج المفسرين  I_icon_minitimeالسبت أغسطس 13, 2011 2:38 pm

_ حملته على بعض المفسرين:
هذا .. ولا يفوتنا أن نقول ، إن صاحب المنار كان كثير التوسع فيما يتعقب به أحيانا قدماء المفسرين ، خصوصاً الفخر الرازي منهم، مع قسوة منه عليهم في الكثير الغالب . [250]
***
_ حملته على البدع والخرافات:
كما أنه كان كثير الاستطراد إلى تتبع بدع المسلمين ، والكشف عن عوارها والإرشاد إلى علاجها ، مع تشدد وتعسف منه في كثير من الأحيان.
***
_ شرحه لمبهمات القرآن بما جاء في التوراة والانجيل:
كذلك لا يفوتنا أن ننبه على أن صاحب المنار كان مع شدة لومه على المفسرين الذين يزجون بالإسرائيليات في تفاسيرهم ، ويتخذون منها شروحاً لكتاب الله ، يخوض هو أيضا فيما هو من هذا القبيل ويتخذ منه شروحا لكتاب الله ، وذلك أنه كثيراً ما ينقل عن الكتاب المقدس أخباراً وآثاراً يفسر بها بعض مهمات القرآن ، أو يرد بها على أقوال بعض المفسرين . [251] وكان الأجدر بهذا المفسر الذي يشدد النكير على عشاق الإسرائيليات ، أن يكف هو أيضاً عن النقل عن كتب أهل الكتاب ، خصوصا وهو يعترف أنه قد تطرق إليها التحريف والتبديل .
***
_ دفاعه عن الاسلام:
وأخيراً فلا يفوتنا أن الرجل قد دافع عن الإسلام والقرآن ، وكشف عما أحاط بهما من شكوك ومشاكل ، وقد استعمل في ذلك لسانه وقلمه ، وضمنه مجلته وتفسيره ، وتلك مزية للرجل يحمد عليها . ولا ننسى ما له من أفكار جريئة ومتطرفة.
***
3- الاستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي [252]
_ الاستاذ المراغي في مدرسة الشيخ محمد عبده:
ولم نعرف من رجال هذه المدرسة رجلا تأثر بروح الأستاذ الإمام ، ونهج على طريقته من التجديد واطراح التقليد ، والعمل على تنقية الإسلام من الشائب التي الصقت به، وتنبيه الغافلين عن هديه وإرشاده مثل الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي عليه رحمة الله ورضوانه.
تربى هذا الرجل في مدرسة الأستاذ الإمام ، وتخرج منها وهو يحمل بين جنبيه قلباً مليئاً بالرغبة في الإصلاح ، والثورة على كل ما يقف في سبيل الإسلام والمسلمين .
هذا القلب الفتي ، العامر بما فيه من حب للخير ورغبة في الإصلاح، دفع بالرجل إلى ميدان الحياة الاجتماعية ، وترقى به في مراتب المناصب الدينية، وأخيراً وقف به عند الغاية ، فإذا بالرجل شيخا للأزهر ، وإذا بروح الإصلاح والتجديد تتدفق من فوق منبره ، وعلى قلوب طلابه وغير طلابه ، ثم تنساب جارفة إلى نواح من الحياة مختلفة ، فتعمل فيها عمل السحر والحياة والنور.
لم يلازم الشيخ المراغي أستاذه الإمام ملازمة طويلة كما لازمه الشيخ رشيد ولم يجلس إليه كثيراً مثل ما جلس ، ولكنه كان على رغم ذلك أعمق أثرا وأكثر تحقيقا لما تهدف إليه هذه المدرسة من ضروب الاصلاح وصنوف التجديد ، والسر في ذلك – كما يظهر لنا – هو تقلب الشيخ في مختلف المناصب الدينية الكبيرة ، ثم ما كان فيه من جاذبية وقدرة على استجلاب قلوب سامعيه واستمالتها إليه، مما أجلس بين يديه الملك ، والأمير، والوزير، والشيخ الكبير ، والطالب الصغير ، ورجل الشارع.
جلس هؤلاء جميعا يستمعون إليه ويأخذون عنه ، فكان الميدان فسيحا أمام الشيخ ، يلقى فيه بآرائه وأفكاره ، فتجد الدعوة قبولا من مستمعيه ، ورواجاً عند مريديه .. ثم لا تلبث أن تنتشر فتعم كل شئ.
وإذا كان كتاب الله هو الدستور الذي شرعه الله تعالى للأمة الإسلامية ، وجعل فيه خيرها وسعادتها في الدنيا والآخرة ، فلم لا يكون هو الباب الذي يصل منه الشيخ إلى ما يرجوه من خير ، وما يهدف إليه من إصلاح.
***
_ انتاجه في التفسير:
طرق الشيخ هذا الباب ، فعقد دروسا دينية في تفسير القرآن الكريم ، استمع إليها الكثير من الناس على اختلاف طبقاتهم ، من الملك إلى رجل الشارع كما قلت ، وأذيعت هذه الدروس أيضاً في كثير من ممالك الأرض ، ودول الإسلام وأخيراً طبعت هذه الدروس ، ووزعت على الناس ليعم نفعها ، ويزداد أثرها .
لم تكن هذه الدروس على شئ من الكثرة ، ولم يكن مقدار ما تناولته من آيات القرآن بالمقدار الكبير ، الذي كنا نرغب ونطمع في أن تزود به المكتبة الإسلامية .
نعم ... لم تتناول هذه الدروس من آيات القرآن الكريم إلا مقداراً قليلا ، وإذا نحن ذهبنا نستقصيه فإنا لا نجده أكثر من شرحه لقوله تعالى في الآية (177) من سورة البقرة : } لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ {.. إلى قوله : } أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ {. [253]
وشرحه لقوله تعالى في الآيات (133-138) من سورة آل عمران : } وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ {.. إلى قوله : } هَـذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ {..[254]
وشرحه لقوله تعالى في الآيتين (13 ،14) من شورة الشورى : } شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً {.. إلى قوله : } أُورِثُوا الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ {..[255]
وشرحه لقوله تعالى في الآيات (151 -153) من سورة الأنعام } قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ {.. إلى قوله : } ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ {..[256]
وشرحه لقوله تعالى في الآيات (183-186) من سورة البقرة : } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ {.. إلى قوله : } وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ {..[257]
وشرحه لقوله تعالى في الآيات (24-29) من سورة الأنفال : } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ {.. إلى قوله : } وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ {..[258]
وشرحه لسورة الحجرات [259]، وشرحه لسورة الحديد [260]، وشرحه لسورة لقمان.[261]
وشرحه لقوله تعالى في الآيات (160-165) من سورة الأنعام } مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا { .. إلى آخر السورة . [262]
وشرحه لقوله تعالى في الآيات (199-206) من سورة الأعراف } خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ {.. إلى آخر السورة. [263]
وشرحه لقوله تعالى في الآيات (30-34 ) من سورة فصلت : } إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا {.. إلى قوله : } كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ { . [264]
وشرحه لأوائل سورة الأعراف .. إلى قوله في الآية (9) } وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ {.. [265]
وشرحه لقوله تعالى في الآيات (112-123) من سورة هود : } فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ {.. إلى آخر السورة .
