يوسف الصديق وامرأة العزيز وحبها المُحرّم
من باب الرحمة المهداة، ومن بين ثنايا الكلمات النورانية التي جاء بها كتاب الله، كان دخولنا على علاقات إنسانية لنساء ورجال ورد ذكرهم في القصص القرآني..
قصص نلمح فيها المودة والرحمة، نرى فيها كيف يتغلب الإنسان بالحب على كل مصاعب الحياة وتقلبات الدهر..
فيها علاقات جمعها الله على الحب، وأخرى فرقها الله بالحب..
قصص نتعلم منها أن الحب مطلوب، ونحن نعيش الحياة..
ومطلوب حتى ونحن نفارق من عاشرناهم في هذه الحياة..
*************************
قصة
يوسف الصديق وامرأة العزيز
هي قصة من القصص التي تكشف عن الوجه السيئ للمشاعر بين الجنسين، فعندما تثور مشاعر ما، فعلى العقل أن يتدخل لمعرفة مدى مشروعية هذه المشاعر وأحقيتها بالخروج، وعلى الضمير أن يوقفها عند حدها إذا كانت غير مشروعة، لكن هذا ما لم تفعله زوجة منحها الله تعالى المُلك والجمال والرفعة، فلم تصن هذه النعم فكان نصيبها العار والفضيحة، وفي المقابل عندما يرفض شاب هذا الجمال والملك ويراقب الله كما يراقبه يكون الخير الكثير ورضوان الله هو الجزاء العادل وهذه هي قصة سيدنا يوسف مع امرأة العزيز:
قال تعالى: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتْ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ، وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ، وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنْ الْكَاذِبِينَ، وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنْ الصَّادِقِينَ، فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ، يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنْ الْخَاطِئِينَ}.
يذكر تعالى ما كان من مراودة امرأة العزيز ليوسف عليه السلام عن نفسه، وطلبها منه ما لا يليق بحاله ومقامه، وهي في غاية الجمال والمال والمنصب والشباب، وكيف غلّقت الأبواب عليها وعليه، وتهيّأت له، وتصنّعت ولبست أحسن ثيابها وأفخر لباسها، وهي مع هذا كله امرأة الوزير، وبنت أخت ملك مصر.
وهذا مع أن يوسف عليه السلام شاب بديع الجمال والبهاء، إلا أنه نبي من سلالة الأنبياء، فعصمه ربُّه عن الفحشاء. وحماه عن مكر النساء حين دعته المرأة إليها وحرصت على ذلك أشد الحرص، فقال: {مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي}. يعني بقوله "ربي" أي سيدي ويقصد زوجها صاحب المنزل لأنه "أَحْسَنَ مَثْوَايَ" أي أحسن إلي وأكرم مقامي عنده.
ثم هرب منها طالباً الباب ليخرج منه فراراً منها، فاتبعته ووجدا زوجها عند الباب، فادّعت المرأة عليه زوراً، واتهمته بوجود نية سيئة منه تجاهها؛ اتهمته وهي المتهمة، وبرّأت نفسها، ونزّهت ساحتها، فدافع نبي الله يوسف عليه السلام عنه نفسه وقال: "هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي".
وهنا شهد شاهد من أهلها فقال الله حاكيا عنه: {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنْ الْكَاذِبِينَ}؛ أي لأنه يكون قد راودها فدافعته حتى قطعَت قميصه من الأمام، {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنْ الصَّادِقِينَ}؛ أي لأنه يكون قد هرب منها فاتّبعته وتعلّقت فيه فانشق قميصه لذلك، وكان هذا هو ما حدث. ولهذا قال تعالى: {فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} أي هذا الذي جرى من مكر النساء، راودته امرأة العزيز عن نفسه. ثم اتهمته بالباطل.
ثم سامحها زوجها، فقال: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} أي لا تذكره لأحد، لأنَّ كتمان مثل هذه الأمور هو الأليق والأحسن، وأمرها بالاستغفار لذنبها الذي صدر منها، والتوبة إلى ربِّها.