وشرحه لقوله تعالى في الآيتين (58-59) من سورة النساء : } إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا {.. إلى قوله : } ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً {..[266]
وشرحه لقوله تعالى في الآية (17) من سورة الرعد : } أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا {.. إلى قوله } كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ {..[267]
وشرحه لقوله تعالى في الآيات (83-88) من سورة القصص : } تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ {.. إلى آخر السورة . [268]
وشرحه لقوله تعالى في الآيات (1-10) من سورة الفرقان : } تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ {.. إلى قوله : } وَيَجْعَل لَّكَ قُصُوراً {.. [269]
وشرحه لقوله تعالى في الآيات (63-77) من سوررة الفرقان أيضاً } وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً {.. إلى قوله : } كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً { [270]..
وشرحه لسورة العصر.[271]
وشرحه لسورة الملك .[272]
هذا هو كل ما للأستاذ المراغي – رحمه الله – من إنتاج في التفسير ، وهو على قلته عمل كبير وعظيم ، بالنظر لما يهدف إليه من إصلاح ، وما يحمل في طياته من توجيه حسن في التفسير.
وحسب الشيخ أن يكون قد لفت قلوب كثيرة من المسلمين إلى القرآن ، بعد أن أعرضوا عن هديه ، وضلوا عن إرشاده ، وتلك حسنة نرجو له برها وذخرها عند الله .
***
_ منهجه في التفسير:
يتتبع الإنسان إنتاج الأستاذ الأكبر في التفسير ، ويستقصى ما عرض له من آيات القرآن الكريم ، فيلحظ أن الشيخ – رحمه الله تعالى – كان يختار لدروسه من آيات القرآن ما تتجلى فيه دلائل قدرة الله وآيات عظمته ، وما تظهر فيه وسائل هداية البشر ، ومواضع العظة والعبرة ، كما يلحظ أيضاً أنه وجه جانباً كبيراً من عنايته إلى الآيات التي يجمعها وقضايا العلم الحديث صلة القربى ، ليظهر للناس أن القرآن لا يقف في سبيل العلم ، ولا يصادم ما صح من قواعده ونظرياته ، وذلك بما يهديه الله إليه من الدقة في التوفيق بين قضايا القرآن ، وقضايا العلم الحديث .. دقة لا يبلغ شأوها ، ولا يدرك خطرها إلا من شغل نفسه ، وكد فهمه في هذا السبيل.
***
_ مصادره في التفسير:
وأعتقد أن الشيخ – رحمه الله – كان يستند في تحضير دروسه على كتاب الله تعالى بجمع ما كان من الآيات في موضوع واحد . لعل ما أجمل في موضع فسر في موضع آخر ، وما أبهم في آية بين في آية اخرى ، وكان يستند أيضاً إلى ما صح من بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبيان السلف الصالح من الصحابة والتابعين ، ثم على أساليب اللغة وسنن الله في الكون ، ثم على ما كتبه قدماء المفسرين ، ولكنه لم يلغ عقله في هذا كله ، بل كان يضع هذه المصادر كلها أمام نظره ، ويعرض ما فيها على قلبه وعقله ، فما أعجبه منها أقره ، وما لم يطمئن إليه نبذه وأعرض عنه.
لم نسمع عن الأستاذ المراغي – رحمه الله – أنه فسر القرآن بدون أن ينظر أولا فيما كتبه المفسرون ، ولم يبلغنا عنه أنه ادعى لنفسه أنه أتى بما لم يأت به الأوائل في التفسير ، بل على العكس من ذلك وجدناه يعترف بالفضل للأقدمين ، ولا ينسى ما كان لهم من مجهود طيب وأثر محمود ، وذلك حيث يقول عن تفسيره : " ما هو إلا ثمرات من غرس أسلافنا الأقدمين ، وزهرات من رياضهم".[273]
لم يتحامل الشيخ – رحمه الله – على المفسرين كما تحامل غيره ، ولم يرم في وجوههم بالعبارات القاذعة اللاذعة ، بل كان عفاً في نقده ، نزيهاً في عبارته ، وهذا أدب ما أجمله بالعلماء ، وبخاصة مع أسلافنا ومتقدميهم .
***
_ موقفه من مبهمات القرآن:
هذا ، وإن الأستاذ المراغي – رحمه الله – قد نهج في تفسيره منهج شيخه ، فوجدناه لا يخوض في مبهمات القرآن بالتفصيل . ولا يدخل في جزئيات سكت عنها القرآن ، وأعرض عنها الرسول صلى الله عليه وسلم ، فلا الروايات الموضوعة أو الضعيفة بكافية عنده حتى يزج بها في تفسيره ، ولا الأخبار الإسرائيلية بمقبولة لديه ، حتى يجعل منها شروحاً لما أجمله القرآن وسكت عن تفصيله ، فلهذا نراه عندما تعرض لقوله تعالى في الآية (133) من سورة آل عمران } وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ {.. نجده يقول بعد أن ينتهي من تفسير الآية ما نصه: "والآية تدل بظاهرها على أن الجنة مخلوقة الآن ، لأن الفعل الماضي يفهم هذا . غير أنه من الجائز أن يكون من قبيل قوله تعالى : } وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ {..[274] فلا يدل على خلقها الآن ، والبحث في هذا لا فائدة له ، ولا طائل تحته". [275]
ومثلا عندما تعرض لقوله تعالى في الآية (183) من سورة البقرة : } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ {.. الآية ، وجدناه يقول : ".. ونحن لا نعلم ما هو الذي فرضه الله على الأمم السابقة من قبل ، أهو شهر رمضان كما قال بعض الناس؟ أم غيره ؟ وليس لنا ما يهدينا إلى شئ معين من دليل يطمئن إليه القلب . والتشبيه لا يدل على المماثلة في كل شئ ، فنحن نؤمن بأن صوما فرض على الأمم السابقة ، لا نعلم مقداره ولا كيفيته ، ولا يزال الصوم معروفا عند الأمم الأخرى على أوضاع مختلفة " . [276]
ومثلا عندما تعرض لقوله تعالى في الآية (12) من سورة لقمان } وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ {.. الآية ، وجدناه يقول ما نصه : " اختلف الناس في لقمان هذا من هو؟ ومن أي الامم هو ؟ فقيل : إنه من بني إسرائيل . وقيل : إنه كان عبداً حبشياً. وقيل : إنه أسود من سودان مصر . وقيل : إنه يوناني . ومن اللناس من جعله نجارا ، ومنهم من جعله راعي غنم ، ومنهم من قال إنه نبي ، ومنهم من قال إنه حكيم . وكل هذه أقوال ليس لها سند يعول عليه ، وبعد أن وصفه الله بالحكمة فلا يرفع من شأنه أنه كان من أشرف الأمم ، ولا يضع من قدره أنه كان زنجيا مملوكا " . [277]
***



_ عنايته باظهار أسرار التشريع:
كذلك نجد الأستاذ الأكبر يهتم في تفسيره اهتماما كبيرا بإظهار سر التشريع الإسلامي ، وحكمة التكليف الإلهي ، ليظهر محاسن الإسلام ، ويكشف عن هدايته للناس .
فمثلا عندما تعرض لآيات الصوم في سورة البقرة ، نجده يفيض في سر الصوم وحكمته فيقول : " الصيام أحد الأركان الخمسة التي بنى عليها الإسلام ، وهو رياضة بدنية ، وتهذيب خلقي ، وتطهير روحي ، ذلك أن الاسترسال في الشهوات ، والانغماس في اللذات حجاب بين الروح وبين الكمالات القدسية والفيض الإلهي ، يعوقها عن تلقي الإلهام وعن لذة الاتصال ، ولذلك يلجأ أرباب المقامات والعارفون إلى الصوم ، كلما أحسوا بعداً عن اللذات الإلهية ، وانزعج خاطرهم شوقا إلى القرب منها ".
"وفي الصبر على الحرمان من اللذات التي تنازع إليها النفس ، وتقتضيها الطبيعة ، تربية للإرادة ، وتقوية على المضي في العزم ، وعدم نقض العقد والعهد إذا وسوس الشيطان وزين للنفس الخروج عن العهود ، لما فيها من المشقات ، وفي تقوية الإرادة على هذا النحو إعداد لتلقي التكاليف الإلهية بالقبول والطمأنينة ، وتثبيت لملكة المراقبة والخوف من الله ، وتقوية لخلق الحياة ، وفي هذا كل الخير ، وبه تتحقق تقوى الله ، وتستعد النفس للسخاء ، والبذل والتضحية ، إذا دعى الداعي ، وحان وقت الفصل بين شجعان الرجال وجبنائهم ، وبين كرامهم وأنذالهم".
"وليس يخفى أن كل شئ في هذه الحياة ممكن . الفقر بعد الغنى ، والمرض بعد الصحة ، والذلة بعد العز، والنزوح عن الأوطان بعد الطمأنينة فيها، ويغلب الأعداء بعد الغلب عليهم وقهرهم... وما إلى ذلك مما هو بسبيل أن يعرض للإنسان . وعروض هذه الأشياء على نفس مدللة ، وجسم مترف ، ينام بقدر ، ويأكل بقدر ، ويمرح في الملذات بين الأهل والعشيرة ، قد يصدمه صدمة لا يقولى على احتمالها ، أو يسوق إليه الجزع ويورثه اليأس".
" لذلك كله اقتضت حكمه الحكيم العليم ، أن يجعل من العبادات ما يروض الأجسام ويهذب الأخلاق ، ويطهر الأرواح ويزكيها.. وكان من هذه العبادات الصوم".
" وكما عني الإسلام بتزكية الأرواح وتهذيب الأخلاق ، فقد عني بتربية الأجسام ، وحرم كل ما هو ضار بها ، وأباح الطيبات وكل ما هو نافع ومفيد ، ذلك أن الإسلام يريد رجلا عاملا في الحياة ، مهذب الأخلاق ، طاهر الأعراق ، قوياً لا يهاب الموت ، يدفع عن الدين ويدافع عن الوطن ، ويذود عن العشيرة ، ويريد رجلا رحيما حسن المعاشرة ، سلس القياد لأهله، وعشيرته، وبني وطنه، يريد رجلا لا تلهيه الدنيا عن الاتصال بالخالق وأداء حقوقه.. الخ". [278]
***
_ معالجته للمشاكل الاجتماعية:
كذلك نجد الشيخ المراغي – رحمه الله – يعرض لمشاكل المجتمع وأسباب الانحطاط في دول الإسلام ، يعالج كل ذلك بما يفيضه الله على قلبه وعقله ولسانه ، من هداية القرآن وإرشاده.
ولقد كان الأستاذ – رحمه الله – بصيراً بمواطن الداء ، وأسباب الشفاء ، فكان يهدف في دروسه إلى علاجها واستئصالها ، وكان كثيراً ما يوجه الخطاب إلى أرباب الحل والعقد في الدولة – وهم غالبية المستمعين له – ويلفت أنظارهم إلى ما في أعناقهم من أمانات ، وما عليهم من تبعات ، ثم يأخذ بيدهم إلى حيث يكون صلاحهم ، وصلاح من تحت إمرتهم ورعايتهم .. يدفعه في هذا كله إخلاصه لربه ، ولوطنه ، ولأمته..
فمثلا عندما تعرض لقوله تعالى في الآية (13) من سورة الشورى : } شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً {... الآية ، نجده يقول : ".. والحكمة في هذه الشرائع الإلهية : أن الإنسان إذا ترك إلى مداركه الحسية ونظرياته العقلية ، ضل وكره الحياة ، وكان أشقى من أنواع الحيوان ، وشقاؤه يكون من ناحية العقل نفسه ، فقد دلت التجارب على أن العقل غير المؤيد بالشرع الإلهي يذهب مذاهب شتى ، منها الصواب ومنها الضلال ، وهو فيما عدا المحسات المادية ضلاله أكثر من صوابه. وهذه آراء العلماء في الفلسفة والأخلاق ، ويشبه بعضها هذيان المحموم ، وبعضها لا يدرك له محصل على كثرة ما يقولون من مقدمات وبراهين . وهذه مذاهب الاجتماع قديمها وحديثها ، لم تسعد الأمم بها ، فلابد من هداية تصدر عن المعصوم يحملها من عند الله العلي الحكيم . وقد دلت التجارب أيضاً على أن الأمم التي عملت بالهدي كله أو بعضه سعدت بمقدار ذلك الهدي الذي عملت به".
"وأما أنه لولا الدين لما احتمل الإنسان هذه الحياة ، فإنها على قصرها مملوءة بالمصائب والويلات ، فمن فقر مدقع ، إلى مرض مزمن، ومن فقد الأهل والعشيرة ، إلى فقد العزة والجاه ، ومن شرف رفيع ، إلى ذلة ومهانة... واحتمال هذا كله إذا لم يكن أمام الإنسان أمل ينتظره ، وحياة دائمة فيها سعادة دائمة ليس في طاقة الإنسان ، فالاعتقاد بالآخرة يرفه العيش ، ويجعل المؤمن في سعادة نفسية ، ويقويه على احتمال الصعاب ، وعلى الصبر على معاشرة الناس ، فلابد من نظام يعتقد فيه العصمة من الخطأ ، ويهدر معه حكم العقل إذا حصل تعارض بينهما ، فإن دائرة العقل محدودة ، وهي قاصرة عن إدراك خفايا المستقبل".