لكن الأمر لم ينتهِ عند هذا الحد حيث تحدثت نساء المدينة عن القصة، نساء الأمراء، وبنات الكبراء، وتمادين في اتهام امرأة العزيز، والتشنيع عليها، في مراودتها فتاها، وحبها الشديد له، وهو لا يساوي هذا؛ لأنه مولى من الموالي، وليس مثله أهلاً لهذا، فلما سمعت امرأة العزيز بقولهن وبتشنيعهن عليها والتنقص لها والإشارة إليها بالعيب، وعشق فتاها، وهي معذورة في نفس الأمر، فلهذا أحبت أن تعطي العذر لنفسها أمامهن، وتتبيّن أن هذا الفتى ليس كما حسبن، وليس كغيره من الغلمان والموالي.
فأرسلت إليهن فاجمعتهن في منزلها، واستضافتهن وأحضرت في جملة ذلك شيئاً مما يُقطع بالسكاكين، وأعطت كل واحدة منهن سكّيناً، وكانت قد هيّأت يوسف عليه السلام وألبسته أحسن الثياب، وأمرته بالخروج عليهن بهذه الحالة، فخرج وهو أحسن من البدر لا محالة. فلما رأينه بهرهن حسنه، حتى اشتغلن عن أنفسهن وجعلن يحززن في أيديهن بتلك السكاكين، ولا يشعرن بالجراح {وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلا مَلَكٌ كَرِيمٌ}.
وقد أوتي يوسف عليه السلام نصف الحسن، وقال ابن مسعود: كان وجه يوسف مثل البرق، وكان إذا أتته امرأة لحاجة غطَّى وجهه. ولذا بعد أن انبهرت النساء بيوسف قالت لهن امرأة العزيز ملتمسة لنفسها العذر فيما فعلته: }قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} ثم مدحته بالعفة التامة فقالت: {وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ} أي امتنع {وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَن مِنَ الصَّاغِرِينَ}.
ولكن بقية النساء حرّضنه على السمع والطاعة لسيدته فرفض بشدة، لأنه من سلالة الأنبياء، وفضّل السجن على الفحشاء، ودعا ربه قائلا: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنْ الْجَاهِلِينَ}. يعني إن وكلتني إلى نفسي فأنا ضعيف، إلاّ ما قويتني وعصمتني وحفظتني وأحطتني بحولك وقوّتك.
فاستجاب له الله دعاءه وصرف عنه كيد النسوة، وقال تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}، ثم يذكر الله تعالى عن العزيز وامرأته أنهم حتى بعد ما علموا من براءة يوسف رأوا أن يسجنوه إلى وقت، ليخرسوا ألسنة الناس في الحديث عنهم في تلك القضية، وليُظهروا أنه هو من راودها عن نفسها، فسجن بسببها، ولهذا سجنوا يوسف الشريف ظلماً وعدواناً.
وكان هذا من عصمة الله لنبيه، أنه أبعده عن معاشرة هؤلاء القوم السيئين وصرف عنه مخالطتهم.
مكث يوسف في السجن ما شاء الله له أن يمكث ثم كانت مشيئة الله له أن يظهر براءته وأمام الجميع، فبعد بضع سنين قضاها نبي الله في السجن رأى الملك في المنام رؤيا أعجزت كل علماء التفسير والفلك أن يجدوا لها تأويلا حتى تذكر أحد من كان مع يوسف في السجن وأتاهم بتأول رؤيا الملك من يوسف، ثم أراد الملك تأويل قصة النسوة اللاتي قطعن أيديهن، وهكذا ظهرت براءة يوسف عليه السلام وأكرمه الملك، وحين ظهر الحق أنكر النسوة أي سوء على يوسف، واعترفت امرأة العزيز بأنها كانت من راودته عن نفسه ولكنه استعصم، قال تعالى: {قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين}، فصدّقته واعتذرت عما فعلت بحقه.
ثم منّ الله على نبيه بالملك والحكمة والجاه والعفو والرضوان في الدنيا والآخرة، وقد كان يوسف مثلا في العفة والخوف من الله وكان سيد من انطبق عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.. وذكر منهم: وشاب دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله"..
وهكذا يضرب لنا القرآن مثلا من أروع الأمثلة التي تعلمنا أن من الحب ما قد يذهب بنا إلى ما يغضب الله طمعا في إرضاء مشاعرنا ولإخماد نيران شهواتنا، وأن القيمة الحقيقية تكون في الإنصات لصوت ضمير يوقف هذه المشاعر عند حدها. وهكذا كان يوسف عليه السلام مثالا للعفة الكاملة والطهارة التي لا تشوبها شائبة.