وإذا قيل : إن التدين مقيد للحرية ، ومانع من التمتع باللذات ، فكيف تكون فيه السلوى والعزاء ؟ فالجواب : أن الإسلام أباح الطيبات وحرم الخبائث ، ولم يحظر من اللذات إلا ما يضر الإنسان ، وليست السعادة في حرية البهائم ، بل في حرية يسبح بها فيما فيه خيره وسعادته ، ويحظر عليه فيها ما فيه ضرره وشقاؤه ، وقوام آداب الأمم وفضائلها ، التي قامت عليها صروح المدنية الحقة مستند إلى الدين ، وبعض العلماء يحاول تحويلها عن أساس الدين ، وبناءها على أساس العقل والعلم ، غير أنه لا شبهة في أن الأمم التي تروم هذا التحول تقع في اضطراب وفوضى لا تعلم عاقبتهما ، وليس من الميسور أن تبني للعامة قواعد الفضيلة على أساس علم الأخلاق ، أو أية قاعدة علمية أخرى ، ولكن من الميسور دائماً أن تبني قواعد الفضيلة على أساس العصمة للدين ، فالذي يحاول العلماء : وهم وخيال". [279]
ومثلا عندما تعرض لقوله تعالى في الآية (185) من سورة البقرة : } شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ {.. نجده بعد أن يشرح الآية ، ويذكر ما في القرآن من هداية يقول : " هذا هو القرآن الذي سعد به المسلمون بحياة روحية هي المثال الأعلى للنفس الانسانية ، وبحياة جثمانية طاهرة بريئة ، وبحياة علمية لا يزال ما بقى من نورها يستمتع به الناس ، وهو موضع للعجب ، ومثار للإكبار والإجلال".
" سعدوا به حقبة ، ثم انحرفوا عنه فعاقبهم الله بما هم فيه من ذل وهوان ، حتى أصبحوا يخافون تخطف الناس لهم، وصاروا في حاجة إلى غيرهم في كل مرافق الحياة ، ووصل بهم الجهل إلى حد أن ظنوا أن كل ما عند غيرهم خير يجلب ، وكل ما عندهم شر ينبذ ، وأنه لا حياة لهم إلا بالقدوة.. القدوة حتى فيما علم غيرهم شره وفساده ، وحاولوا نبذه وطرحه ، وقد أصبح المسلمون مثلا سيئة للإسلام ، يحتج بهم عليه والدين منهم برئ".
" الدين يطلب رجالا صدقوا ما عاهدوا الله عليه ، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر ، رجالا باعوا أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ، رجالا خلقاء بأن يكونوا خلفاء عن الله في الأرض ، يعلمون سرها ، ويسخرونه للخير ودفع الأذى ، يدفعون عوادي الزمان بمناكبهم كأنهم بنيان مرصوص ، يعرفون للكرامة قدرها ، وللعزة موضعها ، ويميزون بين الأعداء والأصدقاء ، ويعلمون أن متاع الحياة الدنيا قليل ، وأن الآخرة خير وأبقى".[280]
وعندما تعرض لقوله تعالى في الآية (25) من سورة الحديد : } َقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ {.. الآية.
وجدناه يقول بعد ما شرح الآية : " ذكر الله – سبحانه – الكتاب والميزان والحديد وقرنها بعضها ببعض ، فالكتاب : إشارة إلى الأحكام المتقضية العدل والإنصاف . والميزان : إشارة إلى سلوك الناس على وفق هذه الأحكام . والحديد : إشارة إلى ما يحملهم على اتباع هذه الأحكام إذا تمردوا ، والله سبحانه – وهو العليم الحكيم – لا يضع للخلق من القوانين إلا ما فيه مصلحتهم ، وخيار الخلق تكفيهم تلاوة الكتاب وعلمه لاتباع ما فيه ، وغيرهم لابد له من وازع ، وهو سلطان الحاكم المشار إليه بالحديد ، ولذلك وجدت التعاذير في الإسلام ، ووجدت الحدود . أما ترك الناس أحراراً من غير وازع . فهو ضار بالمجتمع الإنساني ، وموجب للتراخي في إقامة العدل واتباع القانون، جرب هذا في العصور المختلفة، وقامت الشواهد الناطقة في العصر الحديث عليه . علم ان الأمم التي لم تحط أخلاقها بوازع ، انحدرت إلى الدرك الأسفل وأضلتها الشهوات وقد كانت درة عمر سلكا قويا للنظام الإسلامي فلما رفعت ضعف ذلك الرباط". [281]
ومثلا عند تفسيره لقوله تعالى في الآية (6) من سورة لقمان : } وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ {.. الآية ، نجده يقول "... من الناس فريق مؤمن بالقرآن إجمالا وبرسالة محمد ، ويعظمهما ويجلهما فإذا قلت له : لم لا تقطع يد السارق ؟ وتحد القاذف ؟ ولم لا تحكم القرآن في الحياة ونحن مؤمنون به ؟ هز كتفيه وابتسم ، أو زاد : إنها رجعية لا يحتملها تمدين العصر الحديث !!.. أليس هذا استهزاءاً بالآيات ؟ واشتراءاً للباطل ؟ وضلالا عن سبيل الله "؟
"هناك مقلدون للمذاهب في العقائد والأحكام ، إذا عرضت عليهم الآيات الدالة على فاسد مذاهبهم ، ولوا عنها وإن كانوا لا يسخرون بها، بل يسخرون بمن يعرضها ، أليس هذا شراء للباطل وبيعاً للحق بغير علم "؟.
" هناك مذاهب ابتدعت في الدين للضلال والإضلال بسبب السياسة ، وفسر مبتدعوها الآيات في التأويل ليردوها إلى مذاهبهم المبتدعة وجاء أتباعهم فقلدوهم".
" أما المبتدعون فأمرهم واضح .. اشتروا الضلالة بالهدى" ! ..
"وأما الأتباع فكان عليهم أن ينظروا في الآيات ويتدبروها عملاً بقوله سبحانه: } فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً { .. [282] فهم أيضاً اشتروا الضلالة بالهدى ولهم بعض العذر". [283]
ومثلا عند تفسيره لقوله تعالى في الآية (6) من سورة الحجرات : } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ { .. الآية ، نجده يقول: " ... وللتثبت في الأخبار فضيلة ليست كثيرة عند الناس ، وأكثر الناس يقعون في تصديق الأخبار من حيث لا يشعرون ، ولبعض مهرة الكاذبين حيل تخفى على أشد الناس تثبتا من الأخبار".
وكثيراً ما يقع عدم التثبت من العظماء الذين يملكون النفع والضرر يجيئهم ذلك : من ناحية استبعاد أن يكذب بطانتهم عليهم وهو مدخل للخطر عظيم".
" والذين هم في أشد الحاجة إلى العمل بهذه الآية هم الذين بيدهم مقاليد الأمور؟ وبيدهم الضر والنفع . أما الذين لا يملكون ضراً ولا نفعاً فحاجتهم إليها أقل من حاجة هؤلاء".
"والآية على العموم : أدب عظيم لابد منه لتكميل النفس ، وإعدادها لتعرف الحق والبعد عن مواطن الباطل ". [284]
***
_ توفيقه بين القرآن والعلم الحديث:
هذا .. وإن الأستاذ المراغي – رحمه الله – كان مع اعتقاده أن القرآن قدى أتى بأصول عامة ، لكل ما يهم الإنسان معرفته والعلم به ، يكره أن يسلك المفسر للقرآن مسلك من يجر الآية القرآنية إلى العلوم ، أو العلوم إلى الآية ، كي يفسرها تفسيراً علمياً يتفق مع نظريات العلم الحديث .
نعم.. كره الشيخ هذا المسلك في التفسير ، وجهر بخطأ أصحابه المولعين به ، وكرر هذا في مواضع كثيرة ، فكان مما قاله في بعض المواضع من دروسه في التفسير : "وجد الخلاف بين المسلمين في العقائد والأحكام الفقهية . ووجد عندهم مرض آخر هو الغرور بالفلسفة وتأويل القرآن ليرجع إليها ، وتأويله لبعض النظريات العلمية التي لم يقر قرارها ، وذلك خطر عظيم على الكتاب ، فإن للفلاسفة أوهاماً لا تزيد على هذيان المصاب بالحمى ، والنظريات التي لم تستقر لا يصح أن يرد إليها كتاب الله". [285]
ولكن الأستاذ المراغي مع هذا كله كان يرى أن يكون مفسر كتاب الله على شئ من العلم ببعض نظريات العلم الحديث ، ليستطيع أن يأخذ منها دليلا على قدرة الله ، ويستلهم منها مكان العبرة والعظة.
كان الشيخ يرى هذا ، ويعتقد أنه هو المسلك السليم لفهم القرآن الكريم ، فجهر به في أحد دروسه في التفسير فقال : " ليس من غرض مفسر كتاب الله أن يشرح عالم السموات ، ومادته وأبعاده ، وأقداره ، وأوزانه؟ لكنه يجب أن يلم بطرف يسير منه ، ليدل به على القدرة الإلهية ويشير إليه للعظة والاعتبار". [286]
ثم وجدنا الأستاذ المراغي بعد هذا يشرح قوله تعالى في الآية (10) من سورة لقمان : } خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ { شرحاً يقوم على هذا المبدأ الذي ارتضاه فقال : " خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا " .. السموات مجموع ما نراه في الفضاء فوقنا من سيارات ، ونجوم وسدائم وهي مرتبة بعضها فوق بعض تطوف دائرة في الفضاء ، كل شئ منها في مكانه المقدر له بالناموس الإلهي ونظام الجاذبية ، ولا يمكن أن يكون لها عمد والله هو ممسكها ومجريها إلى الأجل المقدر لها فإذا قيل : إن نظام الجاذبية وهو الناموس الإلهي قائم مقام العمد ويطلق عليه اسم العمد جاز أن نقول : إن لها عمداً غير منظورة وإذا لاحظنا أنه لا يوجد شئ مادي تعتمد عليه ، وجب أن نقول : إنه لا عمد لها ، وأقدار الأجرام السماوية وأوزانها أقدار وأوزان لا عهد لأهل الأرض بها والأرض نفسها إذا قيست بهذه الأجرام ليست إلا هباءة دقيقة في الفضاء.. ثم قال : قرر الكتاب الكريم أن الأرض كانت جزءاً من السموات وانفصلت عنها وقرر الكتاب الكريم أن الله } ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ {..[287]} وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى { .[288] . فهذا النجم قدرته على إشعاع الضوء تساوي قوة الشمس (26) مرة ، وقدرته على إشعاع الحرارة مثل قدرته على إشعاع الضوء ، فلو فرض أن الشعرى اليمانية حلت محل الشمس يوما من الأيام ، لانتهت الحياة فجأة ، بغليان الأنهار ، والمحيطات والقارات الجليدية ،التي حول القطبين ، وضوء الشعري اليمانية يصل إلينا بعد ثمان سنوات ، وضوء الشمس يصل إلينا بعد ثمان دقائق ، فانظر إلى هذا البعد السحيق". وهذا الذي قرره الكتاب الكريم هو الذي دل عليه العلم وقد قال العلماء : إن حادثا كونيا جذب قطعة من الشمس وفصلها عنها وإن هذه القطعة بعد أن مرت عليها أطوار تكسرت وصارت قطعا كل قطعة منها صارت سياراً من السيارات وهذه السيارات طافت حول الشمس وبقيت في قبضة جذبتها والأرض واحدة من هذه السيارات فهي بنت الشمس ، والشمس هي المركز لكل هذه السيارات ... فليست الأرض هي مركز العالم كما ظنه الأقدمون ، بل الشمس هي مركز هذه المجموعة والشمس وتوابعها قوى صغيرة في العالم السماوي ، وأين هي من الشعري اليمانية التي قال الله سبحانه فيها
" وليست الشعرى اليمانية أكبر نجم في السماء ، فهناك بعض النجوم قدرتها تزيد على قدرة الشعري أكثر من عشرة آلاف مرة ".
"وعظمة السماء ليست في الشمس وتوابعها ، كلا.. إن عظمتها في مدنها النجومية ، في أقدارها ، وأوزانها ، وأضوائها ، وأبعادها ، على اختلاف أنواعها".
" وهناك نجم يسمى الميرة أكبر من شمسنا بما يزيد عن ثلاثين مليوناً من المرات ، وهناك السدائم ، وهي قريبة من الخلق أول الأمر، ثم يقف علم الإنسان ، والله تعالى وحده الذي يعلم خلقه : } مَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ "..[289]
} وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ { .. أي خلق الجبال في الأرض لئلا تميد الأرض وتضطرب ، ولبيان هذا يمكن أن نقول باختصار : إن الأرض بعد انفصالها عن الشمس ، وعكوفها على الدوران حولها على بعد منها ، وصلت بعض موادها إلى حالة السيولة بعد أن كانت مواد ملتهبة كالشمس ، وتكونت عليها قشرة صلبة بعد تتابع انخفاض الحراية أحاطت بما في جوفها من المواد المنصهرة ، ثم تتابعت البرودة على القشرة فتجعدت ، وحدث من التجعد نتوءات وأغوار ، فالجبال الأولى نتوء القشرة الصلبة التي غلفت الأرض، وهناك جبال جدت عن اشتداد الضغط في الرواسب التي في قاع البحر ، وجبار نارية جدت من خروج الحمم النارية من وسط الأرض وتداخلها في الطبقات . حتى صارت كأوتاد مغروزة فيها".
"والجبال كلها تتحمل الضغوط الرسوبية على جدرانها ، وتوزعها ، وتغير اتجاهها ، وتكسر حدتها ، وتساعد بذلك على بقاء الطبقة المفككة الصالحة للإنبات ، والتي يتغذى بواسطتها الحيوان والإنسان ، وتحفظها من أن تمور".
" فالجبال أولا حبست النار في جوف الأرض ، وصيرت الأرض بعد ذلك صالحة للحياة ، والجبال توزع ضغوط الطبقات ، ثم بعد ذلك تكسر حدة العواصف والرياح ، فهي حافظة للأرض من الميدان الذي يجئ بأسباب من داخل الأرض، والذي يجئ بسبب العواصف والرياح ".. وهكذا مشى الشيخ إلى آخر الآية . [290]
***
_ حرية الرأي في تفسيره:
ثم إن الشيخ المراغي - رحمه الله – كان كغيره من رجال هذه المدرسة لا يتقيد بأقوال الأئمة ، ولا يقف عند مذهب مخصوص ، ولا يقول براي معين إلا إذا اقتنع به ، وإلا فلا عليه أن يتركه إلى ما هو صواب في نظره.
فمثلا عندما تعرض لقوله تعالى في الآية (184) من سورة البقرة : } فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ {.. نجده يقول بعد أن يذكر خلاف علماء الفقه في السفر المبيح للفطر : "وقد روى أحمد ومسلم وأبو داوود عن أنس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقصر الصلاة مسيرة ثلاثة أميال . وروى عن ابن أبي شيبة بإسناد صحيح أنه كان يقصر في الميل الواحد ، وإذا نظرنا إلى أن نص القرأن مطلق ، وأن كل ما رواه في التخصيص أخبار آحاد ، وأنهم لم يتفقوا في التخصيص ، جاز لنا أن نقول : إن السفر مطلقاً مبيح للفطر ، وهذا رأي أبي داوود وغيره من الأئمة". [291]
ومثلا عندما تعرض لقوله تعالى في الآية (27) من سورة لقمان : } وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ { ... الآية ، نجده بعد أن يبين أن عدد السبعة في الآية مراد به الكثرة يقول : "وعلى هذا يمكن أن يقال في أبواب النار ، أما الأبواب الثمانية للجنة ، فقد أريد بالزيادة فيها على النار أن يدل على أن مسالكها أكثر من مسالك النار ، لراحة أهلها ، وزيادة العناية بهم".
"وكذلك يقال في السموات السبع ، والأرضين السبع ، والعرب تذكر السبعة للكثرة ، وتذكر السبعين للكثرة كذلك ، ومنه } اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ {. [292]} ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ { . [293]. يراد في سلسلة طويلة هائلة ، ولا يراد التقدير بهذا العدد " [294]. والواقع أن هناك فرقا بين ما ورد من نحو قوله : استغفر لهم الخ وقوله : في سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً ، وبين ما ورد في عدة أبواب الجنة والنار ، وعدة السموات والأرض ، فإن الأول ذكر في مقام التهويل ، فلا يراد التحديد وإنما يراد الكثرة ، بخلاف الثاني فإنه ليس كذلك.. ومن المعلوم أن الله لا يغفر لهم في السبعين ، ولا في السبعة الآلاف ، ونظيره
ومثلا نجد الأستاذ المراغي في دروسه الأخيرة عندما تعرض لقوله تعالى في الآية (5) من سورة الملك } وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ {.. الآية ، يشرح كون النجوم رجوما للشياطين بما معناه : " أن ما في السماء من النجوم دلائل قاطعة على تمام قدرة الله تعالى ، فالله سبحانه وتعالى زين السماء الدنيا بهذه الكواكب ، وجعلها على هيئة مخصوصة ونظام محكم ، لتكون حججاً دامغة ، وأدلة قوية على من يجحدون قدرة الله وينكرون وجوده " . سمعناه يقول ما هذا معناه ، ثم يستدل على ما ذهب إليه بأنهم يقولون : "ألقمته حجراً " يعني أقمت عليه الحجة فلم يحر جواباً ، ثم يستشعر الشيخ بعد ذلك أن في القرآن آيات كثيرة تصادم هذا الفهم ، كقوله تعالى في الآيات (6-10) من سورة الصافات } إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ{6} وَحِفْظاً مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ{7} لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ{8} دُحُوراً وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ{9} إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ { .. وكقوله في الآيتين (8، 9) من سورة الجن } وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاء فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً{8} وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً { يستشعر الشيخ مصادمة هذه الآيات لرأيه فيقول ما معناه : " وهناك آيات أخرى في هذا المقام ، تبدو مخالفة لهذا المعنى ، ولكن يمكن حملها عليه ، وليس في الوقت متسع لذلك ، وسنعرض لها في موضع غير هذا".
ولست أدري كيف كان يستطيع الشيخ – رحمه الله – أن يحمل كل الآيات الواردة في هذا الموضوع على المعنى الذي قاله حملا صحيحاً ، وهي كما ترى صريحة في أن الشياطين كانوا يصعدون إلى السماء ويسترقون السمع ، ثم منعوا من ذلك عند رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ، فمن حاول منهم استراق السمع – كما كانوا يفعلون من قبل – رمي بشهاب من السماء فحال بينه وبين ما يريد .
وخاتمة المطاف في هذه الدروس التي ألقاها الأستاذ الأكبر في التفسير : أنه كان منها – كما قيل – أمران عظيمان لهما خطرهما في الحياة الدينية : كانت عاملا قوياً في توجيه المسلمين ونشئهم الطيب الطاهر إلى الجانب الديني ، ولفت أنظارهم إلى ما في كتاب الله من تشريع حكيم ، وأدب جم كريم ، وإرشاد قيم مفيد ، فحببت إليهم الدين ، وزينته في قلوبهم ، وهرعوا إليه يتعرفون حكمه وأحكامه ، ويتلمسون بها حياة طيبة ونهضة قوية ، أساسها الدين والخلق الكريم.
وكانت هذه الدروس أيضاً : منار هدى وإرشاد ، يلقى أشعته الوضاءة على عقول المشتغلين بتفسير القرآن ، فيضئ لهم الطريق الذي ينبغي أن يسلكوه في فهم كتاب الله ، واستخلاص آدابه وأحكامه ، خالصة مما جاورها من إسرائيليات وتأويلات أبعدت أهل الدين عن الدين ، وشغلتهم في تفسير القرآن بما لا يمت إلى روحه ومعناه ، وكذلك صورت الدين لغير أهله الذين يتحسسون له عيباً صورة لا تتفق وما له من جلال وجمال . [295]
هذا .. وإنا لنرجو للشيخ المراغي عند ربه ما كان يرجوه هو لنفسه من وراء مجهوده في التفسير وهو :
أن يضعه الله سبحانه في كفة الحسنات من ميزان أعماله ، وأن يجعله ضياء ونوراً يسعى بين يديه } يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم {..[296]
[1] أي العلماء الأربعة .
[2] انظر الغرق بين الغرق ص 266 والتبصير في الدين ص 83 .
[3] الأحزاب : 7
[4] النحل : 91
[5] راجع المواقف ج 8 ص 389 ، والفرق بين الفرق ص 282 وما بعدها .
[6] فضائح الباطنية ص 6
[7] الفرق بين الفرق ص 180 ، وبمثل وهذه العبارة يستدل أبو منصور البغدادي على أنهم دهريون .
[8] المواقف ج 8 ص 388 .
[9] المواقف ج 8 ص 390 .
[10] فضائح الباطنية للغزالي ص 12 .
[11] فضائح الباطنية ص 13 .
[12] الفرق بين الفرق ص 279 .
[13] الأسراء : 85 .
[14] الشعراء : 29 .
[15] النازعات : 24 .
[16] الشورى : 23 .
[17] الفرق بين الدين ص 87 .
[18] التبصير في الدين من 87 .
[19] التوبة : 128 .
[20] التبصير في الدين ص 87 – 88 .
[21] قريش : 3 .
[22] طه : 12 .
[23] الفرق بين لبفرق ص 288 .
[24] لما قامت الثورة المصرية سنة 1952 طردت جماعة البكدآشية من مصر وذلك لما ظهر من فساد حالهم وسوء فعالهم .
[25] ومن محاسن ثورة 23 يوليو سنة 52 ، طرد البهائيين من مصر ، والاستيلاء على مركزهم العام ، وتحويله إلى جمعية المحافظة على القرآن الكريم ، وقد تم ذلك في حفل عام سنة 1961 م .
[26] البابية والبهائية في واقع الأمر طائفة واحدة ، نسبت إلى الباب زعيمها الأول فقيل لها بابية ، ثم نسبت إلى البهاء زعيمها الثاني ، فقيل لها بهائية كما هو موضح بعد .
[27] وقع بين أتباع البهاء وأتباع أخيه الملقب بصبح ازل – وكان ممن رفض دعوى أخيه . وأتباعه يعرفون بالأزليه – فتنة في أدرنة ، فأمرت الحكومة العثمانية بابعاد الفريقين من أدرنة فنفت البهاء وأتباعه إلى عكا ، ونفت يحيى واتباعه إلى قبرص .
[28] لخصنا هذا البحث التاريخي من مقال لأبي الفضائل الايراني منشور بمجلة المقتطف الجزء التاسع ، السنة العشرين . ومن مقال السيد محمد الخضر حسين منشور بمجلة نور الإسلام – مجلة الأزهر فيما بعد – العدد الخامس من السنة الأولى .
[29] رسائل الإصلاح ج 3 ص 89
[30] روح المعاني ج 32 ص 29 .
[31] الكتاب ص 7 .
[32] المرجع السابق ص 9 .
[33] المرجع السابق ص 35 .
[34] رسائل الإصلاح ج 3 ص 99 .
[35] كتابة بهاء الدين ص 39 .
[36] رسائل الاصلاح ج 3 ص 99
[37] انظر مقال أبي الفضائل في المقتطف العدد التاسع من السنة العشرين ، وانظر المحاضرة التي القاها عبد العزيز نصحي عن الباهئيين بدار جمعية الهداية الإسلامية .
[38] رسائل الاصلاح ج3 ص 100 .
[39] الكتاب ص 33 .
[40] رسائل الاصلاح ج3 ص 100 .
[41] المرجع نفسه .
[42] الكتاب ص 83 .
[43] رسائل أبي القضائل ص 126 – 127 .
[44] الحديد : 13 – 15 .
[45] رسائل أبي الفضائل ص 138 – 139 .
[46] رسائل أبي الفضائل ص66 .
[47] البرسام بكسر الباء : علة يصحبها هديان .
[48] مفتاح باب الأبواب ص 312 .
[49] الكتاب ص 83 .
[50] رسائل الإصلاح ج3 ص 103 .
[51] كتاب بهاء الله ص 97 .
[52] مقدمة ابن خلدون ص 522 .
[53] دائرة المعارف للبستاني المجلد السادس ص 133 .
[54] دروس في تاريخ الفلسفة للدكتور مدكور ، ويوسف كرم ص 140 .
[55] كشف الظنون ج1 ص 150 .
[56] محمد : 35 .
[57] الفصوص ج1 ص 26 .
[58] تفسير ابن عربي ج1 ص 51 .
[59] تفسير ابن عربي ج2 ص 280 .
[60] الفصوص ج1 ص 50 .
[61] الفصوص ج1 ص 191 - 193 .
[62] تفسير ابن عربي ج 1 ص 141 .
[63] الفتوحات ج4 ص 119 .
[64] الأنبياء : 47 .
[65] الفتوحات ج3 ص6 .
[66] الفتوحات ج4 ص 115 .
[67] انظر الموافقات ج 3 ص 382 – 383 .
[68] البخاري باب التفسير ج 6 ص 179 .
[69] تفسير الألوسي ج6 ص 60 .
[70] الانعام : 38 .
[71] الموافقات ج3 ص 394 .
[72] تفسير القرآن العظيم للتستري ص 14 .
[73] الأحقاف : 20 .
[74] تفسير القرآن العظيم للتستري ص 16 – 17 .
[75] الإتقان ج 2 ص 184 .
[76] الإتقان ج 2 ص 184 .
[77] مبادئ التفسير للخضري ص9 .
[78] فصلت : 40
[79] تفسير الآلوسي ج 24 ص 112 .
[80] تستر بضم التاء الولى ، وسكون السين المهملة ، وفتح التاء الثانية : بلد من الاهواز .
[81] انظر وقيات الاعيان ج1 ص 389 .
[82] صفحة 3 .
[83] صفحة 7 ولملك تجد في هذه العبارة ما يؤكد ما قلناه من أن الكتاب من وضع أحد تلاميذه : أبو بكر محمد بن أحمد البلدي .
[84] صفحة 60 .
[85] صفحة 106 .
[86] صفحة 120 .
[87] رجعنا في هذه الترجمة إلى طبقات المفسرين للسيوطي ص 31 ، وإلى طبقات الشافعية للسبكي ج3 ص 60 – 62 .
[88] صفحة 1 ، 2 .
[89] طبقات المفسرين ص 31 .
[90] طبقات الشافعية للسبكي ج3 ص 61 .
[91] المرجع السابق .
[92] منهاج السنة ج4 ص155 .
[93] صفحة 1 .
[94] صفحة 49 .
[95] صفحة 138 .
[96] صفحة 212 .
[97] صفحة 344 .
[98] صفحة 385 .
[99] صفحة 22 .
[100] صفحة 23 .
[101] الأنعام : 59 .
[102] فصلت : 11 .
[103] يس : 23 : 40 .
[104] الإنبياء : 30 .
[105] الرعد : 41 .
[106] القمر : 1 .
[107] الطلاق : 12 .
[108] النحل : 15 ، لقمان : 10 .
[109] الرعد : 8 .
[110] الأنبياء : 30 .
[111] المؤمنون : 12 .
[112] يس : 36 .
[113] طه : 53 .
[114] الحج : 5 .
[115] الرعد : 3 .
[116] الفرقان : 45 .
[117] يس : 42 .
[118] الفيل : 3 .
[119] الفيل : 4 .
[120] صفحة 23 – 25 .
[121] صفحة : 108 .
[122] غافر :15 .
[123] صفحات 113 ، 114 ( هامش ) مطبعة الاستقامة سنة 1359 هـ .
[124] وهنا نرى المؤلف يغلق على قوله هذا يذكر بعض ما نقلناه عن طبائع الاستبداد للكواكبي من استخراج بعض العلوم من القرآن الكريم .
[125] فصلت : 53 .
[126] صفحات 124 – 126 .
[127] صفحة 1 .
[128] صفحة 1 .
[129] صفففحة 121 .
[130] صفحات 13- 15 .
[131] ولد سنة 1287 هـ ( 1870م ) وتوفى سنة هـ ( 1940 م ) . عن كتاب الإعلام للزركلي ج3 ص333 ، 334 ط ثانية أ هـ . وفي كتاب الإعلام الشرقية للأستاذ " زكي مجاهد " ج2 ص 116 ، 117 ط القاهرة : أنة توفي في سنة 1359 هـ ( 1939 ) وفيه نظر .
[132] رجعنا في هذا إلى مقدمة الكتاب وخاتمته وجمعناه ملخصا .
[133] الجواهر ج3 ص19 .
[134] القيامة : 19 .
[135] الجواهر ج25 ص 40 .
[136] الجواهر ج 25 ص 53 .
[137] الجواهر ج1 ص 66 ، 67 .
[138] الجواهر ج2 ص 10 ، 11 .
[139] الأسراء : 14 .
[140] القيامة : 14 .
[141] الجواهر ج 3 ص9 .
[142] الجواهر ج10 ص 64 ، 65 .
[143] أول سورة النحل .
[144] الجواهر ج10 ص 199 .
[145] الجواهر ج 24 ص 17 .
[146] الجواهر جح 24 ص27 .
[147] الجواهر ج 25 ص 249 – 251 .
[148] الجواهر ج25 ص 269- 273 .
[149] الأنعام : 38
[150] تفسير المنار ج1 ص 7 .
[151] الإسلاموالطب الحديث ص ( د ) .
[152] المرجع نفسه ص3 .
[153] انظر مجلة الإيمان العدد الثاني من السنة الثانية سنة 1354هـ .
[154] الحج : 52
[155] النحل : 127 .
[156] الكهف :6
[157] م: 53
[158] طه : 43 ، 44 .
[159] آل عمران : 159 .
[160] الشعراء : 215 .
[161] مجلة الإيمان العدد الثالث من السنة الثانية سنة 1354 هـ .
[162] صاحب الرد المفحم هو أستاذنا العلامة الشيخ السيد محمد الخضر حسين ، وقد نشره في مجلة الهداية الإسلامية .. العدد العاشر والثاني عشر من المجلد السابع ، والعدد الثاني والثالث والرابع من المجلد الثامن .
[163] هذا المقال المشار إليه يوجد بالعدد الخامس من السنة السادسة ( سنة 1973 م)
[164] المائدة : 38 : 39 .
[165] النور : 2 .
[166] الأعراف : 31
[167] السياسة الأسبوعية ص 6 من العدد السادس من السنة السادسة ( فبراير سنة 1937 م ) .
[168] خير من رد عليه أستاذنا السيد محمد الخضر حسين في مجلة الهداية الإسلامية العدد السابع من المجلد التاسع 0 مارس سنة 1973 م ) .
[169] مجلة الإيمان السنة الخامسة العدد 21 ص 11 .
[170] مجلة الإيمان السنة الخامسة العدد 24 .
[171] الرعد : 17 .
[172] صفحة ( ب ) .
[173] صفحة ( ج ) ، ( د ) .
[174] صفحة 281 .
[175] الحشر : 7 .
[176] صفحة 161 .
[177] صفحة 290
[178]صفحة 290 .
[179] صفحة 297 .
[180] صفحة 206
[181] صفحة 45
[182] صفحة 97
[183] صفحة 44
[184] صفحة 239
[185] صفحة 239
[186] صفحة 131
[187] صفحة 290
[188] صفحة 126
[189] صفحة 126
[190] صفحة 256
[191] صفحة 257
[192] صفحة 257
[193] صفحة 297
[194] صفحة 297
[195] صفحة 297
[196] ص 289، 299
[197] صفحة 219
[198] صفحة 7
[199] صفحة 105
[200] صفحة 209
[201] صفحة 297
[202] صفحة 256
[203] صفحة 359
[204] صفحة 88
[205] صفحة 274
[206] صفحة 61
[207] المرجع السابق
[208] صفحة 455
[209] صفحة 267
[210] صفحة 455
[211] صفحة 37
[212] البقرة : 278
[213] البقرة : 279
[214] البقرة : 280
[215] البقرة : 275
[216] صفحة 38
[217] صفحة 53
[218] صفحة 113
[219] صفحة 150
[220] صفحة 455
[221] العدد الثالث والرابع من المجلد الثاني من مجلة نور الإسلام ( الأزهر سنة 1350 هـ ) .
[222] ص 140- 160
[223] انظر مقدمة ابن الصلاح في علوم الحديث ص 14- 35 .
[224] ولد في سنة 1282هـ وتوفى في سنة 1354هـ .
[225] اختصرنا هذا الموضوع من مقدمته تفسير المنار ج1 ص 10- 15 .
[226] ج2 ص 498 .
[227] المحدث بهذا هو الأستاذ عبدالرحمن عاصم من مقال كتبه عن حياة الشيخ رشيد بالعدد 12 من السنة الخامسة من مجلة نور الإسلام .
[228] انظر تفسير المنار ج6 ص 196 .
[229] من قال نشره الأستاذ عبد الرحمن عاصم عن الشيخ رشيد في مجلة نور الإسلام السنة الخامسة العدد 12 سنة 1354 هـ .
[230] تفسير المنار ج1 ص 17
[231] تفسير المنار ج1 ص10
[232] تفسيرالمنار ج4 ص42
[233] تفسير المنار ج1 ص46
[234] كان الشيخ رشيد ينشر ما يكتبه في التفسير تباعاً بمجلته " المنار " ثم جمع ما كتب في كتاب واحد وهو تفسيره المتداول بين أهل العلم .
[235] تفسير المنار ج3 ص 98 – 99 . وراجع أيضا ما كتبه عن قتل العمد ج5 ص 339 – 345 .
[236] النازعات : 5
[237] تفسير المنار 332 .
[238] تفسير المنار 145 ، 146 .
[239] تفسير الم ص311 .
[240] انظر تفسير سورة الفلق من مجموعة تفسير الفاتحة وست سور من خواتيم القرآن ص 129-134 .
[241] تفسير سورة الناس من مجموعة تفسير الفاتحة وست سور من خواتيم القرآن ص 141 .
[242] انظر تفسير المنار ج7 ص 516 .
[243] المرجع السابق ( هامش )
[244] تفسير المنار ص96 .
[245] تفسير المنار ج11 ص333 وانظر الوحي المحمدي للمؤلف ص 69 ، 70 مطبعة المنار سنة 1345 هـ .
[246] انظر القول الفصل ص 163 .
[247] نيل الاوطار للشوكاني ج6 ص 40 المطبعة العثمانية سنة 1375 هـ .
[248] تفسير المنار ج1 ص 141
[249] تفسير المنار ج5 ص 118- 122
[250] انظر ما عقببه على الزمخشري وغيره من المفسرين الذين فسروا الركون : بالميل اليسير في قوله تعالى في الأية ( 113 ) من سور
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
الإدارة
الإدارة
Admin

رقم العضوية : 1
عدد المساهمات : 974
نقاط : 25671
تاريخ التسجيل : 24/06/2011
العمر : 33

الكتاب الاسطورة مناهج المفسرين  Empty
مُساهمةموضوع: رد: الكتاب الاسطورة مناهج المفسرين    الكتاب الاسطورة مناهج المفسرين  I_icon_minitimeالسبت أغسطس 20, 2011 1:33 pm

الكتاب الاسطورة مناهج المفسرين  Post-2-1143412486
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://sane3maerof.mam9.com
 

الكتاب الاسطورة مناهج المفسرين

استعرض الموضوع التالي استعرض الموضوع السابق الرجوع الى أعلى الصفحة 

 مواضيع مماثلة

-
» كتاب ( الوجيزفي علوم الكتاب العزيز )
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
شبكة ومنتديات صانع المعروف :: طريق الإسلام  :: المكتبة الإسلامية-